مسرحية “الآرتيست” .. التداعي الحر والإبحار في عالم الممثل

فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

نهلة إيهاب

في رحلة إلي الممثل ومع الممثل باعتباره” آلة الزمن” التي تنقلنا إلي عالم واقعية الكلمة ،عمق المعني ، وصدق الأحساس؛ يطالعنا العرض المسرحي “الآرتيست ” تأليف وإخراج “محمد زكي” نصًا وعرضًا يناقشان معاناة الممثل ومهنة التمثيل بشكل عام ، مستوحي من قصة الفنانة “زينات صدقي” التي تعد رمزًا للممثل ومعاناته التي يمكن أن يعيشها داخل بوتقة ” النجومية والشهرة ” وبالأخص “المرأة” التي تمتهن هذه المهنة؛ فإنسانية فكرة النص وتعدد تفسيراته وتوظيفه يسمو به من تلك الخصوصية الظاهرة التي طرحها العرض، فيتحول إلي استعارة لوضع إنساني واسع الدلالة، فنحن لسنا أمام سيرة ذاتية عن الفنانة “زينات صدقي” بل أمام حالة إنسانية إستثنائية للصمود، المعاناة والتضحية من أجل الوصول للحلم العالق بحب ” الفن” .

“عيني علينا يا أهل الفن يا عيني علينا “

 واحدة من أشهر مونولوجات إسماعيل ياسين التي وصف من خلاله حال “أهل  الفن”؛ بهذا المونولوج أفتتح العرض المسرحي” الأرتيست”  وكان بمثابة ” العتبة الثانية” التي لاحقت ” العتبة الأولي” وهي أسم العرض ” الأرتيست” لتهيئة المتفرج ” المتلقي ” للدخول لعالم الممثل ، وكشف ما وراء الستارمن صعوبات ،تحديات ،وأزمات صنعت نجم حقيقي يرتدي في الكثير من الأحيان قناع “الضاحك الباكي” .

تبدأ أحداث العرض بمشهد افتتاحي عن قصة حب تحدث بالتبادل المكاني في “بير السلم” وفوق ” السطوح” بين ” طارق.. ابن شقيق زينات” و” ورد ..ابنة خيرية صديقة زينات” وهو خط درامي فرعي أضيف للأحداث الرئيسية للعرض ليصنع نوع من البهجة والكوميديا الخفيفة ، ثم ينطلق العرض من واقعة حقيقة حدثت بالفعل حول مكالمة هاتفية من الرئيس الراحل أنور السادات يخبر” زينات” بتكريمها في يوم عيد الفن عام 1974 ، وذلك بعد أن أختفت عن الأضواء لمدة طويلة ؛  وبرغم سعادتها البالغة بهذا الأمر إلا أنها تقرر عدم الذهاب ، حيث أنها لا تملك ثمن فستانًا جديدًا تحضر به الحفل بعد أن تدهورت أحوالها المادية ولاحقت بها الديون ؛ ومن هنا تفجر لحظة ” البدء الدرامية “وهي تتكئ علي كرسي هزاز وأمامها تلفاز يعرض لها بعض من أعمالها الفنية؛ في لحظة الإبحار في الماضي تلك، وفي تسلسل درامي مكثف وسريع يتكشف لدى المتلقي ما مر عليها من أحداث ومعاناة ” زواج مبكر، طلاق ، تخلي الأهل والأقارب ، انهيارعاطفي و معنوي و مادي …” وكأنها تتساءل في كل مرة ؛ في حالة من ” التداعي الحر” للأفراح والأحزان  ..هل كان الاختيار صحيحًا؟ …هل كان الأختيار يستحق كل هذه المعاناة ؟… هل ما وصلت إليه الآن هو ما كنت أحلم به؟

حيث ينتهي العرض بالإجابة القاطعة لكل هذة الأسئلة المُحيرة من خلال تسجيل صوتي حقيقي” لزينات صدقي ” تقول فيه “اللهم انصر الفنانين على أهاليهم اللي هما ما بيعترفوش بيهم ” وهو بمثابة رسالة ضمنية تحمل توقيع الاختيار الصحيح… لتلك الرحلة الشاقة الممتعة في ذات الوقت ..

مشهد من العرض  “الفلاش باك ” مساهمة جمالية في إبراز دلالات النص

اعتمد المخرج “محمد زكي” على تقنية ” الفلاش باك” الرجوع إلي الماضي، والتي ساهمت مساهمة جمالية وفعالة في إضاءة النص وإبراز دلالاته ، كما لعبت الإضاءة ل” أبو بكر الشريف”  دورًا بارزًا في عملية التنقل تلك بين لحظات الماضي واللحظة الآنية .

