سما زيادة
دائماً ما أتسائل هل هناك محظي وملعون عند الإله؟
هل كُتِب على البعض أن يعيش الحياة بسوية والبعض الآخر بمعاناة؟
أم أنها دروس نتلقاها سواءً في أول العمر أو آخره وجُبِرنا عليها؟
في روايتها الأحدث ” أوجه عديدة للموت” تناقش الروائية رضوى الأسود موضوع شائك، يشغل بال الكثيرات، الحائرات، المتقلبات على جمر الحب والجفاء.بأي ذنبٍ خُدِعوا
من خلال قصة البطلة التي تنطلق روحها معنا منذ البدء، بعدما تعرضت لصدمات متتالية أدت بها إلى تناول جرعات زائدة تحرر بها روحها من هذه الحياة.
استطاعت معه أن تنطلق في فضاءات فسيحة، وتُزال الحجب عن وعيها، فحللت وحاكمت كل من خذلوها ولعنوها وجعلوها تعاني
فهل استطاعت الإستشفاء أخيراً؟
أداخل عقل البطلة؟
وأنت تقرأ الرواية سرعان ما تعي أننا داخل عقل البطلة وهي تهيم في فضاءها السرمدي من ناحية وداخل عقلها مرة آخرى لأننا نكتشف بعد منتصف الرواية تقريباً، أن الرواية نفسها هي مسودة لرواية تكتبها البطلة.
فجعلتنا حبيسي عقلها اللاواعي والواعي في آن واحد.
فليكن….
قيامة…. مواجهة….صحوة
لو تحدثنا عن عتبات النص، نجد أن الرواية قُسمت إلى ثلاث مراحل مرت بهم البطلة؛
مرحلة القيامة….
وأظن أن الكاتبة اختارت هذا العنوان تحديداً اقتباساً من قيامة المسيح بعد الموت، إيذاناً بالبعث، أو قيامة الأموات يوم البعث.
مواجهة…
وهو الباب الأكبر حجماً، والذي استفاضت فيه الكاتبة لمواجهة روحٍ لروح.
ولا يسعني هنا سوى أن أجد أيضاً التأثر بفكرة البرزخ، وتلاقي الأرواح هناك، ولا نعلم قد يتعاتبوا، يحاكموا بعضهم البعض، لاندري.
صحوة….
وهو مأخوذ من تعبير صحوة الموت ، وهي حالة من الصفاء الذهني واستعادة القوى العقلية والجسمانية التي تنتاب شخصاً ما قبل الوفاة
فلماذا صحوة؟
لأنها الصحوة التي دخلت فيها البطلة وانقذت بها روحها قبل أن تموت روحها موتاً نهائياً.
هذيان الروح وقلة عدد السطور:
تنبهت وأنا أقرأ الرواية لصغر حجم الفصول وكثرة عددها، وهو شئ ماكر من الكاتبة التي أرادت أن تدخلنا بداخل وعي البطلة، وتجعلنا في مواجهة التدفق والتطهر الروحي الذي كانت تقوم به، فاتجهت إلى تقنية صغر حجم الفصول لتدلل على وعي هذه الفتاة في غيبوبتها، والذي من الطبيعي أنه وعي غير ثابت، بل عشوائي يغيب ويعود، وافكاره ماهي إلا لقطات من حياته.
السر يبدأ من الأسرة:
قديماً كنا نسمع عبارة أن التعليم يبدأ من الأسرة، وهذا حقيقي، فهناك أشياء إن لم يمنحها لك الوالدين ستظل طوال عمرك تبحث عنها، بل كل إخفاقاتك من ناحية هذا النقص ستكون بسبب أنك تبحث عن تعويضٍ ما، بل لا أخفيك القول مهما وجدته لن يعوضك، ولهذا كانت الصرخة المدوية التي أطلقتها بطلة الرواية من معاناتها من أب وأم بلا حياة أو بقسوة زائدة، من حرمانها من الحنان والعاطفة التي تنتظرهم كل بنت وكل ابنة من والديها
لدرجة أنها صورت علاقتها بهم كالآتي:
“حديث السيد للعبد هي وأمها
حديث الغريم للغريم الأب والأم
حديث الصم والبكم هي وأباها”
وقد صور هذا جفاف روحها وكأبة نفسها بسبب حرمانها من هذه العاطفة.
