حنان سليمان
على مدار ما يقرب من ثلاث ساعات، وفي ساحة روابط، تابعتُ العرض المسرحي «بحلم وأنا صاحي» في موسمه الأول أواخر نوفمبر الماضي. حرّك العنوان في ذاكرتي مطلع أغنية حسن الأسمر “بحلم” (1994): بحلم وأنا صاحي يرجع حبيب عيني. غير أنّ “حبيب العين” في هذا العرض ليس شخصًا واحدًا، بل عدة وجوه تتقاطع داخل رأس البطل الأول.
يبدأ العرض بشجار تفتعله سارة مع زوجها حسن، وهي مُثقلة بحزن فقدان جنينها. فيستيقظ داخله سيل من الأسئلة المؤجلة عن السعادة في حدث صاعد، وتتكاثف مخاوفه حول علاقاته الأقرب: زوجته، أبواه الراحلان، صديقه القديم. نسمع أفكاره مونولوجًا متدفقًا على طريقة تيار الوعي، وهو يحاور نفسه، أو ظلّه، أو قرينه، وتمثيلات هذا الخيال المتوالية في خط موازٍ لخط الواقع.
وعلى صعوبة تجسيد تيار الوعي مسرحيًا، وجد المخرج محمد سمير حلًّا بصريًا وجماليًا في شخصية مستقلة اسمها “خيال” تتحرك في منطقة التمثيل، تحاور حسن وحده، تتأمله، وتعيد تشكيل واقعه من جديد أن “ماذا لو”. قدّمها المخرج نفسه بخفة وذكاء أيقظا ضحك الجمهور، وخلقا ارتباكًا حول طبيعة الشخصية: أهي خيال؟ أم شيطان؟ أم جزء غامض من ذات البطل؟

ينتمي العرض المقدم باللهجة العاميّة إلى المسرح النفسي (Psych Theatre) أو الدراما النفسية (Psychodrama)، وهو نوع علاجي درامي أسّسه النمساوي الأمريكي جاكوب ليفي مورينو، يُوظّف التمثيل كوسيلة لتفريغ الانفعالات النفسية، ومواجهة الذات عبر محاكاة الواقع. يقول المخرج في كلمة مكتوبة داخل كتيب العرض: “يمنحني الخيال الأمل والراحة المؤقتة… لكنه يُبقيني عالقًا في دوامة أوهام لا أعرف كيف أتحرر منها”. فالعرض إذن هو محاولة مسرحية للتخلص من شبكات التعلّق بالخيال، دون يقين إن كان التحرر ممكنًا بشكل كامل.
يظهر البطل على ملصق العرض وقد قام بدوره يوسف حشيش، في ثانِ تعاون بين حشيش وسمير بعد عرضهما المسرحي الأول “وعملت إيه فينا السنين؟” قبل عامين. على الملصق خلف البطل ظِلٌ قاتم كثيف هو ظل الحلم، أو قرين الخيال. أما في العرض المسرحي فغالبًا ما ركزت الإضاءة على حدود المشهد التمثيلي وتركت ما وراءه مُظلمًا كمساحة يتحرك فيها الخيال بثقة وسطوة في رداء أو عباءة زرقاء داكنة تحمل تكوينات لطيفة صغيرة عُلّقت فيها تعبيرًا عن شخصية حالمة. أما الأسود، المساحة الطاغية على المسرح وفي الملصق، كما يشير غوته في نظريته للألوان، فلون يرمز إلى الراحة وهو مكافئ للظلام. هو أيضًا رمز للسطوة والغموض والتمرّد، وهو هنا حاملٌ لكل هذه الدلالات: التمرد على الواقع، والإغراق في الوهم، والاختباء من ألم الحقيقة.
في خياله، يعيش حسن قصة حب مع نادية زوجة صديقه علي، ويخلط بين ما يحدُث في الواقع وما يُتوهّم. وفي الفصل الثاني نراه داخل تابوت، يستمع -من وراء الموت- إلى ما يقوله أحبّته عنه، وإلى أي مدى سيحزنون عليه. يشعر بأن الواقع الذي يعيشه غير حقيقي فيواجهه خياله قائلًا: “وفي ايه حقيقي انت عايشه؟” ليُعبّر عن أزمة حسن مع العيش في الأوهام وجذور الخوف التي أوصلته لذلك والتي تعززها أغنية محمد عبد الوهاب “خايف أقول اللي في قلبي” التي يتم تشغيلها في العرض. يكتشف أنّه كان يملأ فراغه بالخيال، وأن الوحدة تُمثّل له أكبر وحش مفترس.