 وكذلك فعل نفس الآثر الديكور ل” فادي فوكيه”  حيث قسم خشبة المسرح إلي ثلاثة مستويات ؛ المستوي الأول يساره” البدروم ” و يمينه” السطح ” وهو الجزء الأمامي من صالة عرض الجمهور ، أما المستوي الثاني “منزل زينات”  الذي يوحي بالبساطة والحالة المادية التي وصلت إليها ؛يمينه نجد كرسي هزاز أمامه تلفاز وراديو  وبرواز صغير لصورة تجمع بين خيرية وزينات في مرحلة الشباب ، ويساره كرسين وطولة وهاتف ؛ ويشغل المستوي الثالث  “عمق خشبة المسرح ” الذي تم توظيفه بشكل فعال من خلال وضع “خزانة الملابس” في منتصف العمق حيث تدور أغلب أحداث العرض المحورية حوله ولربما كان هو “المنفذ ” للصراع الدرامي والمسبب ” الظاهري” للوصول لذروة الأحداث.

فقد كان الديكور شديد الفاعلية الدرامية في أغلب عناصره ، وكذلك” الموتيفات المسرحية ” أصبحت عنصرا بصريًا متحولا،  متعدد الدلالة مما يكسب العرض رغم ما به من معاناه وواقع أليم دلالات “إيجابية متفائلة” .

كما لعب المكياج ل” إسلام عباس “دور فعال في تحديد ملامح وانفعالات الشخصيات بشكل واضح ومميز لطبيعة كل شخصية درامية ؛ متوافق ومتوازن مع درجات الإضاءة بشكل كبير؛ كذلك الملابس ل ” أميرة صابر، ومحمد ريان ” جاءت مناسبة لروح وجوهر العرض المسرحي وملائمة للفترة الزمانية التي تدور حولها الأحداث .

وكذلك  الأعداد الموسيقي والمؤثرات الصوتية ل” خالد مانشي”؛ وخاصة الأغاني سواء المسموعة أو المؤداة علي المسرح فصوت” أم كلثوم”  في أغنية “كلموني تاني عنك ..فكروني” التي تكررت في أكثر من مشهد كان بمثابة ” المحفز”  لإستحضار المزيد من الأشجان والشاعريات؛ وكذلك صوت “إسماعيل ياسين” من فيلم “ابن حميدو” كان بمثابة شعاع الأمل الباقي من زمن المجد والشهرة .

حيث اعتمد المخرج والمؤلف ” محمد زكي ” علي التشكيل الحركي والتوزيع المكاني والضوئي والصوتي في تجسيد الدلالة المسرحية .

أداء تمثيلي طبيعي يخلو من  الميلودرامية

 اهتم المخرج ” محمد زكي ” بإعداد الممثلين بشكل متقن؛ فقد استخدم العديد من المناهج المسرحية لإعداد الممثل داخليًا وخارجيًا؛ كما اختار أسلوبًا مناسبًا تماما للنص في مجال الأداء التمثيلي يعتمد علي الكثافة الداخلية ، أو التقمص الطبيعي والواقعي دون الوقوع في فخ المبالغات الميلودرامية أو الأكليشيهات الكلاسيكية .

 وفي نطاق الأداء التمثيلي التزمت  المبدعة “هايدي عبد الخالق” في دور” زينات صدقي” بنمط حركي متسق في تطوره ، بجانب تلوينا صوتيا يناسب الحركة في جميع مراحل تطور الشخصية ؛ كما جسدت الشخصية الدرامية تجسيدا إشاريا وإيمائيا وحركيا وصوتيا لتحولات الشخصية ودلالاتها في أدق تفصيلاتها النفسية والجسدية .

كما تألقت “فاطمة عادل” في دور” خيرية ” رفيقة الدرب ، وصديقة العمر وكانت بمثابة “التكرار الانعكاسي ” لشخصية “زينات”

 كما  جاء الأداء التمثيلي لكلٍ من :  ( إيهاب بكير “الأخ سيد في مرحلة الكبر”، محمد زكي ” صلاح الزوج”،  أحمد الجوهري “فاسيلي الترزي” ، محمود الحلواني “عثمان السفرجي” ، ريم مدحت” صباح الخادمة” ،  إبراهيم الألفي ” الأخ سيد في مرحلة الصغر” ، ياسر أبو العينين “الأب” ، فيولا عادل ” الأم” ،عبد العزيز العناني “رجب البواب”  ، ومارتينا هاني” عزة” ، ياسمين عمر”ورد”، محمود الغندور “طارق” ) مفعم بالطاقة التمثيلية والحضور المسرحي النابع من دراسة عميقة لكل أبعاد الشخصية الدرامية.  

هكذا  قدم العرض المسرحي ” الأريتست ” تأليف وإخراج “محمد زكي ” علي خشبة مسرح “مركز الهناجر  للفنون ” تحت قيادة الفنان ” شادي سرور ” ؛ عرضا مسرحيا يثير فرحة الدهشة في نفس “المتفرج” من خلال العودة لزمن ” الفن الجميل” ‘ ومن خلال تشكيل جمالي وبناء دلالي للصورة المسرحية ” السمعية والبصرية ”  ؛ ينتزع عن أعيننا غشاء العادة  والمألوف ليستعيد براءة “النظرة الأولي” إلي الحياة ؛ إنه “المسرح”  الذي يثير النفس والعقل ، ويحرك الذاكرة ، وأشجان القلب ، وأشواق الروح… ويدفعنا دائما إلي الدهشة ، التساؤل ، والتداعي الحر ….

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ناقدة مصرية، 
نقلاً عن مجلة المسرح فبراير 2025

مقالات من نفس القسم