مروان ياسين الدليمي
1
مع قدوم العام الجديد
أراه يطرق الباب كجارٍ خجول
يحمل ساعةً مكسورةً في جيبه
ويُخفي وراء ظهره نهارًا لم يُجرَّب بعد.
أقول له: ادخل.
الأيام هنا متعبة
الكراسي تحفظ شكل الأجساد التي غادرتها
والجدران تتنصّت على أنفاسنا
ثم تتظاهر بالصمت.
هكذا أتمنّى أن تكون الحياة:
خفيفةً كقميصٍ نُشر على حبل الغيم
صارمةً كملحٍ يعرف متى يذوب
ساخرةً بما يكفي
لتضحك من جروحها
وهي تُغيّر الضماد.
الأمل
ذلك الكائن العنيد
ينهض كل صباح من بين الأشياء الصغيرة:
من رغيف الخبز الذي يتذكّر يد أمّي
من نافذةٍ تُدرّب الضوء على الدخول بلا ضجيج
من شجرةٍ في الشارع تتبادل الأسرار مع الريح.
أتمنّى لعامي الجديد
أن يكون أقلَّ تفسيرًا وأكثرَ إصغاءً.
أن يخلط الذاكرة بالنسيان
كما يخلط الخبّاز الدقيق بالماء
دون أن يسأل العجين عن ماضيه.
الوقت هنا ليس خطًّا مستقيمًا
إنّه حيوانٌ أليف ينام عند قدميّ
ثم يستيقظ فجأةً ليعضّ التاريخ.
أتمنّى لعائلتي
أن تمرّ بهم الأيام
كما تمرّ القطط في الأزقّة:
بحذرٍ جميل
وبثقةٍ غامضة
في أن الطريق يعرفهم.
أتمنّى لأصدقائي
أن تكون الخسارات أخفّ وزنًا
وأن تتعلّم قلوبهم فنّ السقوط
دون أن تنكسر الأرض تحتها.
أمّا أنا
فأتمنّى أن أظلّ هذا الصوت
الذي يكتب ليبقى واقفًا
يسخر من الحياة كي يفهمها
ويصافح العام الجديد كمن يصافح مِرآته
ولا يتعرّف إليها تمامًا.
2
مع توغّل العام الجديد في البيت
تتحرّك الأشياء من تلقاء نفسها.
الساعة تُبطئ خفقانها كي لا تُفزع النوم
والمرآة تُعيد ترتيب وجهي
كما لو أنّها تفكّر بدلًا عنّي.
هكذا أتمنّى للحياة أن تمضي:
أن تتعلّم الاقتصاد في الألم
وأن تُنفق الفرح بحكمةٍ غامضة
أن تكون جادّةً حدّ السخرية
وساخرةً حدّ البكاء.
الذاكرة لا تأتي وحدها.
إنّها تدخل ممسكةً بيد النسيان
كطفلين لا يفهمان لماذا فُصلا طويلًا.
أرى أيّامًا لم أعشها تجلس معي إلى الطاولة
وأسمع أصواتًا قرأتُها في الكتب
تطلب منّي
أن أترك لها مقعدًا في قلبي.
أتمنّى لعائلتي
أن يكون الماضي أقلَّ ثِقلًا
أن يُصبح مجرّد ضوءٍ خلفيّ
لا جدارًا.
أن تنام الخلافات مثل كلابٍ شاخت
وتحلم بعظامٍ وهميّة.
البيت
هذا الكائن الذي يتنفّسنا
يتعلّم في العام الجديد
كيف يكون أوسع من الجدران.
الأبواب تُدرّب المفاتيح على اللطف
والسقف يُخفّف وطأة السماء عن رؤوسنا.
أتمنّى لأصدقائي
أن تصادقهم المصادفة
أن تأتيهم الحياة بلا موعد
كضحكةٍ في عزاء
كأغنيةٍ تنجو من الرصاص.
التاريخ هنا لا يُلقي خطبًا.
إنّه يجلس في الزاوية
يدخّن صمته
ويراقب كيف يتحوّل الفرديّ إلى جماعيّ
بمجرّد أن نقول: نحن.
أمّا أنا
فأتعلم أن أكون أقلَّ يقينًا
أن أُصدّق الشكّ
بوصفه طريقةً أخرى للإيمان.
أسخر من نفسي
كي لا تُصدّق أنّها مركز العالم
وأترك للعام الجديد مساحةً
كي يُخطئ بدوره .
3
في نهاية العام الجديد
أكتشف أنّه لم يكن طريقًا
بل مزاجًا.
سحابةً تعلّمت كيف تفكّر
وطرقاتٍ لم تؤدِّ إلّا إلى الإصغاء.
هكذا أتمنّى أن تبقى الحياة:
غير مكتملة
كي لا تتحوّل إلى جواب.
أن تُربكنا بما يكفي لنبقى أحياء
وأن تُربّت على أكتافنا
حين نخطئ في الفرح.
الطبيعة
هذه الكاتبة الصامتة
توقّع نصّها كل يوم:
المطر يعتذر للأرض عن قسوته
والشمس تُدرّب الظلال على معنى الغياب.
حتى الحجر
أراه يفكّر طويلًا قبل أن يكون حجرًا.
أتمنّى لكلّ البشر الطيّبين النبلاء
أن يجدوا أسماءهم في فم الريح، لا في سجلات الحرب.
أن تكون خطواتهم مسموعة للطرق
وأن تتعلّم الطرق كيف تفتح قلبها.
الزمن
هذا الحيوان المتقلّب
يمرّ بي
أحيانًا كصديقٍ قديم
وأحيانًا كقاضٍ نسي الملفّ.
أصافحه في الحالتين
وأضحك
لأنّ السخرية
آخر أشكال الحكمة المتاحة.
الذاكرة الآن
تُسلّم مفاتيحها للنسيان
ليس هزيمةً
بل ثقةً.
ما يجب أن يبقى سيبقى
دون حراسة.
أمّا أنا
فأقف في هذا الهامش الواسع
بين ما كنتُه وما لم أجرؤ أن أكونه بعد.
أقول للعام الجديد، ولما بعده:
تفضّل.
هذه حياتي ناقصة
لكنّها تحاول أن تكون جديرة
بهذا القدر من الضوء.


















