هناك أصوات تتردد في الصباح قبل أن يفتح الفجر عينيه، أصوات قد تبدو للوهلة الأولى غريبة ، لكنها تصنع للحياة معنى أو تُخطفها.
من هذه الأصوات بدأت رواية عزت القمحاوي، حين استُدعي سامي يعقوب من قبل سالم المقتول، ابن أم الغلام، إلى السرايا، إلى المكان الذي اختلط فيه الدم بالمطر، والألم بالقهر. كانت البداية ناعمة في ظاهرها، لكنها شديدة الوجع في وقعها، مثل حجر يسقط في ماء ساكن ويوقظ موجًا لا يتوقف.
في تلك السرايا القديمة، حيث يلتقي الماضي بالحاضر على نسمات الريح وأقدام الحيوانات، يبدأ سامي رحلته بين ما يختبئ تحت قشرة الحياة وما يكشفه الموت من صدقٍ صامت.
رواية «بخلاف ما سبق» للكاتب عزت القمحاوي هي رحلة صوفية في قلب الأرض، في قلب الإنسان، في قلب الخسارة التي تتكرر بلا رحمة.
منذ اللحظة التي استُدعي فيها سامي من قبل سالم المقتول ابن أم الغلام، نجد أنفسنا أمام عالم حيث الموت والحياة، الحب والخيانة، والغضب والرحمة متشابكة في كل زاوية، في كل شعرة على ظهر الحيوان، في كل شجرة من شجر السرايا.
تكمن فكرة الرواية في هذا الصراع بين إرث الماضي وعبء الحاضر، بين الطفولة المفقودة والمسؤولية التي تكبر مع كل جيل.
سامي، مهندس الإلكترونيات الذي اعتزل العالم كله، يُستدعى فجأة إلى حياةٍ لم يعرفها إلا في المسلسلات، ليكتشف حقائق عن عائلته، ويجد نفسه بين الطبيعة والبهائم والموت المفاجئ. يمثل هذا التوازن الرقيق الذي يفرضه العالم، عالم لا يترك إلا القليل لمن يعرف كيف يراقب الصمت.
كل شخصية في الرواية — أم الغلام، حمادة، صلاح، نعمة، عبد السلام، رفقة، فريدة، فهيم — هي رمز لشيء أكبر: الخوف، الغدر، الحب، أو الثأر، وكلها تتشابك في أرض واحدة، في قلب واحد من الذاكرة.
اللغة في الرواية حية، كل جملة تتنفس بصدق. حين يراقب سامي الحملان الصغيرين المرضى، يصف الكاتِب اللحظة فيقول :
“كان أحد الصغيرين واقفًا يتشمم أخاه المستلقي كأنما يستنهضه، عينا المستلقي ثابتتين، وخط إفرازات مخاطي يخرج من منخاريه سائلًا إلى شدقيه… فجأة سكن الحمل تمامًا؛ فامتلأت عينا سامي بالبكاء. الموت، أقسى ما في الوجود، إنسانًا كان الميت أو خروفًا.”
تتصاعد الأحداث مع تدخل الأخوة وخصومات الجوار، ومع مشاهد الحياة اليومية في المزرعة حمادة الذي يعمل بملامح لا يعتريه أي انفعال، وأم الغلام التي تواصل إصرارها على حكم الأرض والأحفاد، وسامي الذي يحاول أن يوازن بين واجبه تجاه المزرعة وحياته وحبه لفريدة وتكوين أسرته والحفاظ على سلامتهم، وبين نبوءته الغامضة بغرق حمادة في النيل.
الأحداث المتشابكة تكشف عن شبكة العلاقات الموروثة والخفية ليكتشف أن صلاح عمه وربما عامله سمعان أيضًا
“رباط الدم بيني وبين صلاح أهم من دم المجحوم. صلاح ابني، راضع من صدري أمه نجية بنت خالتي، وكنا نتزامل في الشغل نحط العيلين في الظل...”
هنا، تكمن قوة الرواية في مزج الواقع الاجتماعي بالرحم الأسطوري للأرض، حيث الثأر والحياة والموت جزء لا يتجزأ من نسيج المكان.
الرموز تتقاطع مع التفاصيل اليومية الأرض تمثل الاستمرارية والسلطة، الحيوانات انعكاس للضعف والخوف، الشجر حارس الصمت، والسرايا مرآة للمجتمع بكل تناقضاته. والحدث الفاصل — وفاة أم الغلام ودفنها في المكان الذي اختارته — هو ذروة التماهي بين الإنسان والأرض، بين الحياة والموت، بين الماضي والحاضر.
لكن الرموز تمتد أعمق من ظاهرها. فالنيل ليس مجرد ماء يجري، بل ذاكرة الغسل والعقاب والتطهير. نبوءة الغرق، كأنها حكم الطبيعة على من نسي وصاياها.
أما البهائم، فليست مخلوقات في الهامش، بل مرايا للإنسان في ضعفه، في ولادته وموتِه الصامت. والسرايا، بكل ما فيها من أسرار وأموات وميراث، ليست مكانًا فحسب، بل ضمير الرواية، قلبها الذي يدقّ على وقع الماضي، حيث كل باب يُفتح يكشف بابًا أقدم منه.
الرمز الأكبر يظل الأرض نفسها، الأم الأولى، المانحة والآكلة، التي تمنح الحياة بقدر ما تستردها.
الحياة الاجتماعية تتشابك مع القانون والجوار والسياسة، كما يظهر في مشهد مواجهة سامي مع أمين عسكر:
“لو لم أشترِ من مصطفى كان سيبيع لشخص آخر، ويمكن لأخوته أن يبدأوا بيعًا بالقيراط ونصف لغلابة مثلهم يبنون مساكن عشوائية… بيني وبينك، كلهم محتاجون وسيبيعون لي تباعًا الثلاثة…”
الرواية بذلك تطرح سؤال العدالة، والتملك، والسيطرة على الأرض، وتترك القارئ أمام سؤالٍ أشد مرارة: ماذا يحدث حين تصبح الأرض مرآة لكل الصراعات الإنسانية؟
وبين الحكاية الصغيرة والكبيرة، بين الحب والخسارة، تتكشف صلات الشخصيات بعضها ببعض، في تفاصيل دقيقة من زواج سامي وفريدة، ومن معركة الأرض مع ورثة أم الغلام، إلى ضغوط الجيران والخصوم وإجراءات المحكمة والقضاء، كلها تجسد نسيج الحياة المتشابك، حيث لا يمكن فصل المشهد عن الشعور، ولا الموت عن استمرار الحياة.
وفي نهاية الرواية، يبقى سامي وعائلته بين السرايا والأرض، بين الصغار والموت، يحمل كل ما عاشه، وكل ما فُقد، كظل طويل يمتد مع غروب الشمس.
الأرض لا تسامح، ولا يتوقف الزمن عند فقدان واحد، لكنها تترك للذين يمشون عليها فرصة أن يُكملوا الحكاية. وكل شيء، من أول ضحكة إلى آخر أنين، يصبح ذاكرة حية، وشاهدًا صامتًا على أن الحياة، رغم قسوتها، تستمر بصبر رهيف… مثل قلب سامي، مثل قلوبنا جميعًا.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الرواية صادرة عن الدار المصرية اللبنانية مطلع 2025، وتعد امتدادًا لرواية “ما رآه سامي يعقوب” الصادرة 2019