سيد أحمد
العزيزة أسماء جمال عبدالناصر .. طالما استحضر هذا الاسم رغمًا عني الكثير من الشجن! لا أعرف ما السبب، ربما ألفةٌ في وجهك، ربما الحنين لسنوات مضت، على كل حال، تحياتي يا هانم!
الحقيقة أني لم أشأ أن أرسل إليكِ الآن، قلت ربما غدًا، أكون فكرت أكثر فيما أكتبه، وعلى الأرجح سأرسل نص قديم مما أخبرتكِ عنه، وإن كنت لا أدري ما فائدة هذا الأمر لكلينا. أظن أن الكتابة تشملنا بلطفها أو قسوتها في مقاومة النسيان، المعنى الأصلي للكتابة بالنسبة لي، ولو كان النسيان أحيانًا كثيرة أملًا ضروريًا للمضي عبر الأيام والبشر.
أكتب إليكِ الآن لأني قرأت ما أرسلتِ إلي من رسائل سبق لكِ نشرها، توقفت كثيرًا عند موت أجنتكِ! طالما شعرت بغير معرفة أو تجريب بطبيعة الحال لما تشعره الأنثى في العموم وكذلك وأمي وأختي وحبيبتي، بالإرتباك والعجز حيال هذه الخمسة أيام من كل دورة قمرية. ظَل هناك دائمًا شيئًا يشبه الرهبة أمام هذا الأمر، وربما الحزن أو الأسى. أتوقف لأنها معجزة، تحدث بكل عادية، تحدث من دون أن يلتفت إليها أحد. لسنوات عملت في صيدلية كمساعد صيدلي، في البداية كان بيع فوط صحية يعني الكثير من الفوضى والإرتباك والخجل، مرة لأني كنت صغيرًا وقتها، ومرات لأن النساء في بلادنا يصدرن هذا الشعور رغمًا عن الجميع. تتسابق الأيادي لتضع الفوط في شنطة سوداء، تتوقف كثيرًا فتاة في العشرينيات دون أن تنطق بكلمة واحدة لأنها لن تطلعني على طلبها، إذ تحتاج بنتًا مثلها كي تخبرها، بما يشبه التخفي من جريمة كاملة. في السنوات الأخيرة قاومت -بقدر ما يحتمل الموقف- هذا العار الذي تبديه سيدة أو فتاة أو رجل يشتري شيئًا خاصًا لزوجته أو ابنته، فقط كي أقول أنه ليس هناك ما يدعو لذلك يا عزيزي. هناك ما يدعو للتواضع بدايةً، أو للرهبة تجاه حدوث معجزة -نعجز نحن الرجال عن اختبارها-، والكثير الكثير من الحنو أو البكاء أسفل بطنها.
أما عن إيمان مرسال، هناك دومًا ما يأخذ بيدك لحظة تُطل على وجهها، أنك تحتاج أن تقول لها: “شكرًا”! أو في سياق آخر كما يحدث عندما أنادي أمي: مامااا (مثل دعابة من فيلم قديم)، فترد من فورها: يا روح أمك! فأضحك وتضحك، وينتهي الأمر! أقول أنها تشبه أمي، تشبه معنى الأم.
قرأت لها حوارًا قديمًا مع حسن عبدالموجود، عن بدياتها، قريتها، أبيها، حلم السفر وأظن أول كتاب نشرته كطفلة، كان حوارًا شجيًا ويشبه هذا القرب الذي تبديه دومًا في يدٍ تسبق الأخرى، بكلمة حنون وصوت طيب.. وفي جامعة القاهرة لمّا قرأت “ممر معتم يصلح لتعلم الرقص”، تحديدًا الدور الأخير (الروف) من مبنى اللغات والترجمة بكلية الآداب، كان يومًا عجيبًا؛ أدور فيه بين عدة خسائر أقلها مقابلة عمل فاشلة وممارسة استبداد وفرض إتاوة من إدارة الجامعة والكلية نظير تسجيل الخطة لرسالة الماجستير وتعنت رئيسة القسم وخناقتها اللعينة مع المشرف الذي نسيني تقريبًا. أمضغ الوقت على مضض وحزينًا هذا الحزن الشفيف، أو المنقذ، كنت أنتظر نتيجة امتحان تويفل، ورأيت البنت التي أحبها، فرحت بوجهها، وحزنت لأن ما بيننا تهشم فجأة! الأمور تسوء بسرعة البرق أو عريس محتمل هناك. تطردني كأني حشرة، وأنا طبعًا بذكورية شامخة أو متخلفة (لا فارق بالفعل)، لعنت كل شيء وسببت الجميع، إلا هي! إلا أن هذا اليوم، رأتني، لم أحدثها -لأني لم أصدق ما فعلت-، لم تحدثني -ولم أعرف ما أخطأت في حقها حتى الآن-، وغابت في لحظة. لا يهم، الحياة تمضي رغم ذلك، والحرية أن تترك للحبيب فرصة كي يرفض هذا الحب ببساطة، من دون شعور يلاحقه بالذنب، من دون سحابة تظلك بالضياع.
