قالت لي مالك مصفرة الوجه يا صغيرة،إقتربي، لا تخافي،إنظري، لدي آذان كثيرةهنا، كل الأحجام و الأشكال و الألوان،سمراء و صفراء،هذه إذن امرأةفي السبعين، لازالتتسمعلكنقليلاً، الطلب على آذان العجائز مهول،خاصة في موسم عيد النار، تفهمينالأسباببالطبع،آذان الرضع يطلبها قطاع الطريق، أماهذه فأذناشاعر صحراء الشمال، ذلك الهائم، قطعهما معا وأخبرني أنه لا يروم شراء غيرهما بعدماقُتلت حبيبته، قتلها واحد من قبيلة الرجال، تعرفينهم؟ أراد أن يُبقى على صوتها بداخله،هكذا تمتم عندما أعطانيهما، عرضت عليه أفضل ما لدي، لم أفهمه، لايهم،تلك أذنا توأم أصم، أذن من كل واحد،باعتهما أمهما واشترت لنفسها أذنا غزالةلتتزين،يأتيني زبائنكُثرللآذان الصماء، خاصة من نساء قافلة المشرق،يحببنها كثيرا، حتى أنهنيدعين أنها لازمة جداً في هودج الزواج،يقلن أن أذناَ صماء كفيلة بإنجاح الزيجات في قافلتهن، و أن السمع الحاد، كالبصر الحاد،غيرمطلوبٍ ولامحبب في النسوة، عندهن هو للرجال فقط،إنظري هنا أيضاً، أترينالأذنُالصغيرةالمزينة، كانتلغانية بديعة الصوت، غناؤها عذب يذيب القلوب،كانت قرمزية الشفاه كذلك،تفتح فمها فيسجد الحجر و الشجر،تزوج منها حكيم قبيلتها، هم معروفون جداً، قبيلة السعد، ذات الخيام العظيمةوالحكماء المحبون للغانيات، لكنه أصر أن تستبدل إحدى أذنيها بواحدة صماء لكي لا تغني.
– و رَضِيتْ؟سألت
– بالطبع . كيف ترفض؟
– لكن لماذا ؟!
– حتى لا تجوع. (قالت باقتضاب و مرارة)
إنظري، لدي أيضاً أذنا حمار، و أذن كلب و القليلمن آذان الماشية و الذئابو ال….
أقاطعها:
و ماذا إن لم أُرغب في إستبدال أذنيّ؟أقصد، إن أردت الإبقاء عليهما،هل يمكنني الحصول علىواحدة في جميع الأحوال؟
تنفرج أساريرها ضاحكةضحكةَعالية مجلجلة تُلقيبرأسها إلى الخلف،أيتها اللئيمة الصغيرة، من علمكِ هذا؟ ها؟ أخبريني، تقرصني و تقهقهبسعادة منتصر…
بالطبع، وهو أفضل كثيرا، تعلمين، نحن نسمع من الأصوات ما اعتدنا فقط،أنتِ مثلاً، نوديتِ ألف مرة أثناء عودتك لأبيكِ،عندما تقطع خفك وعدتِ حافية، لِم تبرقين أجفانك هكذا، كل القبائل سمعت بكِ، كنتِ تسلية الحِداء كما قيل لي،لا تستغربي هكذا، أنا أعلم كل شيء،إسمعي،أصوات كثيرة لا تصلنا رغم أنها حولنا طوال الوقت، فأنا لم أكن لأسمع نداء نسيمالحارليفي لقاءنا الأول بغير هذه…
ترفع ثوبها فجأة، كاشفة عنثديينمرفوعين هائلينتستقر بينهماأذن ثعلببثباتٍكجوهرة، تميل قليلاً نحو اليسار.
ما هذايا سيدة؟؟ أسألها و أنا من العجب في غاية.
هذه أذن قلبي. أسمع بها كل الأصوات، ما يقال و ما لا يقال. كل الصمت و كل المكائد. كل الأشياءو كل الخلائق. بها صرت حكيمة القافلة، وبها تملكت الواحةو صرنا قبيلة لا قافلة،سمعت أعدائي على البعد و انتصرت عليهم دون قتال، بمساعدتها عرفتقلب نسيم يوماً، و بسببها تركته بعدما تغير باطنه و أصبح مسموماً كالعقارب.
