كنّا ونحن صغار، نلعب لعبة اسمها “بيت بيوت”. نوزّع الأدوار كمن يوزع أوراق اللعب أمٌ، جدةٌ، بنتٌ، وربما أبٌ غائب في العمل أو في الحرب أو في الخيال. وفي كل مرة، كانت الضحية تختارها اللعبة قبل أن نكبر لنفهم. فتاة صغيرة تجلس على الأرض، تصب الشاي للجميع، وتُنهي الدور حين يُطلب منها أن تصمت. لم نكن نعلم، ونحن نضحك، أننا نعيد تمثيل مشهد تراجيدي لا يغيب عن الذاكرة الجمعية. كنا نتمرّن، دون وعي، على أن نكون كما أراد لنا الآخرون. وما عرفناه بعد ذلك، ونحن نقرأ “أطفال الشاي”، أن تلك الطفلة لم تكن تنسى شيئًا. كانت تخبئ الظلّ تحت جلدها، وتنتظر أن تكبر لتكتب.
رواية مروى علي الدين تبدأ من هناك، من الطفلة التي لُعِبت في طفولتها — لا كدُمية بل كدور مفروض. من تلك التي كانت دائمًا “البنت” في لعبة بيتٍ لم يكن بيتها، وفي نظامٍ لم يكن لها أن تقول فيه لا.
“أظنّ أني لن أرى أبدًا إعلانًا أشد جاذبية من شجرة...”
هكذا تبدأ مروى روايتها كما لو أنها تتحدانا أن ننظر بعمق، أن نعيد ترتيب أولوياتنا في الفهم. أن نتأمل في البديهي إعلان شجرة ونضع ما هو راسخ في حقل المجاز.
لا تبدأ رواية “أطفال الشاي” من لحظة درامية صاخبة، بل من جملة تأملية كمن يسكب الشاي ببطء في فنجان الحياة. ومنذ السطور الأولى، تدعونا مروى علي الدين لأن نضع أيدينا على قلب فتاة تُدعى سعاد،فتاة لم تجد لها مكانًا في المجتمع بسهولة؛ تعاني من رفض متكرر، حتى عملت في شركة للإعلانات بعد معاناة طويلة في إقناع أمّها بالسفر. هناك، يخبرها زميلها مايكل أن ممثلة شهيرة ستختار ثلاث فتيات للإعلانات، وسعاد ضمن المرشحات لكنها باخر لحظة ترفض. تتسرب الأحلام إلى ليل سعاد، لكنها أحلام مشوَّشة، يظهر فيها ظلّها ككائن غريب، وربما كرمز لاكتئابها أو انقسامها الداخلي، حتى أنها تستيقظ أحيانًا بكدمات في جسدها. لا لتقصّ علينا حكايتها فحسب، بل لتستدرجنا إلى وجعها الممتد من الطفولة حتى أحلام الإعلان المعطّلة.
في قلب السرد، تقف شخصية سكينة فؤاد “الجدة “التي تتزوج من رجل يكبرها تحت ضغط من والدتها وهي الصغيرة لتصبح عمودًا من الضوء، من الحكمة، من الصلابة الأنثوية القادرة على أن تحتفظ بالنار مشتعلة داخل الطين. الجدة تقف عند قبر لا يُفتح إلا بإذنها، والتي لم يكن يعجبها زواج ابنتها علية من علي بهجت ، ثم صارت سيدة الموقف كله. هذه الجدة هي التي ربّت سعاد، وكانت لها الأم الحقيقية، في حين كانت الأم البيولوجية مجرد حضور باهت واهن. سعاد تُفطم على رائحة الجدة لا الأم، تكتسب منها ملامح الروح، القوة، والصلابة. لكن الانتقال من قريتها إلى المدينة الأكبر يفصلها قسرًا عن الجدة، وتبدأ معاناة من نوع آخر. الانفصال كان قاسيًا عليهما معًا، لكنه “عادي” في أعين الآخرين.
الروائية لا تقدم الجدة بوصفها مجرّد شخصية داعمة، بل كأصل السلالة، كمفتاحٍ لقراءة الحساسية النفسية والجمالية لدى حفيدتها سعاد. تلك الحفيدة التي لا تكتفي برؤية الظلّ في أحلامها، بل تتصارع معه حتى تظهر الكدمات على جسدها وكأن الجرح النفسي له لسان في الجسد. تمر سعاد بين الوظائف، بين الأحلام المؤجلة، بين الحبّ الذي لا يُقال. في أحد المقاطع، تقول:
“تبدأ الأحلام في مؤانسة وحدتي، وفي أحلامي لا أرى أحدًا سوى ظلي.“
هذا الظلّ ليس استعارة فقط، إنه مكوّن سردي ونفسي محوري. هو الظلّ الذي يتشكل من تراكمات الطفولة، من الأم التي تحذرها من كل شيء، من المجتمع الذي يضبط إيقاع أنوثتها تحت قانون الخوف.
