علي الدكروري
كان لا بدّ أن ترتّب زينب الأدراج من جديد بدقة متناهية؛ الدرج الأول للورود الحمراء، والثاني للبيضاء، والثالث للورود الملوّنة. الأحمر يجب أن يكون في الصدارة، فهي صارت وردة عندما قال لها «أحبك» في المرة الأولى. الأشواق لا يجب أن تخرج من الحجرة أو تتجول كالدموع في البيت الكبير، والفضيحة لها رائحة، لذا وضعت أقفالًا محكمة على صدرها، لأنها تدرك أن الحروب تبدأ من هنا. وهي لا تعرف لماذا تركوا لها هذا البيت الواسع، ولا طيور لديها، فقط عصفور وحيد وسافر. أبوها، منذ سافر للخارج، تعلّم الجميع الرحيل: أمها وحبيبها، ولم يعد لديها سوى عزة، صديقتها الوحيدة التي أهداها لها الزمن، مع مجموعة روايات يخرج منها الأبطال كل ليلة ويملأون الفراغ بالضجيج. وكانت تحدث عزة عن كل رواية قرأتها بكل تفاصيلها الصغيرة، ولذا كانت لا تنسى أن تمازحها كل مرة وتقول لها: «الزيت الحلو في المخزن يا عزة»، وهي جملة كان يقولها صاحب المحل لامرأة يحبها ويريد أن ينفرد بها في رواية الحب بمن حضر، وتضحكان معًا.
كان صعبًا أن تخرج على أشواقها، وأن تمنح دقاتها فرصة لنشيد جديد. ما يتركه الحبيب حين يغادر ربما هو أكبر من الحب نفسه. الشوق ليس سهلًا كما يظن المدّعون، لكنه أكثر تعقيدًا مما يحسب الشعراء. ورغم كل هذا، كانت الخطوة الأولى أن عزة أقنعتها، بعد تعب شديد، أن تعيد ترتيب الأدراج، وأن تلقي بالورود من الشرفة على المارة، وفعلتها أخيرًا، بينما عزة تشجعها وتقول: «هكذا يا زينب».
كانت كلما نزلت الشارع يحفزها الطير لتفعل ذلك، ويطير ناحية الشمال، لكن القرار غالبًا يكون صعبًا في البداية.
رقّت الأيام بعد فترة من أجلها، ثم راقت لها، وظهر عماد في حياتها فجأة؛ هذا الشاب الذي لا يمكن وصفه في قصة، سوى أنها قالت في نفسها عنه إنه رجل طازج. هو رجل عادي، لكنها تراه مختلفًا عن الجميع، وكل ما لديه جديد: ابتسامته وصوته وأفعاله وملامحه. وهي أيضًا كثيرًا ما تترك أشياء ثمينة وتبحث عن أشياء مختلفة فقط.
لم يدع لها فرصة لالتقاط الأنفاس، وأمطرها بطزاجته مثل سماء تتقن الشتاء. يكفي أنه جعلها تنسى كل من سافر وكل من سيأتي. بل إنها للمرة الأولى تسمح لرجل أن يدخل بيتها ولا تخاف. صحيح أنه كان يحضر لها بعض حاجات تريدها أو يشتري لها ما تخبره به، ويخرج مسرعًا، لكنه كان أيضًا يحدث للمرة الأولى. الحياة تغيرت بشدة، والوحدة جمعت ثيابها وسحبت حقيبتها، وزينب نفسها لم تعد تحتاج لأحد، حتى صديقتها عزة لم تعد تحتاج كثيرًا لها؛ فقد ملأ حياتها.
ربما شغلها قليلًا أن عزة أيضًا بدأت تغيب كثيرًا، منذ أخبرتها أن الأدراج لم تُخلق للضحكات ولا للدقات ولا للعبير. نعم، هي قصّت عليها كل شيء، بينما كانت عزة تستمع بلهفة كما تسمع منها روايات وحيد الطويلة. وعندما سألتها آخر مرة: «ماذا بك يا عزة؟» سافرت.
بعدها بدأت كل ليلة تشعر بأنفاس في الحجرة، وفي البداية كذبت نفسها وقالت: لا يمكن أن يعود الفراغ بتلك السرعة، ولم يعد له أصلًا مكان بالمنزل. لكن الشك بدأ ينمو كحيوان مفترس ويطول، وبدأ عماد يطيل الغياب شيئًا فشيئًا.
لم يحدث أي خلاف بينهما، ولا أخبرها بشيء، ولأيام طويلة ما دق الهاتف ولا الباب، وعندما يتوقف الباب عن الطرقات تزداد طرقات القلب.
لم تعرف ماذا تفعل، لكنها حين استلقت على سريرها، وكانت بين الصحو والنوم، رأت عماد وهو يعمل في محل كبير، وقد تزاحمت النسوة للشراء، ورأت عزة وهي تقترب منه لتشتري شيئًا، فقال لها: «انتظري أنتِ يا عزة، سنذهب للمخزن، فالزيت الحلو هناك».









