ندى رحيقي
1
يوم ولادتها توجست الداية من بريق في عروقها، فأوصت أباها أن يحفظها في زجاجة: لها قاع ووسط وعنق ثم …
2
ماذا يوجد في القاع؟ راحة وأمان وأنس. لا حنين ولا أمل ولا حركة.
يقول العاشق النائمة روحه لحبيبته الأرقة: تعالي نستلق في الجانب المظلم من الزجاجة، تعالي بعيدا عن الضوء لنخفي قبحي وحسنك…
تقول الحبيبة المرتابة لا مبالية بجمله الطويلة: أبحث عن جنتي…
يقول الأحمق واثقا: قلبي هنا فتعالي
تقول البصيرة ممتعضة: لو كان جنة لما ركد في قعر زجاجة!
3
القاع ضيق، والجنة زمن ممتد لا أول له ولا نهاية. هي ابتسامة الوجود للجرحى، أو شقة يتسرب منها النسيم ليحتضن القلب الكسير.
صاحت العجوز العارفة ابنة الكهوف في عيون المرأة الوحيدة في الزحام: “أنت لست من هذا البلد، نعيم السماء ورهافتها تنساب من عينيك… ماذا تفعلين هنا؟ يجب أن ترحلي بسرعة!”
ردت وهي تغالب دمعها: كيف؟
قالت ابنة الكهوف بحزم: ستعرفين عندما تسمحين لأحلامك البعيدة بالعشعشة فيك…
هي الأحلام حبل السماء الممدود نحو الغرقى في يابسة القاع. مصابيحنا في ظلامنا الأزلي، ثقب يبتلعنا، شيطان يلبسنا، جنون يمسنا فيجعلنا غرباء.
4
لما نفذت الغريبة وصية ابنة الكهوف، بلغ السماءَ ما حل بسليلتها العالقة هناك، فألقت إليها حبلها لتسحبها من برودة الخوف وجزع البدايات.
وما إن مدت الغريبة يدها إليه حتى استفاقت الجثث من سباتها لتحوم حولها: إلى أين؟ …انظري انظري هنا وردة الياسمين التي تحبين …ما رأيك بالمشمش؟ قطفته خصيصا لأجلك …عطر عطر للرائعة… ما رأيك أن أمشط شعرك؟ …اشتقت لك …سترحلين بعيدا عني؟ لماذا ما الذي اقترفته؟…ما هذا الكلام عودي الى رشدك وارقدي…نحبك… أحبك، تعالي هات حضنا…الخ
تحكي ابنة الكهوف العارفة في نقوشها الطينية: لا نور في القاع، لا حياة في القاع، لا حب في القاع… لا شيء حقيقي داخل الزجاجة، لا شيء حقيقي خارج أحلام الغريبة. ما كان ذلك إلا سرابا خادعا في صحراء القاع… ولولا الغربة لما استطاعت سليلة السماء النجاة منه.
الغربة هي زاد الجريح في رحلته إلى الخلود.
5
الرحلة طويلة وشاقة، شيئا فشيئا ترتفع الغريبة، بعيدا بعيدا عن ضجيج الحشود وغمغمة الموتى وعربدة الجثث. مع كل ارتفاع تدنو منها طفلتها القديمة أكثر فأكثر، إلى أن التصقت بها.
عند المنتصف قالت الغريبة في سرها: ربما هذا الارتفاع كاف.
فباغتتها طفلتها: سأتركك للأبد إن فعلت، وستضيعين، وإلى القاع تعودين لتنهشك ديدان القبور!
6
واصلت زحفها… ها هي بلغت عنق الزجاجة، بينها وبين الفتحة خطوتان لكن بمقياس ألف ميل من قانون القاع.
يطول الزمن في عنق الزجاجة، تتثاقل أقدامه وتتناقص دقاته فينحبس الهواء أو يقل.
هذا هو قانون الحرية: لا نغدو أحياء ما لم نستحق الموت.
7
– ماذا ينتظرنا في الخارج؟ تتساءل الغريبة الحبيسة متخوفة
تجيبها الطفلة القديمة مبتسمة: لا توجد سوى المرايا… أرأيت لماذا يرضون بالاستقرار في القاع؟!
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
كاتبة مغربية . خريجة شعبة الأدب العربي من جامعة محمد الخامس، الرباط-المغرب.