سعاد لا تسير في الرواية نحو النهاية، بل نحو الداخل. كل خطوة لها هي تعميق لاكتشاف ذاتها، ولو عبر إعلان تم إلغاؤه، أو وظيفة لم تكتمل، أو مرض يشبه الفقد.
مروى علي الدين لا تحتكر البطولة في سعاد، بل توزّع الضوء على نساء أخريات، لكل واحدة منهن خيط في نسيج الرواية: ثم تنزاح الرواية نحو شخصية أخرى” رحمة” وهي عاملة شاي في الشركة، صامتة، تضع الصينية وتمضي. زوجها يعمل أيضًا في الشركة في قسم اللافتات. فجأة، يسقط زوجها من ارتفاع شاهق — رؤيا تسكن مخيلة رحمة، فتظن أنها شاهدته يسقط رغم أنهما كانا في مكانين مختلفين. من يومها، استلمت البوفيه، كأن الفقد فرض عليها هذه الزاوية المعزولة. دون أن تفقد كبرياءها أو وعيها بأهمية الإعلان، ولو كنافذة على العالم.
تانت زيزي: تلك التي نطقت بها سعاد وكأنها تقرأ من دفتر طفولتها الأولى. زيزي، التي تقول عنها سعاد:
“زيزي نفسُها مَن قالت إن الرجلَ الهادئ المُحب للقراءة شديدُ الرومانسية مُفعمُ الخيال”.
كانت مثالًا للمرأة المثقفة، الرقيقة، التي تحب الفن والكتب، لكنها اصطدمت بالخيانة. زوجها المحامي معتز، ذاك الرجل “الصموت” الذي بدا كأنه قادم من صفحات رواية، لم يكن استثناءً. خيانته لم تكن فقط جسدية، بل كانت خيانةً للطمأنينة.
لكن زيزي لا تنتقم بهدوء. بل تواجه، تكشف السر أمام جميع اهله وتطلب من العشيقة “سهام” المغادرة. القصة لا تنتهي عند ذلك، بل تبدأ الرواية في التوغل داخل النفس البشرية بعد هذه الحكاية، التي تبدو في ظاهرها حكاية غيرة وخيانة، لكنها تحمل في باطنها سؤالًا: هل المرأة عندما تواجه خيانة الرجل تواجه العالم أم تواجه ذاتها؟
كل شخصية أنثوية في الرواية، لا تُرسم كضحية فقط، بل ككيان له طريقته في المقاومة بالصمت، بالبوفيه،بالسفر او بالموت او بالقبلة الأخيرة، أو حتى بالكدمات التي لا تُفسّر.
ثم من البلدة الريفية، حيث الحكايات كانت تُروى في حضن الجدة، تنتقل سعاد إلى المدينة الكبيرة. المدينة هنا لا تُصوَّر كمكان حديث أو “فرصة”، بل كغربة مكثفة، كأم لا تُرضع، كرحم بارد.
“لم يكن الأمر سهلًا، لا عليّ ولا على جدتي، بدا الأمر عاديًّا، لكن الوجع لم يتوقف أبدًا.”
بهذه العبارة التي تجمع العادي بالاستثنائي، تشرح سعاد المأساة كما تُشرح الأشياء اليومية الغياب، الانتقال، الانفصال. لكنها، في الواقع، تُشير إلى ذلك الفقد الذي لا يجرؤ كثيرون على تسميته.
ثم تنقلب دفّة الرواية إلى عالم الطفولة، إذ تقول سعاد:
“كانت أمي تُجيد القصصَ التحذيرية المُخيفة وأنَّ هناك غشاء رقيقًا، تمزيقُه عند الفتيات يُسبِّب الموت”.
هذه الجملة وحدها كافية لكشف كيف يُربّى الخوف فينا، كيف يُزرع كالنبات تحت الجلد. وتستمر الرواية في استكشاف علاقة الجسد بالسلطة الأسرية، وكيف أن البنت كانت تمشي بين محظوراتٍ لا تراها لكنها تشعر بها.