لدرجة أنها خافت من فكرة الإنجاب، وولادة طفل في هذا المجتمع، الذي حكمت عليه بأنه غير مؤهل لرعاية الإنسان.
وذلك للتروما الأبوية التي تعرضت لها.
فتقول” كنت أود لو أكون الوحيدة في الاستحواذ على الإهتمام، كنت أود لو أشعر بالتميز ولو لمرة واحدة”
كلمة السر… القراءة
من المعاني الجميلة التي أشارت إليها الرواية أن بر الأمان الوحيد الذي كانت تلجأ له البطلة لينقذها هي القراءة.
فالقراءة فعلاً هو مكان آمن جداَ من كل ضغوطات الحياة وقسوتها، الواحة الوحيدة التي يلجأ إليها الإنسان ولا يخذله.
وهنا كررتها الكاتبة مراراً أن القراءة أنقذتها في كل مراحل حياتها، بل أن الثقافة الواسعة الفلسفية التي كانت تستخدمها البطلة هي مرآة لهذا الإطلاع، والقراءة المتعمقة التي تبحرت معها البطلة طوال حياتها.
الصياد والفريسة:
قيل أن الطبيعة الجينية لإنسان الكهف كانت هي الصيد، وأصبحت هي متعته الوحيدة، ومن يومها أصبح الرجل لايجد أي متعة إلا بالصيد ، ثم تطور الأمر ومع تطور الحضارة، واختفاء الصيد، فعقله الجيني أصبح يسعى للبحث عن المتعة التي كان يشعر بها في الصيد فوجدها في المرأة.
وفي الرواية فلقد الصياد بفريسة جريحة بالفعل، لم تستطع أن تتحمل مناوراته ثم فتوره وملله بعد ذلك، ولكنها عاقبته بعقاب أشد، وفي هذا كان تحررها.
لعنة سيزيف الأبدية:
من المجحف أن تُقرأ روايات رضوى قراءة سطحية وإن كنت ستستمتع في الحالتين.
ولكن رضوى كاتبة فيلسوفة ودائماً الرواية عندها وراءها ما وراءها من التساؤلات الوجودية والفلسفية، عن ماهية وجود الإنسان وجدوى الحياة والموت، ونصيبه من الألم، وإن كان نيتشه يرى الألم ضروري في مسيرة الإنسان، فرضوى تتسائل عن جدوى هذا الألم، والمعاناة المستمرة، وإشكالية الإختيار والجبر.
بل تصور هنا معاناة البطلة بلعنة سيزيف الأبدية التي ما إن تنتهي حتى تبدأ من جديد، وتحاورنا البطلة بمعضلاتها وشكوكها طوال الوقت، وكأنها تلتمس منا الإجابة.
تيار الوعي ورحلة داخل وجدان البطلة:
من مميزات هذه الرواية، أنها رواية تيار وعي يتجلى فيها التداعي الحر للأفكار الداخلية للبطلة بشكل عشوائي، بدون ترتيب.
وهو نوع من الروايات يحتاج إلى مهارة وإمكانات عالية تناسبت مع رواية أحادية الشخصية لفتاة في غيبوبة يستعيد عقلها الوعي دون الجسد، وهذا الوعي هو الحكاء المتدفق بدون مقاطعة.
وأخيراً هل أجادت الكاتبة رسم البطلة؟
كثيراً وبدرجة تامة، فجاءت كما رسمتها بمخيلتي بالظبط، تلك الفتاة ذات التعليم العالي والمستوى المادي الجيد، ولكنها تعاني من ترومات الطفولة المؤلمة بسبب والديها، فأصبحت صامتة تخشى البوح، كونت لها عالماً موازياً بالقراءة وتبحرت في الفلسفة.
ولذا نظراً لطبيعتها أصبحت تميل للفكر العدمي، فنجد إميل سيوران دائماً موجود.
حرمانها من الحب والحنان والعاطفة جعلها فريسة سهلة لأول من اهتم بها.
ولكل ذلك فثقتها بنفسها مهزوزة، افتقدت معنى الإستحقاق والسعادة في الحياة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
كاتبة مصرية، الرواية صادرة عن دار العين، 2025