محمد عبد الرازق
حسن لم يعد صديقنا، أو ربما لم نعد نحن أصدقاؤه.
لم نعرف سبب الجفاء، كل ما عرفناه هو انسحابه من وسطنا بالتدريج حتى أصبح غريبا،ثم انسحب فجأة. حدث ذلك بعد أنهى خدمته العسكرية بقليل. عاد في آخر إجازة، بعد مدة طويلة من الغياب في الصحراء الشرقية، كانت الشمس قد لوحت بشرته الجميلة، ودب الاصفرار في شعره الفاحم الكيرلي. تقابلنا في المقهى المعتاد، وتناقشنا النقاش المعتاد، حول الماتشات والكتب والسينما والبنات. لكنه لم يقل أي كلمة، استمع بإطراق أكثر منه إنصاتا، وقد التهم نصف علبة سجائر. كان ينفث الدخان بحزن شاعري، يرفع ذقنه قليلا، ويزم شفتيه بهدوء، وينفخ ونظره معلق بنقطة بعيدة تحمل شيئا لا يراه أي واحد فينا.
عندما سكتنا جميعا ومددنا الأيدي إلى الهواتف، بكى حسن. لم يصدر أي صوت، فقط دمعت عيناه وتقلصت ملامحه، وظل ينفث دخان السجائر لفوق. حاولنا أن نفهم سبب بكائه، لكنه، تركنا واختفى في بحر الشارع.
انضم حسن لشلتنا الصغيرة بالصدفة. كان يجلس يوميا على كرسي في المقهى في انتظار طويل. في مرة عندما أخرج من حقيبته رواية لباولو كويلو، رأيناه فتبادلنا الابتسامات والنقاشات فيما بيننا واتهمناه أنه مدعي أو مصطنع ليقرأ هكذا في العلن على مقهى لا ينتمى لمقاهي المثقفين. بعدها قام ليلحق بموعده، سأله واحد منا ساخرا: ما بتتبضنش من اللي بتقراه ده! صدمه السؤال فقرر أن يجلس ويفهم ما الذي يبضن فيما يقرأ. وهكذا صار حسن صديقنا، فتح قلبه لنا، وفتحنا قلوبنا ومكتباتنا وعلب سجائرنا فيما بعد. صار الأخف ظلا والأكثر نهما في القراءة بيننا، لم يكن الصديق الحميمي لأي منا، لكنه كان الصديق المثالي في كل الأوقات. في أي وقت تراودك الرغبة في الجلوس على المقهى وتعفير بعض الدخان، أو قراءة صفحتين ومناقشة شخص ما، لن يتبادر إلى ذهنك شخص غيره، لأنه موجود دوما.
عندما عرفناه، كان في عامه الجامعي الأخير. أصغر منا جميعا بثلاثة سنوات، وأكثر اقتحاما للحياة وتصالحا مع نفسه. كنا نلتقي كل يوم بعد المغرب ونجلس إلى أن تمل الشوارع منا، لكنه لا يأتي إلا بعد الساعة الثامنة، ريثما يفرغ من تمرين السباحة، لأنه الشيء الوحيد الذي كان يقدسه في الحياة، مع أمه العجوز، والكتب فيما بعد.
تسرب إلى الشلة بهدوء، أشبه بنسمة ترطب صهد علاقاتنا ببعض، أو أنه المَزّة التي تضبط مرارة جلساتنا الروتينية. رغم أنه فيالبداية تضايق من هزارنا بالشتائم دون مبالاة، وحرائق السجائر في أفواهنا، لكنه حافظ على جلسته في الكرسي الذي اختاره على طرف الجلسة، يستمع بهدوء، ويبتسم بصفاء، ويتكلم بعدما يفرغ الجميع، يستمع إلى مخاوفنا كأنه أخانا الأكبر، ويقول في النهاية: لا داعي للخوف لأن كل المخاوف أمان. احتضننا ببرائته تلك، وظللنا طويلا نندم على سخريتنا الأولى منه.
لم يتحدث حسن عن مخاوفه إطلاقا، سوى مرة يتيمة، قال أن أكثر ما يقلقه في المستقبل هو الفراق. كان قد أنهى الجامعة، وجهز ورق الجيش وسمع السلاح. ليلتها ظللنا نغني له واد يا عبد الودود، بنشاز مجروح، وضحكات مبحوحة، تطغى على كل المخاوف.
في ظلام الفجر حمل حقيبته ورحل، دون أن يسمح لنا بتوديعه.
ظللنا لشهرين لا نسمع عنه خبرا، حتى ظهر على قمة الشارع بعد الساعة الثامنة. جلس في كرسيه المعتاد والتقم سيجارة بسرعة، وسط اندهاشنا واعتراضنا أن التدخين لا يصلح مع السباحة. لكنه سحب الأنفاس بعنف وقال: ك** السباحة. كان جيشه في مكان معزول في الصحراء، نقطة بعيدة عن كل شيء، في مبنى وحيد وخارج عن الزمن، ليس فيه سوى عشرة مجندين وصف ضابط. لم يفهم حسن عندما وصل ما المطلوب منهم؛ ربما حراسة الفراغ.
صارت إجازاته التالية متباعدة جدا، وفي كل مرة كنا نشعر بخراب شيء ما في نظرته، افتقد اللمعة القديمة، كأنه خواء. صرنا نعد له الأيام حتى ينتهي تجنيده، ونتمنى لو نعرف تفاصيل أيامه حتى ندرك ما حصل له. لكنه صادق الصمت بدلا عنا.
بعد ليلة بكائه بأسبوع فوجئنا به يقتحم جلستنا وبيده حقيبة كبيرة، وضعها على الطاولة بيننا وفتحها، كانت محشوة بكل كتبه. وزع الكتب علينا، وعلى بقية الجالسين حولنا. اكتشفنا أنه كتب على الصفحة الأولى لكل كتاب تاريخ اقتنائه وتاريخ قرائته وذكرياته معنا ومع الكتاب. فرق ذاته علينا ورحل. قمنا بسرعة في أثره لنلحق به، كان قد اختفى تماما من الشارع. ظللنا واقفين وسط الشارع ولم نرجع لجلستنا، لم نعرف هل سنراه مجددا أم لا. تبادلنا نظرة خزي وكأننا نتباظل التهمة ولا يقو على حملها أحد.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
روائي وقاص مصري
اللوحة للفنان الكندي آندرو سالجادو بعنوان blue rainbow
روائي وقاص مصري
اللوحة للفنان الكندي آندرو سالجادو بعنوان blue rainbow