الدهشة الحقيقية حين نصل إلى الجزء الذي تعترف فيه سعاد بحبها لطبيبها النفسي، المسيحي. تقول:
“مسيحي، ومُسلمة.. مُستحيل! كان المستحيل الذي أُحب”.
ليظهر هنا التوتر بين الدين والرغبة، بين ما نشعر به وما نُربى عليه. وهنا تنفتح الرواية على سؤال آخر: هل الحب فعل حر أم خضوع لمنظومة المسموح والممنوع؟
في لحظة مؤثرة، نقرأ عن الجدة “سكينة” التي حرّمت نفسها على زوجها كي تُثنيه عن التدخين، لكنها بكت عليه حين مات.
“فضحتها رائحةُ الحب من دموعها، الحبُّ الذي لم يَعرف له طعمًا ولا رائحةً طوالَ سنوات عُمره معها”.
هل نحن نحب في الوقت الخطأ؟ أم أن الحياة نفسها لا تمنحنا لحظةً واحدة لنعيش الحب حقًا؟ الجواب ليس واضحًا، لكن سكينة، بصمتها، بزياراتها لقبر زوجها، كانت ترمم غيابًا دام عقودًا.
الرواية تُفكك أيضًا أسطورة “الحلم العربي”، عبر الاعتراف بتفويت الفرص عن وعي، كما في هذا المقطع:
“فماذا يعني لو قبلتُ السفرَ إلى دولة عربية، وقبلت العملَ كمذيعة في قناة فضائية مشهورة…؟”
هنا، يصبح الفشل موقفًا، أو ربما رغبة خفية في البقاء داخل الدائرة الآمنة، حتى لو كانت دائرة الألم.
في القفلة العبقرية، تدخل الرواية في طبقة أعمق من الرمزية. تخاطب سعاد زميلها مايكل، تمنحه رواية، وتقول له:
“مَن أنت يا بروميثيوس كي تتَّحد ضدَّك الآلهة… المفتاح الذي لم يجده، ووجدته أنا، لن يستجيب لأيِّ بَصمة غير بصمته.”
مايكل ليس مجرد شخصية، بل هو استعارة لكل شاب تائه، لكل من يملك “الباب” في حياته لكنه يجهل أن المفتاح موجود في مكان ما. وسعاد، بحكمتها الأنثوية، تعرف أن دورها ليس أن تفتح له الباب، بل أن تريه أنه يملك القدرة.
في جملة مفصلية، تقول سعاد:“الطفل لا يعي البراءةَ إلا بعد أن يَفقدها.”
وكأن الرواية بأكملها تصف لحظة الفقد هذه: فقد البراءة، وفقد الأمومة الصافية، وفقد شغف الحياة كما عرفناه. لكنها لا تقف هناك، بل تقترح أن للقراءة قدرة على الترميم. تقول:“سأمضي الوقت في القراءة حتى تنتهي أمي من الطبخ.”
وكأنها تريد أن تعود، أن تُرمّم نفسها من الداخل بصفحات الكتب، بعطر المطبخ القديم، بأسماء الأمهات التي تتكرر حتى في يوم القيامة
“سعاد بنت علية بنت سكينة” .هذا السرد ثلاثيّ الأجيال ليس صدفة، بل هو إعلان أن النساء هنّ الذاكرة، وهنّ الاستمرارية، وهنّ الذين يحتملن الوحدة باسم العائلة.
مروى علي الدين لا تصرخ، لا تجرّ القارئ عبر حبكات مفاجئة، بل تأخذه كما تأخذ الجدة حفيدتها نحو حكاية ما قبل النوم، نحو كوب الشاي قبل الإعلان.
اللغة في الرواية لا تُظهر جمالها بطريقة استعراضية، بل تُطوّق القلب بهدوء. كثير من العبارات تُكتب لتُقرأ بصوت داخلي، كأنك تستمع لحفيف ورق الشاي حين يُغلى في وعاء النسيان.
رواية “أطفال الشاي” ليست عن الطفولة فقط، ولا الإعلان، ولا المدينة، ولا الجدة، ولا المرض بل عن تلك الفجوة التي نحملها في داخلنا حين لا نُشبه ما تتوقعه الحياة منّا، ولا نشبه حتى ظلّنا في الأحلام.
أنها رواية تكتبها امرأة، لتقرؤها كل امرأة، ويصمت أمامها كل رجل لا لأنه مذنب، بل لأنه لا يعرف كيف يُواسي جرحًا لم يُقال.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الرواية صادرة عن مؤسسة غايا للإبداع 2025