الفـأر من مجموعة “بحرٌ لا ينشَق”

بحر لا ينشق
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

عبد الله محمد

أشدُّ اللحاف على صدري البردان، وأتكوَّر مثل جنينٍ في رحم أمِّه، وأحلم بكوابيس مخيفةٍ كالعادة؛ كلبٌ يركض خلفي، وضابطٌ يقبض عليَّ بدون سببٍ واضحٍ، ودمٌ يسيل من فتحةٍ في وجهي، وجماعةٌ يضربونني ويتهمونني بما ليس فيَّ، وبكاءٌ حتَّى  الغرق، وطريقٌ مظلمٌ لا تظهر فيه غير أعينٍ لحيواناتٍ متحفِّزةٍ، وهوَّةٌ عميقةٌ يأتي منها صوت صراخٍ..

أقوم مفزوعًا!

الغرفة مظلمةٌ. والصراخ خلف الباب. أنظر حولي غير واعٍ بعد. وأرتدي نظَّارتي التي لا أرى بدونها. أقوم من السرير على مهلٍ حتَّى لا أصطدم بالكرسيِّ الموضوع في منتصف الغرفة الضيِّقة، والذي أجلس عليه عادةً عندما أذاكر. يتكرَّر الصراخ. هذا أخي! أفتح الباب بسرعةٍ ظانًّا أنَّ الفرن انفجر فيه..

ها هو كالأبله يضحك ويصرخ في نفس الوقت، ثمَّ يقول معلنًا استيقاظي بنبرته التهكُّميَّة، مناولًا إيَّاي الممسحة: “جاءنا من سيقتل الفأر!” أغلق الباب في وجهه متأفِّفًا. أعود إلى السرير واضعًا النظَّارة فوق الكومود كما كانت، وأشدُّ اللحاف على صدري مرَّةً أخرى.

كم أكرهه!

لا أستطيع النوم مرَّةً أخرى. صوت أمِّي يأتي من خلف الباب قائلةً: “لن أدخل المطبخ إلَّا إذا أخرجتموه أو قتلتموه!”، وأخي يقول ضاحكًا: “الفأر كبير ويقفز على الحائط، ابن القردة!”، أخاف أن يدخل عليَّ الغرفة، ستكون مصيبةٌ بلا شكَّ؛ أنظر ناحية الباب المغلق، أدقق لأرى بدون النظَّارة. يطمئنُّ قلبي؛ لن يستطيع الدخول من هذا المكان الصغير بين الحائط والباب.

  • افتح ريشة الشفَّاط، يمكن يخرج كما دخل..

تقول أختي مقترحةً.

أفكِّر: لا بدَّ أنَّ أبي في الخارج، لا أسمع له صوتًا. أغمض عينيَّ محاولًا النوم، لكن، كلَّما ظهر الفأر لهم صرخوا، وركضوا، وضحكوا، فأفزع في كلِّ مرَّةٍ. أفكِّر في جملة أخي التهكُّميَّة -عليه اللعنة، يحب دائمًا أن ينغِّص عليَّ صفوي- وأتساءل بجدِّيَّةٍ تامَّةٍ: لمَ لا أقوم الآن، وأقتل الفأر فورًا!

لمَ لا؟

لمَ لا أصبح بطلًا ولو لمرَّةٍ واحدةٍ!

ضرب جرس الفسحة، فصرخنا في صوتٍ واحدٍ: “هيييه”، وخرجنا من الفصول، وركضنا في الممرَّات، وقفزنا على السلالم. وفي حوش المدرسة، قبل أن نجتمع ونبدأ اللعب، صفعني أحدهم على قفاي، فشعرتُ بنارٍ تشتعل في أذني، وقبل أن ألتفت، ركض الضارب بسرعةٍ كالعرسة!

إسلام ممدوح. عرفتُه من بنطلونه المعفَّر، وقفاه المحروق. هذا الطفل البغيض الذي لم أحبُّه قطُّ في أيِّ وقتٍ من الأوقات، بل أمقتُه من كلِّ قلبي، وأخافه على الرَّغم من صغر حجمه؛ فاكتفيتُ بالبكاء. وعندما رآني أصحابي أمسح عينيَّ وأنفي في كمِّ القميص، سألوني عمَّا حدث، فأخبرتهم عن قفاي الذي صار في لون الطماطم؛ فعزموا عند الخروج من المدرسة على ضرب ذلك الولد، ابن الكلب، وأخيه الكبير؛ حتَّى  لا يجرؤ أحدٌ على فعل ذلك مرَّةً ثانيةً. وعلى رأي المثل: اضرب الكبير يخاف الصغير.

يجلس أخوه الكبير دائمًا خارج المدرسة مع أصدقائه، ينتظر انتهاء اليوم الدراسيِّ ليطمئنَّ على أخيه الصغير، إسلام، وبدء الفترة المسائيَّة في المدرسة الإعداديَّة المجاورة ليدخل هو وأصدقاؤه ويندسُّون في الطابور.

