آمال صبحي
في رواية “فوق رأسي سحابة” الصادرة مؤخرًا عن دار العين، تتخذ دعاء إبراهيم من السرد أداة للحفر في الذاكرة، فتأتي الشخصيات محمولة على طبقات من الألم، وتتحرك داخل بنية روائية تبني على التداعي لا على التسلسل. الراوية ليست بطلة بالمعنى التقليدي، إنها شبح يروي لنفسه كي لا يتبدد، امرأة لم تجد اسمًا يحميها، تنام على ملاءة صفراء وتستيقظ على صدى النعق، وتمضي عمرها تمسك بالخيط بين الحياة والموت دون أن تقطع أحدهما. جسدها هو خريطتها الوحيدة، تكتشف من خلاله خيانة العائلة وعبث الرجال وغياب الأم، وتحوله إلى سجلّ حيّ يُدوّن فيه الآخرون رغباتهم ويتركون بصماتهم بعرقهم ونظراتهم وبقعهم الداكنة، كما قالت:
“كنت سمكة صغيرة بين أسنان سمكة أكبر”،
ولم تكن تعرف أن النجاة تحتاج مهارة لم تُمنح لها.
يتحرك السرد في الرواية من الداخل إلى الخارج، يتبع إيقاع الذاكرة لا منطق الحدث. الفصل الأول يبدأ بجملة: “لا وقت للكذب”، ثم ينحدر مباشرة إلى اعتراف خافت: “استيقظت على منقار طائر يثقب رأسي”، ومن هنا تُنسج الحكاية بصوت يئنّ تحت وطأة الزمن، لا يلجأ إلى البطولة ولا يتطلب الغفران. تعتمد الكاتبة على التكرار كأداة إيقاعية، تردد الراوية جملة “ستموتين اليوم” أكثر من مرة، بصيغ مختلفة، فتقول مثلاً: “عارفة يا ماما.. إنك هتموتي النهاردة”، لتصنع تمهيدًا لانهيار داخلي يقود إلى لحظة مواجهة بين الابنة والمريضة، بين الممرضة والضحية، بين الطفلة والموت الذي لم يمت بعد. هذا التكرار لا يخدم الإلحاح، بل يكشف التواطؤ بين الداخل والخارج، بين الغراب الذي ينعق، واليد التي تتردد ثم تُخفي الدواء في قبضة أصابعها.
الأم ليست شخصية مُحايدة، تأتي محمّلة بثقل الماضي وعبء الخيارات، تظهر أولًا كجسد ممدد ينتظر “برشامة الذبحة الصدرية”، ثم كأنثى قميصها القرمزي لا يزال يحمل “رشة برفان رخيص تحت الإبطين”، ثم كوجه مألوف في لحظة الاحتضار، لا تطلب الغفران بل الجرعة المعتادة. لا تنجو من المحاكمة، ولا تنجح في الدفاع عن نفسها، فهي من فتحت الباب لخال يأتي ويغرز أصابعه في طفلة ترتعش، “كان الموج هو الذي ألصق جسده بصدري”، وهي من تضحك في البحر بينما السمكة تُبتلع، وهي من هجرت ثم استسلمت ثم انهارت.
الخال يظهر في مشهد واحد ثم يتكرر ظله في جسد الحارس، في كلمات الطبيب، في نظرات الأب، يصبح نواة الخوف التي تتناسل منها كل الوحوش. لا يتحدث كثيرًا، لكن صوته يعلق في جسد الراوية، يترك إصبعًا في الماء، ورائحة لا تزول، “بين فخذيَّ شامة، وربما لمحها خالي ورآك داخلي”. الأب شخصية ضبابية، يحضر متأخرًا، يستقبلها في المطار دون عناق، يقول جملة واحدة “كبرتي”، ثم يكمل الصمت، كما لو أن الأبوة كلمة تُقال مرة واحدة وتنتهي. وجوده لا يمحو أثر الغياب، ولا يخفف عبء الذاكرة، فتقرر الراوية أن تتعامل معه كما تتعامل مع الغراب: تراقبه من بعيد، ولا تصدق أي جناح يُلوّح لها.
طريقة السرد توزّع المشاهد كأنها شظايا مرآة، نرى جزءًا من الطفلة تحت السرير، وجزءًا من المرأة فوق السرير الياباني، وجزءًا ثالثًا داخل غرفة المستشفى، والجميع يحملون الاسم نفسه، والملامح نفسها، والسؤال نفسه: “ليه أنا؟!” لا تتوقف الرواية عند ذروة، ولا تبحث عن خاتمة، فهي رواية تنمو حول الندبة. يتنقّل فيها القارئ بين المشاهد كما لو أنه يفتّش في درج مظلم، كل سطر يكشف عن طبقة جديدة من الخوف، وكل جملة تحمل أثر ما لا يمكن قوله. في مشهد ختامي تُحقن الأم بمادة شفافة، وتقول الراوية: “جلست جوارها قاطعة كل المسافات بجناحين كبيرين”، هذه الصورة تكثف طريقة السرد كاملة، فهي تدمج التخييل بالواقع، وتسمح للصورة أن تحلّ محل التحليل. لا يُحسم القتل، ولا تُمنح النهاية، إنما يترك الخط المرسوم على شاشة جهاز القلب كأنها توقيع أخير على حكاية لم تنتهِ: “لاب داب… لاب داب… ثم سكون”.
رواية “فوق رأسي سحابة” تنسج شخصياتها من خيوط رمادية، لا تُفرّق بين الحي والميت، ولا بين الجاني والضحية، تقدم الراوية كأرض مشروخة تنبت فيها الكوابيس، وتعرض الأم كصدى بعيد لصوت لم يُسمع في وقته، وتجعل من السرد نفسه أداة للمقاومة، وللبوح، وللهدم أيضًا. لا تترك في القارئ إحساسًا بالراحة، إنما تورثه أثرًا يشبه وقع القدم على أرض موحلة، كلما حاول التقدم غاص أكثر.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
روائية وناقدة سورية