……………………………
سيأتي زمنٌأتوه فيه و أضيع في الصحراء وحديوألعن غبائي برفضي عرضها السخيبعد فوات الأوان،عندهاسأرهف سمعي و أغلق عينيي عَلنّي أسمع على البعد صوت أمي أو نداء أبي، الأخطاء لا تعلن عن كونها كذلك حين نقترفها، كما أننالا نعرف المستقبل حتى يتجسدحاضرا،قاسياً،يسحقنا بقدمٍ باردة ثقيلة لارحمةفيها، لم يفلح مُنجِمٌو لا ساحر و لا جنّيٌبعد، مهما بلغت مهارتهم في إستشراف الغد و أحداثه.
……………………………..
تسدل عليها ثوبها وهيترمقني باستمتاعِ حقيقي،كمن يشهد سِفاد الأرانب،يبدو أن دهشتي لجرأتها ارتسمت كاملة على وجهي، تقرصني، ماذا بكِ يا حلوة؟حسناً إذاً، تريدين الإبقاء على أذنيك عديمتا الفائدة ؟
أين تريدين أن أضع لكِ الأذن الهدية؟ يمكننا أن نكورها على ظهرك فتسمعين ما يحاك من وراءك، لو أن شعرك طويل، لسَهُل علينا إخفاؤها،أو أضعها على صدرك الصغير هذا، عليكِ حينذاك أرتداء المزيد من الثياب، أو نلصقها هنا على ذراعك أو…
أوقفهالأنهي حديثها :
عليّ أن أعود يا سيدة، أشكركِ على كل شيئ لكني لا أرغب في أية أذن.
قبل أن تنهي كلامها أكون قد أطلقت ساقي جرياً نحو أبي، لم أنظر خلفي لكن ضحكتها العالية الساخرة المستهزئة بخوفي صكت مسمعي بالرغم من لاجدوى أذني كما إدعتّ !!
قبل خيمتنا بقليل قابلني عُمير إبن الحداء، كان عائدا مثلي من جهة الماء،تلكأ عندما رآني أعود، حتى صرت بمحاذاته، فقال هامساً: كيف حالك؟ كيف صرتِ؟
أنا بخير . رددت.
سمعتُ بما حدث لكِ، إستطرد، تعلمين، منذ ذاك الحين و أنا أخيط لكِ خفاً جديداً، سأجعله أحمر و أسكب عليه لكِ بعضاً من المسك حتى تتعطر قدميكِ. فأنا…أنا…أنا قد حزنت لما تعرضتِ له.
أنظر له بتعجبٍ لامزيد عليه، إبن الحداء يكلمني؟ إبن الحداء؟ يخيط لي خفاً ليهدينيه؟
ليتني لم أعد، لو كنت أعلم أن رجوعي حافية سيجعل إبن الحداء يتطاول ليحدثني ما عدت.
لا. شكراً. أجبته بامتعاض. لا أريد.
لم؟ ينظر نحوي بيأس و ذلٍ مكتمل.
لدي خف جديد . لا أريد.
لكنني أصنعه لكِ. لم لا ترغبين فيه؟
حقاُ. لِم؟
لِمَ؟ سألت نفسي…
ألأنه إبن حداء ٍ مكترىً؟ و أنا إبنة من؟ و هل نفعني نسبي عندما قُص شعري و مُنعت من الغناء؟
حسناً يا عمير. أحضره عندما تنتهي منه. قلت له.
تقافز الصبي سعيداً نحو أبيه.
ربما ليس صبياً فعلاً. لكنني أراه كذلك.
……………….
عدت إلى الخيمة أفكر،عمير يصنع لي خفاٌ أحمر! عُميرسيعطرليخفاً،هو يعلم أني أحب العطور،نهتم بالرائحة في قافلتناإهتماماً لا يمكن التغافل عنه، فالحكيممحبٌ للعطور النفاذة، خيمته دوماً مبخرة، يُأتى له بكل ألوان الطيوب، لكن أمي وأبي يريان دوماً أن ُطٌهر الساكن و رفعة شأنه هما منبع عذوبة الرائحة.
…………………
هائمة في أفكاري أجتر ما مر بي في يومي الحافل، أبي يناديني، صوته غاضب، تعالي ….
ماذا؟
إرتدي خفك، يرغب الحكيم في محادثتك !
الآن؟
نعم. لم تغرب الشمس بعد. هيا. أسرعي…
………….
أساق إلى الحكيم مرة أخرى…
كمن يساق إلى حتفه…
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الأجزاء السابقة
