فضاء الذاكرة وفضاء المنزل في مجموعة”المنزل”

فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

نرمين هيكل

كتاب “المنزل” لوليد خيري هو رحلة أدبية داخل جدران البيت وخارجه، لكنها في الحقيقة رحلة أعمق داخل ذاكرة الإنسان نفسه، تأتي مجموعة “المنزل” للكاتب وليد خيري كعمل أدبي يختزل التجربة الإنسانية في فضاء ضيق لكنه ممتد الدلالات: فضاء المنزل. فالمنزل هنا ليس مجرد مكان للسكن، بل رمز مركب للحياة والذاكرة والهوية، ومختبر للعلاقات الإنسانية في أعمق تجلياتها.

قسّم الكاتب المجموعة إلى ثلاثة أقسام:
داخل المنزل: حيث يواجه القارئ صورًا متشابكة من الطفولة، الأم، الأب، الأخ، الجدة، وخزانة الأسرار الصغيرة التي تسكن تفاصيل البيت.
خارج المنزل: انتقال إلى العالم الأوسع، لكنه يظل مرتبطًا بالبيت من خلال الذاكرة والحلم والخيال.
منازل الآخرة: حيث يذوب الحدّ بين الواقعي والمتخيل، ويظهر الموت كامتداد طبيعي لحياة بدأت من داخل جدران البيت.

هذا التقسيم يمنح النصوص تدرجًا سرديًّا من الحميمي إلى الكوني، ومن الخاص إلى الوجودي.

لغة خيري تتأرجح بين السرد الواقعي التفصيلي (كما في قصة “أخي” أو “جدتي”) وبين النزعة الرمزية والغرائبية (كما في “غرفة النوم”)
الجمل قصيرة غالبًا، لكنها محملة بالإيحاء، ما يجعل النصوص أقرب إلى شذرات شعرية تلتقط تفاصيل الحياة اليومية وتحوّلها إلى صور دلالية عميقة.

البيت في هذه المجموعة هو المستودع الأول للذاكرة:
المصلى، أبواب الغرف، طاولة الغُسل، وحتى غرفة ضيقة شهدت موت الأب.
كل تفصيلة تتحول إلى أيقونة تحمل معنى: بين الطفولة والبراءة، الحنين والفقد، الحب والخيانة، وحتى الموت والتحول.
الكاتب يعيد إنتاج “المنزل” كـ ميتافورا للوجود الإنساني: بدايته ونهايته، دفئه وبرودته، صدقه وخداعه.

الأم، الأب، الأخ، الخال، الجدّة… ليست مجرد شخصيات ثانوية، بل أعمدة ذاكرة. يقدمها خيري بعين الطفل أحيانًا وبصوت الراوي الناضج أحيانًا أخرى.
اللافت أن هذه الشخصيات كثيرًا ما تنكسر أمام القارئ بصورة إنسانية هشة، مثل الأب الذي يضحك حتى الموت، أو الأخ “البرنس” الذي يجسد الجانب النفعي البارد في مقابل حساسية الراوي.

المجموعة لا تكتفي بالواقعية، بل تميل إلى تجريب الغرائبي والسريالي:
الرجل الذي يقتل دميته “لولي”.
الصراصير التي تتحول إلى حركة اجتماعية لها حقوق.
الكلب الذي يصدق أن “الكلاب تطير”.

هذه القصص تجعل “المنزل” مساحةً للتأمل في عبثية الواقع وتهكم الكاتب على المجتمع المعاصر، حيث تختلط الحقيقة بالوهم، والعادي باللا معقول.

تكمن قوة المجموعة في التقاط التفاصيل الصغيرة وإعادة شحنها بطاقة رمزية كبرى، وفي المزج بين الحميمي والعام. إنها كتابة تعكس وعيًا حداثيًا بالقص القصير، يتجاوز الحكاية المباشرة ليطرح أسئلة عن الموت، العائلة، الذاكرة، والهوية.

“المنزل” ليس فقط مجموعة قصصية عن بيت بل عن البيت كوجود إنساني. وليد خيري ينجح في تحويل الأشياء اليومية… باب غرفة، طبق فول سجادة صلاة … إلى علامات لغوية تكشف هشاشة الإنسان أمام الفقد، ورغبته في الخلود عبر الذاكرة. إنها مجموعة قصصية تمزج الحنين بالتهكم، الواقعية بالسريالية، والحميمي بالكوني، لتصوغ رؤية عميقة عن معنى أن نكون في “منزل” قديم أو في منزل الآخرة!

“المنزل” كتاب عن البيت كرمز للحياة: بدايةً ونهايةً، ضحكًا وبكاءً، واقعًا وحلمًا، 
وقفت فيه مع العديد من الجمل مثل: 

“كل صباح أبكي حتى تبتل سجادة صلاتي بأن يرزقني الله كتابةً جميلة لهذا اليوم.” 

“ولأن الرجل يُبعث على ما قد مات عليه، فإذا ما رأيتم يوم تُبعثون رجلًا يصلح لعب أطفال فاعرفوه؛ إنه أبي.” 

“في اليوم الذي ماتت فيه جدتي، لم يتغير في الغرفة شيء سوى أنها غادرت فراشها للأبد.” 

“كلما جمّرت الخبز على البوتاجاز، ظهر أبي وأعدّ لنا الإفطار.”
“الغرفة الضيقة كانت صغيرة، لكنها حملت موت أبي وبداية روايتي”

“كنت أتمنى أن أكبر سريعًا لأحصل على حلوى الكبار، مثل جدتي” 

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
كاتبة مصرية، المجموعة صادرة عن دار العين 2025

مقالات من نفس القسم