هو ابن وحيد، غير راضٍ عن حياته، يخشى أن يُحب لأنه يخاف الفقد، ولا يشعر باستحقاق المحبة. تستعيد الذاكرة لحظات طفولة فقد فيها والديه في حادث، وعلاقة غير مكتملة معهما تُثمر جروحًا ما زالت تنزف. في مشهد مؤثر، يواجه والده الذي يخبره: “آسف علشان محبتكش بالطريقة اللي انت عايزها”. ولم تكن هذه الطريقة سوى الونس والحضور لا توفير الرفاهية.
لا يخلو العرض النفسي الفلسفي من الفكاهة، خصوصًا في مشهد شجار الأب والأم في العالم الآخر وهما يرتديان الأبيض، رمز السلام والنقاء، ويشتكيان من أنّ حتى الموت لم يمنحهما راحة كاملة من الشجار.
تتأرجح شخصية خيال في عمق الخشبة، عمق النفس البشرية المظلم، مهيمنةً على الصورة المسرحية أو الحركة في الفراغ، سارحة دومًا في هذا الفضاء الأوسع من حدود المشهد التمثيلي وكأنّها ساكنةٌ أعماق حسن. ربما كان مصدر خوف حسن الأكبر هو نادية، زوجة صديقه. يقول لها في أحد المشاهد وهو يعتقد أنها تبادله الحب: “ماهو لو بقينا مع بعض لازم نخاف”. يقرر حسن هذه المرة مواجهة خوفه فيتحقق بمقولة ابن عطاء الله السكندري: “ما قادك شيء مثل الوهم” لتردّه نادية إلى الواقع.
وتأتي المواجهة الكبرى بين حسن وخياله حين يصرخ: “أنا بقيت حاسس إني عايش معاك في سجن. سيبني”. يجيبه الخيال بثقة: “جرّب تعيش مع نفسك… وشوف هتعرف ازاي تعيش من غيري”. يَعِدْه فيُمنّيه ليستبقيه: “خليك معايا أنا هجيبلك اللي انت محتاجه”، “ماتعرفش تعيش من غيري”، “أنا اللي بتحكم فيك ولا انت اللي بتتحكم فيا؟” مؤكدًا أن الإنسان هو المتحكم في خياله وليس العكس. ويضيف: “أنا عمري قصرت معاك في حاجة.. كل اللي بتحتاجه بجيبهولك.. أي حاجة بتعوزها بجيبها.. سعادة.. رضا.. دفا…”. يحاول إثنائه عن قراره بهجر خياله مُهددًا ومُتوعدًا تارة بمشاعر سلبية كثيرة ستحيط وتفتك به، وتارة أخرى يلاطفه بالقول: “عايزك لما تزعل متبقاش لوحدك” مُشيرًا إلى الضيق كنقطة ضعف وانطلاق للخيال في الوقت نفسه يترك فيها عالم الحقائق ويدخل باب الأوهام الصامت الذي لا يشاركه فيه أحد.
يقوم العرض بثمانية ممثلين برز اندماج بعضهم وحضورهم المسرحي مثل محمد سمير (دور “خيال”) والعراقية سارة حامد (دور “نادية”). يتغيّر الديكور في الفضاء المسرحي بين صالون وتابوت ومقهى ومطبخ وسينما، وتتوزع أغنيات حديثة وقديمة داخل العرض مع استخدام محدود للمؤثرات الصوتية كضوضاء الشارع في أحد المشاهد. الإضاءة المسرحية خافتة ومحدودة في العموم ليحصل الظل على المساحة الأكبر رمزًا للخيال. أما الاختتامة فتأتي مع أغنية يوسف إسماعيل “بتمنّاك”، لتعلن تحرّر الشخصية الدرامية من أوهامها، وهو يقول لأمانيه محتفظًا بآخر نبرة صدق: “ياللي مش هتحصل”، رافضًا أن يعيش حياته في فقاعة خيال.