بيدي ديوان إيمان، الأرض تدور من حولي، وأنا غارق في المتاهة والوحل إلا من يدي، رأيت إيمان تتشبث جيدًا، رأيتها تبتسم قائلة: السعادة إذن/ في آلات التجريف الجديرة بالحب/ يسبقها لسانها عادة/ وتقلب/ بحياد ذاكرة الأرض. ابتسمت، أنهيتُ سيجارتي، وخرجت بعد ما ظهرت النتيجة وحصلت على ما أريد من تقدير، وعدت إلى البيت وقد نفضت يدي التي علقتها هناك لعامين منتظرًا إجابة. في البيت، أمي هويدا، لم تعرف ما مررت به، لكنها بكت وقالت: هي الخسرانة! إيمان فعلت الأمر نفسه، من دون أن تبكي. تقولين أنكِ تشعرين بالأمومة تجاهها، حسنًا، وأنا كذلك! يعني أنه شعور متبادل، لا تضحكي؛ أنا لست أمها بكل تأكيد، ربما هي فعلت، وربما نرتبط سويًا بهذا الحبل السري، ولو ضمنيًا. لا بأس، ربما هو الحبل المربوط بالأرض، أمنا جميعًا، أنثى الخصوبة والدمار. بالمناسبة، أحب لإيمان هذه الصورة المرفقة جدًا جدًا ..
مفارقة أخرى، اليوم أحدثكِ عن حبيبة سابقة، لم أزل أذكرها بالخير طبعًا، وكذلك أذكر بلانكا (من رواية أنطونيو مولينا: في غياب بلانكا) بها أو العكس، والآن أتجهز للذهاب إلى زوجة محتملة، رضوخًا تحت ضغط الكل، الأهل والأب والإخوة وأمي؛ الفتاة التي لم أستطع أن أقاوم دمعها يومًا! المجتمع والناس والحجارة هنا تدفعني للخروج إلى العالم وبيدي تتشابك يد أخرى، أحن. أنا خائف الآن لكن الأمر لا يخلو من الإثارة الصراحة! فتاة لم أرها حتى وهي المرة الأولى التي يحدث فيها أن أذهب لخطبة إحداهن، والمرة الأولى التي أتساهل في شروط معرفتها أولًا قبل كل شيء (صالونات بقى). لا أعرف إذا كانت هذه هزيمة ما أو سذاجة، لكن الأكيد أني تركت نفسي للموج يفعل كيفما يشاء، وأحب أن ألعب أو أرى إلى ماذا ينتهي المطاف بقول سُكينة حبيب الله. أها، انتهيت من قراءة ألف ليلة وليلة، وربما هو سبب آخر في لحاق قطار المتزوجون، بطبيعة الحال الرجال أنذال في أحيانٍ كثيرة، أقصد بالليالي طبعًا!
تعديل: ذهبت للخطيبة المحتملة، وفيما يشبه معجزة أخرى، اتفقنا، وكأن الأمر يُرتب من زمن ولو لم نعرف ذلك قط. وربما هو اسقاط ساذج آخر على أحداث عادية، أو أقل. لكن هذا ما حدث، ربما أكتب ثانية عن هبة، الفتاة، خمرية لون الوجنتين، وبابتسامة ودودٌ كانت كثيرة الحظ من اسمها، أقصد أتمنى طبعًا!
لا أحب أن تكون كتابتي الأولى إليكِ درامية، أحب فقط أن تمتد حبال الود، وأحب كونك صديقتي، وأختي التي لم أحصل عليها، وتمنيت كثيرًا أن تكون. بالطبع لي أخوات جميلات أيضًا، لكن هن أصغر كثيرًا، وهناك فجوة تفرضها السنوات على الدوام، ولا يقدر على محوها اللعب، ولا حين يجري بعضنا وراء بعض -بين غرف البيت والمطبخ أو شقة المعيشة والسطوح- في هزل الأيام وجدها. اكتبي لو تُحبي. الإيميل على مصراعيه، وتبدو الخطابات دون عبور بوابة الوورد أفضل، أسرع، أو أحن!
مودتي وريحان ..
سيد ..
7 يوليو 23م.
14 يوليو 23م.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الرسائل المشار إليها:
حبيبي يسعد أوقاته
إلى الإيمو ..