ياسر ثـابت
في رحلاته وأسفاره، وصف الرحالة العربي أبُو عَبْدِ اللّٰهِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللّٰهِ بْنِ مُحَمَّدٍ اللَّوَاتِيّ الطَّنْجِيّ المعروف بابْنِ بَطُّوطَة (24 فبراير 1304 – 1369م) تفاصيل مثيرة عن تلك الأسفار التي جاب فيها أقطارًا عدة من قارة آسيا وإفريقيا وأوروبا ولمدة 28 عامًا.
خرج ابن بطوطة من طنجة في شهر رجب عام 725 هـ بهدف حج بيت الله الحرام ومرَّ على عدد من مدن المغرب العربي طوال شهري شعبان ورمضان حتى وصل إلى تونس وهناك أظله عيد الفطر المبارك.
ويصف احتفال أهل تونس بالعيد قائلًا: «أظلني بتونس عيد الفطر فحضرت المصلى وقد احتفل الناس لشهود عيدهم وبرزوا في أجمل هيئة، ووافى السلطان أبو يحيى راكبًا وجميع أقاربه وخواصه وخدام مملكته مشاة على أقدامهم في ترتيب عجيب… ».
ويكمل الرحالة العربي مسار رحلته عبر الشمال الإفريقي حتى وصل إلى مصر، وذكر أن ثاني شهر رمضان يهل عليه أثناء رحلته للحج كان وهو في مدينة «أبيار» في دلتا مصر حيث حضر مع قاضي المدينة «عز الدين المليحي الشافعي» يوم الرّكبة أي يوم رؤية هلال رمضان.
ويؤرخ ابن بطوطة لتقاليد الاحتفال بليلة الرؤية في مصر عام 727 هـ حيث يجتمع فقهاء كل مدينة أو قرية وعلية القوم بها بعد عصر يوم 29 شعبان في دار القاضي ومنها إلى مكان مرتفع في خارج المدينة في موكب ضخم يحفه النساء والصبيان لرؤية هلال الشهر الكريم[1].
وتصادف يوم وصوله إلى مدينة دمشق يوم التاسع من رمضان، ويذكر من فضائل الدمشقيين في الشهر الكريم أنه لا يتناول أحد من أهلها الإفطار وحده البتة فالأمراء والقضاة يدعون أصحابهم والفقراء للإفطار معهم، في حين يجتمع العامة في دار أحدهم أو في مسجد ويأتي كل واحد بما عنده فيفطرون معًا.
ويورد ابن بطوطة موقفًا فاضلًا لمدرس المذهب المالكي في دمشق نور الدين السخاوي معه في رمضان، حيث دعا ابن بطوطة للإفطار عنده إلا أن الأخير اعتذر لإصابته بحمى شديدة فبعث في طلبه واستضافه إلى يوم عيد الفطر وأمر بإحضار طبيب إلى أن استرد ابن بطوطة عافيته وشفاه الله وبدأ في التحرك مع الركب الحجازي قاصدًا مكة.
ويسهب ابن بطوطة في وصف مكة المكرمة بجبالها وأبوابها والكعبة المشرفة وأبواب المسجد الحرام والحجر الأسود وغيرها من المشاعر المقدسة علاوة على عادات أهلها في شهر رمضان حيث يبدأ الاحتفال به مبكرًا منذ غرة رجب حيث يقول: «إذا هلَّ هلال رجب أمر أمير مكة بضرب الطبول والبوق، ويخرج في أول يوم منه راكبًا ومعه أهل مكة فرسانًا ورجالًا وكلهم بالأسلحة يلعبون بين يديه ويسير الجميع إلى الميقات ومنه إلى المسجد الحرام للصلاة ركعتين ثم يُقبِّل أمير مكة الحجر الأسود ويشرع الجميع في الطواف سبعة أشواط وعندما يكمل الأمير شوطًا يندفع المؤذن الزمزمي «رئيس المؤذنين» الذي يكون أعلى قبة زمزم بالدعاء والتهنئة بدخول شهر رجب..».
وإذا هَلَّ رمضان تضرب الطبول عند أمير مكة وتجدد الحصر في المسجد الحرام ويتضاعف عدد الشمع والمشاعل وتتفرق الأئمة فرقًا هي الشافعية والزيدية والحنفية والحنبلية ويجتهد كل فريق في قراءة القرآن وإحياء ليالي رمضان.
وفي وقت السحور يردد المؤذن الزمزمي الأدعية ويرد عليه المؤذنون في سائر مآذن المسجد الحرام الخمس فإذا قرب الفجر انطفأت القناديل وبدأ الأذان، وكان من عادة أهل مكة في تلك الآونة أن لديارهم أسطحًا، فمن بعدت داره عن المسجد الحرام يبصر انطفاء القناديل في أعلى المآذن فيبدأ الصوم.
وبعد أداء شعائر فريضة الحج خرج من مكة وتوجه إلى العراق مارًا بالكثير من المدن والحواضر ومنها الكوفة وبغداد وأصفهان. وعاد مرة أخرى إلى مكة للحج عام 728 هـ حيث أقام بها لمدة عامين وخرج منها قاصدًا اليمن ثم مقديشيو «عاصمة الصومال حاليًا» وزار شرق إفريقيا ثم ركب البحر مرة أخرى متجولًا في مدن الخليج العربي وعاد للحج للمرة الثالثة عام 732هـ ومن مكة انطلق إلى صعيد مصر ومدن الشام ومن مدينة اللاذقية بحرًا سافر في «قرقورة كبيرة» -يقصد مركبًا- إلى بلاد الروم وبر الأتراك.
