«تركت قصيدة صينية فى بيتك كنت قد كتبتها بخط منمق ولم أعد لأخذها، فكرت أن جملة منها ستتسرب يوما إلي٬ جملة واحدة فيها قارب صغير وأوراق خريفية وبيت خشبى تنقط فوقه الأمطار وبلطة. جملة أفكر فيها كعمل شخصي٬ جملة واحدة لا اربط بينها٬ ستخرج إلى فجأة ذات ليلة وأنا أحاول تذكر قرية بعيدة عبرت عليها يوما دون أن أعى تماما هل غاصت قدمى فعليا فى أوحال حقولها٬ أم غاصت رأسي تماما فى تكوين صورتها».
أنت يا من لاتزال مترددا فى تذوق قصيدة النثر تعايش هنا روح الشعر الساكن فى الصورة٬ وفى المعنى الكلى للعبارة والذى يتحول عند تلقيك له إلى نغم وايقاع تكتشفه أنت بنفسك فهو جديد وخاص بك٬ اسمعه فى القطعة التالية يقول:
«فى مدينة غريبة تطؤها قدمى للمرة الأولى أبحث محموما عن بيتك فى الليل اللا نهائي. فجأة وجدتنى داخل حجرة أسمع منها رنة قدميك العاريتين على البلاط وبابك الذى يفتح ويغلق٬ فجأة ينبلج الصبح وفجأة أصحو فى سريرك لكنها الساعة الثالثة فجراً٬ وأنا مازلت أبحث محموما عن بيتك فى الليل اللانهائي».
الديوان من قصيدتين الأولى «وراء الباب» وتقع فى50 قطعة قصيرة. تكتشف خلالها كل أدوات الشاعر التى يستعملها فى اقتدار وسهولة٬ يستعمل السرد النثري٬ والتقطيع السينمائي٬ وتركيب وبناء صور الفن التشكيلي٬ يلامس روح السريالية ويستعمل حيل إخراج الأحلام لكى يصل فى النهاية دائما إلى شاطيء شعرى رائق.
أما القصيدة الثانية٬ فهى لحن غنائى مؤلم كأنها أغنية معزوفة على وتر واحد.
خرج الشاعر فى رحلة بحث عن الذات الشاعرة٬ فجأة رأى أشياء كثيرة وعرف أشياء كثيرة٬ بعد أن كانت الحياة «صندوق أحذية متربا يمتد أسفل السرير» ازدحم المشهد بالأنهار والجبال والنساء والمدن الجديدة:
«يحفر الواحد نفقا ويمضى فيه وحيدا٬ ظنا منه أنه يحفر كى يصل به النفق خارج أرضية الزنزانة، وما إن يشتم الهواء الجديد حتى يجد أنه قد عاد إلى الناحية الأخرى من زنزانته».
«لم يكن ثمة أحد
كل ليلة
وبكل قسوة
يغلق النافذة
على قلبي»
بهذه الحرية يتعامل يمانى مع نوعه الشعري٬ كى يأخذك إلى «منتصف الحجرة» «فأنت فى منتصف حجرة وفى منتصف الحجرات ليس على المرء سوى أن يتمدد واضعا طوبة تحت رأسه وفى ملابسه البيضاء المشدودة بأحكام يمكنه بالكاد أن ينسى».
«بيت أزرق
هو آخر ما تراه عيناى من النافذة
بعده لاشيء
يلوح لى غائما
والحياة داخله أبدا لن أعرفها
لكن الكتلة الزرقاء
تغلف عينى يوميا
كأن حياتى تقبع هناك
كأننى أصحو فى البيت نفسه
على وقع أقدامك الذاهبة إلى العمل»
فى بداية الديوان هناك حوار افتراضى بين الشاعر وشجرة ليمون تحتضر وشجرة زيتون قوية وارفة. كان يرعى شجرة الليمون ويسقيها ولكنها اصفرت وماتت٬ وقال:
«أغلق النافذة من جديد٬ أولا الشيش الحديدي٬ ثم الزجاج٬ أقول وداعا لشجرة الليمون٬ وداعا يا شجرتى العزيزة٬ ربما التقينا فى عالم أفضل أكون فيه شجرة ليمون وتكونين فيه شخصا يرص الكلمات بجانب بعضها فى الليل ويبكى٬ لكن لا تقلقى غدا سأفتح النافذة من جديد».
قصيدة النثر عند يمانى نوع أدبى جديد يمد جذوره فى التراث الأوروبي٬ والأمريكي٬ وكذلك يبحث عن أصول فى التراث العربي.. لكن النبع الأساسى يبقي: روح الشاعر الباحث عن النور والحرية وعن المستقبل الذى يصارع الغيوم.
*الأهرام 10 ديسمبر 2014