وماذا عساى أن أكون غير نفسى، هذه اللحظة الى تمتد أمام عينى أكثر من ثلاثين عاما، ليس بالأمر الجلل، لكننى على أى حال وقفت لأستريح، أثرثر مع الدخان لغرباء عنى تماما، أخرج لهم ذكرياتى القديمة، وعناوين كتاباتى الصماء، لعل واحدا منهم يخبرنى عن سر إقبالى على الانتحار، أحدثهم عن أمى، رحم الأرض الذى سواه الإله حيا ليلدنى، وكأننى طفل الأرض الوحيد، محموم منذ الميلاد، أنفر من أحلامى بكثرة الحركة والكلام، فكانت تحوطنى وتلملمنى، لكنها ما فعلت ذلك بروية الأمومة، بل سلطت علىَّ سيف الحرام، وكأننى لا أقع إلا على القبيح، أو أن كل ما يُحب فى الحياة قبيح، حرام عليك، الله بينك وبين ما تشتهى، لزمن طويل كنت لا أرى فى المرآة إلا وجها رسم القبح ملامحه.
ها هو ذا، أفصح عن حقيقته بأسلوبه المسرحى السخيف، إنه فعلا جدير بالكراهية، أعرف كيف أصنع منه إنسانا، لكنه لا يستحق، لا بد وأن يظل مشنوقا معلقا بين جبلين، لن أحكم الجنزير على رقبته، سأبقيه هناك معلقا، يموت فى كل لحظة، وهو يرى الصدأ يأكل الحديد، فيهوى إلى الوادى، عمر الحديد طويل، لن يموت سريعا ذلك الوغد، لو مات، لو انتفض الجبلين حين يرتطم خده بالوادى سيشفى، ومثله لا يستحق الشفاء، إنه حتى أكثر كسلا وبلادة من أن يسعى للشفاء، فلماذا أساعد كومة البؤس هذى، لا تسمحوا له بخداعكم، هذا المدلل العفن لن يصور نفسه مذنبا أبدا، سيلقى اللوم على أمه وأبيه والله والعالم، وحين يشعر أنه مس قلوبكم، سيبتسم فى قرارة نفسه، تلك الابتسامة الى لا يراها أحد.
ابتسامة الموت تتسع، حين أولاهما ظهره، لا يبدو منه غير ذيل عباءته المتهرئ، يجره أمامهما على الطريق الوحيد الصالح للسير.
أسمعتم كيف يتكلم؟ أيستطيع المرء أن يحيا وهذا الصوت بداخله؟ لقد شاءت الصدفة أن تكونوا حاضرين حين تكلم، أما أنا فأراه أمامى فى المرآة متجهما قاسيا، صبغ جميع مشاهد ذكرياتى بلونه القاتم، أنسانى كيف يأنس الناس ببعضهم، يكتم مداعباتى البريئة، وحين أخرجها من بين أسنانه، يكون قد نحت كلامها بقسوته، حتى صوتى يخنقه فى حلقى حين أريد الغناء، فيخرج كحشرجة المذبوح، أتدرون ما كان يفعل بى حين هربت منه لأكتب، كنت أغسل أسنانى حين اكتشفت ذلك الالتهاب فى لثتى، حين وخزته الفرشاة، فانتفضتُ أبصق الدماء فى الحوض، من ساعتها وهذا ديدنه الجديد، لساعات كاملة يمرر طرف ظفره على لثتى، وحين يمل يأتى بإبرة، يمرر سنها ببطء على اللحم المتورم، وأنا لا حول لى ولا قوة، أئن تحت جثمانه، يعرف الملعون كيف يراوغنى، لا يصل بالألم إلى حد الصراخ، يبقيه خافتا ممتدا، أتلوى منه ولا فكاك، أعلم أنه يستمتع بتعذيبى، وأنا مستسلم، أجبن من أن أقتله، ولا ذنب لى فانتحر، لكننى بالفعل اكتفيت، لن يدوم هذا الحال، أعرف كيف أقتل مصاص الدماء الملعون هذا، سأخرج به فى شمس النهار، أجلس به على صخرة الحلاج حتى يحترق، ثم آخذ رماده وأمزجه بالصمغ والعسل، جاعلا منه مدادا لحكاياتى الجديدة.
ألم أقل لكم؟ طفل مغرور، يزعم أنه قاتلى، لا يدرى أنه يكلم صورة فى المرآة، لكنها فى ذات الوقت هى الدليل الوحيد على وجوده، سترى من منا سيفضح الآخر ويعريه حتى يموت من الخزى والمهانة، عن أى شىء ستكتب برمادى يا حفنة الروث، تلك المشاهد الجوفاء عن هذا وذاك، مرآتك المصطنعة التى تنظر إليها لتخبرك أنك أجمل من رأت المرآة، اكتب ما شئت لن يزدك جمال الصورة إلا قبحا، وتشكو مما فعلته بأسنانك، ألم تكن تستمتع؟ وحين أتوقف تقوم من مكانك، تدور فى المكان، تمر بيدك على رأسك، تدخن حتى اللهاث؟!! كل أفعالك تطلب الألم، أنا أشجع منك، أقسو عليك لتسكن، لعلك ذات مرة تموت وتريحنى، لماذا تثرثر دائما عن أمك؟ وتتهمها؟ كيف كان للمسكينة أن تحتمل أبيك، دائم الخشوع، يمشى على الأرض راضيا حكيما، لم يبق له سوى ذراع واحد وساق، لم يفقد الأخريين، لكنهما فى وجودهما كالعدم، ذابلتين، ساقه اليمنى القصيرة إثر حادث، وذراعه اليسرى ولد بها ضامرة، تشبه قدم مالك حزين المرفوعة، والجبار لا يشكو، يحيا بعاهته بمنتهى البرود، كيف للمسكينة أن تحتمل صمته الدائم، بل وحبه لك، أنت ثمرة هذه الزيجة، طفلهما الوحيد.
ابتسامة الموت تملأ الأفق، تبتلع العدم المترامى حول الطريق.
كان أبى اسمه يونس، ليست تلك مصادفة أظن، يونس النبى غسله الله من عدم الرضا فى بطن الحوت، ولما شكر، خرج وُرزِق الأتباع الكثر، يفرح بصحبتهم، أما أبى يونس ففى بطن الحوت عاش ومات، كان تسبيحه وجوده اللطيف المكتفى، لا يُحَمِّل أحدا عبء إعاقته، صلبا يمر عبر الحياة، تتقلب على صفحات حياته الأديان والوظائف والزيجات، أنجبنى حين قارب الخمسين، كان لا بد وأن يحبنى، صحيح أن خشوعه كان زائدا، لم ينتبه أنه ما علمنى شيئا مما يعلمه الآباء للأبناء، لعله ظن بى خيرا، أو لعله توقف زمانه الرائق على أعتاب زمانى المتطاير كالشظايا، فلم يدر ما يعلمنى، لا أدرى فقط أحبه.
ـــــــــــــــــــــ
هانى قربة
قاص – مصر
ــــــــــــــــــــــ
خاص الكتابة