وهَلَّ عليه شهر رمضان في بداية جولته في بلاد الروم في بلده «أكريدور» فكان إفطاره في ضيافة سلطانها أبو إسحاق بك بن الدندار بك وذلك أن أهل تلك البلاد يتناولون في بداية الإفطار «الثريد»، وهو عبارة عن عدس يسقى بالسمن والسكر، تبركًا بالرسول صلى الله عليه وسلم.
وفي عيد الفطر يخرج أهالي مدينة «لاذق» إحدى حواضر بلاد الروم حاملين الأسلحة في موكب ضخم ومعهم الأبقار والغنم والخبز فيذبحون البهائم بالمقابر ويتصدقون بلحومها قبل صلاة عيد الفطر[2].
ومن طريف ما تعرَّض له ابن بطوطة في مدينة بلغار ـ مدينة الصقالبة في الشمال من البحر الأسود ـ أن أذان العشاء فيها حَلَّ أثناء إفطاره المغرب وطلع الفجر عقب صلاة العشاء والتراويح فورًا وذلك لأنها بلاد شديدة البرودة قصيرة الليل شتاء وقصيرة النهار صيفًا.
وفي بلاد السلطان محمد أوزبك، سلطان الترك، اضطر إلى تناول لحوم الخيل التي كانت أكثر ما يتناوله أهل تلك البلاد.
ثم تابع ابن بطوطة رحلته شرقًا مارًا بخوارزم وبخارى وسمرقند وترمذ وخراسان حتى وصل إلى كابول عاصمة الأفغان.
ووصل ابن بطوطة إلى الهند عام 734هـ حيث عاش فيها فترة طويلة وتقلد منصب قاضي دلهي حاضرة ملك الهند والسند وقد وصف بإسهاب بالغ موكب خروج السلطان محمد شاه بن غياث الدين تغلق ملك الهند والسند إلى صلاة العيدين فيذكر أن في يوم العيد تزين الفيلة في السلطنة بالحرير والجواهر ويخصص للسلطان ستة عشر فيلًا ترفع عليها مظلات حريرية مرصعة بالجواهر وذات قوائم من الذهب الخالص ويمشي بين يديه عبيده ومماليكه ووراءه القضاة والوزراء ورجال السلطنة. وفي عيد الأضحى ينحر السلطان جملًا برمح يسمونه «النيزة».
وإذا عاد السلطان للقصر تبدأ مباهج وأفراح العيد، حيث يجلس على سرير ذهبي في حديقة قصره ويتوافد عليه الولاة من أركان السلطنة للتهنئة بالعيد وفي يد كل واحد منهم صرة بها دنانير ذهبية مسكوكة باسمه ويلقيها في إناء ذهبي يوزع السلطان منه على الوافدين والغرباء والفقراء.
تُوقد في القصر المبخرة العظمى وهي برج مصنوع من الذهب الخالص كما يرش فتيان القصر ماء الورد والزهر على عامة الهنود.
في عام 743 هـ أبحر في مهمة رسمية إلى بلاد الصين محملًا بالهدايا من ملك الهند والسند إلى ملكها وتعرَّضت رحلته لأهوال جسيمة أدت إلى ضياع الهدايا وتعرُّضه للأسر، وقد مرَّ عليه شهر رمضان في مدينة هنور -في جنوب الهند حاليًا- ومن حسن طالعه أن سلطانها كان مسلمًا فكان يدعوه للإفطار معه برفقة الفقهاء وكبار رجال المدينة ووصف طريقة تقديم الإفطار، حيث تحضر مائدة نحاسية عليها صحاف مثلها وتأتي جارية حسناء ملتحفة بثوب حريري فتقدم قدور الطعام بين يدي السلطان فتبدأ بالأرز أولًا وعليه السمن والفلفل والزنجبيل والليمون والمانجو المملحة يليه الدجاج والسمك ويختم الإفطار باللبن الرائب.
ويذكر ابن بطوطة أنه أمضى في هنور وجزائر ذيبة المهل «جزر المالديف» وسري لانكا وبلاد المليبار ثلاث سنوات لا يأكل فيها إلا الأرز ولم يذق الخبز قط فيها حتى صار لا يستسيغ الأرز.
وفي جزر «ذيبة المهل» التي كانت تحكمها السلطانة خديجة بنت السلطان جلال الدين أرسل إليه وزيرها بكسوة للخروج معه في موكب عيد الفطر. ويصف ابن بطوطة المشهد بأن الطريق من دار الوزير إلى المسجد تزين وتفرش وتغرس نخل النارجيل «جوز الهند» وأشجار الموز على جانبي الطريق وتمد بينها شرائط ملونة، وإذا مرَّ موكب الوزير على أحد المنازل يخرج صاحبه ويرمي أمام الوزير ثوبًا حريريًّا أو قطنيًّا وبعضًا من الودع «عملة البلاد حينذاك».
وسافر بعد ذلك إلى سيلان «سري لانكا» وزار فيها جبل سرنديب الذي يزعم أهلها أن به أثر قدم سيدنا آدم عندما هبط من الجنة إلى الأرض وواصل بن بطوطة رحلته إلى بلاد بنجالة وبلاد المعبر «إندونيسيا وبنغلاديش» حتى وصل إلى الصين.
وقد عاد ابن بطوطة إلى بلاده في عام 750 هـ، ومن الطريف أن ذلك كان في بداية شهر رمضان المعظم وقد انطلق منها مرة أخرى في رحلة إلى بلاد الأندلس وإلى إفريقيا.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
فصل من كتاب ثورة المائدة – يصدر عن دار المحرر .. معرض القاهرة للكتاب 2025
[1] ابتهال سيد علي، ابن بطوطة: يصوم رمضان، مجلة «العربي»، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت، العدد 493، ديسمبر 1999.
[2] المصدر نفسه.