عندما خرجنا من المدرسة، انتظرنا خلف بائع الفشار بجوار البوَّابة -كما اقترحتُ عليهم- حتَّى  خرج إسلام ممدوح راكضًا ناحية أخيه دون أن ينتبه لنا.

وبدأت المعركة فورًا، لكن، سرعان ما اختفيتُ أنا!

لمَ لا؟

جاءت الفرصة أخيرًا لأصبح بطلًا. سأقوم الآن، وأطلب من أخي الأبله أن يسخِّن ماءً حتَّى  الغليان؛ سوف أسلخ ذلك الفأر القذر، ثم أضربه بالممسحة ثلاث ضرباتٍ أو أربعًا، دون أن يرفَّ لي جفنٌ، ها هو كأنَّه يموت أمام عينيَّ.

نعم، سوف أصبح بطلًا، ولمَ لا؟

عادةً ما يجلس المتشرِّدون العاطلون أمام مدرسة أحمد لطفي السيد العسكريَّة الثانويَّة. يأخذون كلَّ ما يتزيَّن به الأولاد في المدرسة، إلَّا أنَّهم لم يعترضوا سبيلي من قبل، والحمد لله. على كلِّ حالٍ، أنا لا أحبُّ هذه الأشياء بتاتًا، عدا ذلك العقد الذي يشبه السبحة، المحيط بعنقي؛ والذي أهدتني إياه فتاةٌ يمنيَّةٌ لطيفةٌ تعيش في شارعنا، فقرَّرتُ الاحتفاظ به لحفظ الودِّ بيننا.

أوقفني أحدهم -لأوَّل مرَّةٍ منذ دخولي المدرسة- وكان رأسه يشبه قلقاسةً ضخمةً. وقال وهو يشير ناحية عنقي:

ــ عندي بكرة فرح، وسأعيده لك بعد بكرة..

ــ لن تمسَّه مهما حصل!

أخرج مطواةً قرن غزالٍ، وفتحها بسرعةٍ لتزغرد في أذني، فارتجفتُ ضاحكًا. عرفتُ أنَّه لن يعيد العقد الذي يشبه السبحة، لا بعد بكرة ولا غيره. أخبرتُه أني كنتُ أمزح فقط، وأعطيتُه العقد، وطلبتُ منه أن يحتفظ به ليتذكَّرني..

ــ أهه، أهه، أنا شفتُه، اضربه بسرعة!

ــ اختفى ورا البوتجاز ابن القردة!

أصواتهم تزعجني جدًّا؛ صياح أختي، وانفعال أخي. أكلُّ ذلك من أجل فأرٍ؟ سأقوم الآن وأقتله. سأقتله بكلِّ بساطةٍ.

أخيرًا، سأصبح بطلًا كما يجب!

ــ اللهمَّ إنِّي صمتُ وعلى رزقك أفطرتُ..

أذَّن المغرب، وبدأت أمِّي وأختي في وضع الإفطار، وقام أبي ليصلِّي المغرب قبل حتَّى أن يمسك كوب الماء، وأنا وأخي جالسان على الكنبة نشاهد التلفزيون ونشرب عصير الخشاف. وبعد لحظةٍ من جلوسنا حول الطعام، وقبل أن يمدَّ أحدٌ يمناه، سمعنا صياحًا وشتائم أسفل العمارة، فقالت أمِّي بفضولها المعتاد: “شكلها خناقة كبيرة!”، وقامت لتنظر من وراء الستارة هي وأختي.

ذهبتُ تجاه الشبَّاك غير مبالٍ، ناظرًا من خلاله، متأمِّلًا المنظر لوهلةٍ، ثمَّ، صحتُ متفاجئًا: “جمال!”، وركضتُ ناحية الباب، وقفزتُ على السلالم، حتَّى  وصلتُ إلى باب العمارة.

لم تجد غير تاجر المخدَّرات يا جمال!

سرعان ما وجدتُ نفسي وسط الخناقة مع صديق الطفولة، وها هو تاجر المخدَّرات يتحوَّل إليَّ ويلطمني، وها أنا لا أستطيع ردَّ اللطمة. حاولتُ الكلام، لكنه رفسني في بطني فعدتُ خطواتٍ إلى الخلف.

ــ عيب يا فوزي، نحن إخوة!

ــ اخرس يا ابن الكلب..

حتَّى السباب لم أستطع ردَّه!

جاء والد جمال، ولطمني هو الآخر، وأمرني بالطلوع، دافعًا ظهري ناحية العمارة كما فعل مع ابنه منذ لحظةٍ.

ــ أهه، انظر، فوق، على الماسورة.. خرج، خرج من عند الشفَّاط، اقفله بسرعة.

غير معقولٍ، مستحيلٌ..

خرج الفأر قبل أن أقتله!

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قاص مصري، والمجموعة تصدر عن دار المرايا ..معرض القاهرة الدولي للكتاب 2025

مقالات من نفس القسم

موقع الكتابة الثقافي art 14
Uncategorized
موقع الكتابة

انتحار