ممدوح رزق
في منتصف التسعينيات وتحديدًا عام 1994، وبعد انتهاء أحد اجتماعات الملحق الأدبي لجريدة “المساء”، وبينما كنت أجلس مع د. فتحي عبد الفتاح رئيس مركز الأبحاث في مكتبه؛ دخل موظف أمن بدار التحرير إلى المكتب وأخبر د. فتحي بأن هناك صحفيًا كان يجلس بطريقة غير لائقة في صالة الاستقبال أثناء دخول “الريّس” إلى الدار صباح اليوم، وأن “الريّس” غضب جدًا من هذا المشهد، وأجرى اتصالات من مكتبه لمعرفة أين يعمل هذا الصحفي داخل المؤسسة، وأنهم علموا بأنه أحد المحررين بالقسم الأدبي “للمساء” الذي يشرف عليه د. فتحي.
قبل أن يجيب د. فتحي عبد الفتاح على موظف الأمن بكلمة واحدة أخبرته بأنني المحرر المقصود.. سألني د. فتحي عن حقيقة ما حدث فحكيت له بأنني كنت أجلس في صالة الاستقبال لقراءة الجرائد والمجلات كالعادة قبل موعد الاجتماع وأنني كنت أضع ساقًا فوق الأخرى حينما دخل “سمير رجب” وحاشيته من باب الدار ونظر لي متوقعًا أن أُنزِل ساقي لكني لم أفعل واستمررت في تصفح الجريدة دون اكتراث قبل يواصل طريقه إلى مكتبه.. ابتسم د. فتحي أمام تفاهة الموقف ومغتبطًا في نفس الوقت من جرأة ابن السابعة عشرة الجالس أمامه ثم على الفور وبجدية حاسمة قال لموظف الأمن بالحرف: “ممدوح أكتر حد محترم شغّال معايا ومش هسمح لأي شخص يوجّه له كلمة مهما كان الشخص ده”.. رد عليه موظف الأمن بلهجة المعتذر بأنه لا توجد مشكلة تتعلق بي، وأنه لا يطلب فقط سوى أن أطيّب خاطر موظف الاستقبال قبل مغادرتي الدار لأن هذا الموظف هو من وقعت الأزمة كلها على رأسه.
بعد انصراف موظف الأمن قلت لـ د. فتحي بأن سمير رجب (أو أي إنسان آخر) لو كان قد توجّه إليّ لكي يصافحني كنت أنزلت ساقي ونهضت من مكاني وبادلته التحية بالطبع لأن هذه هي أخلاقي بصرف النظر عن رأيي في شخصه.. أجابني د. فتحي بأنه متأكد من هذا ثم طلب مني أن أقول “كلمة حلوة” لموظف الاستقبال وأنا في طريقي للخارج وهو ما قمت به بالفعل.
من السهل أن أصف انتهاء فترة عملي بـ “المساء” تحت إشراف رجل كـ د. فتحي عبد الفتاح بأنه خسارة فادحة خصوصًا أن هذه الفترة كانت مبكرة جدًا من حياتي.. مؤسسة كدار التحرير، وإنسان عظيم كـ د. فتحي الذي لا يمكن لأي كلمات أن تصفه كما يستحق حيث لم تكن تلك الذكرى التي سردتها إلا مجرد مثال لخصاله الطيبة.. أستعير هذه السطور من مقال “باقة ورد على ضريح فتحي عبد الفتاح” للأستاذ “سعد هجرس” بموقع “الحوار المتمدن”:
“ولم يكن الدكتور فتحي عبدالفتاح. الذي ساهم في تأسيس هذا المركز رئيساً تقليدياً. بل كان صديقاً للجميع. الصغير قبل الكبير. له قدرة عجيبة علي كسر الحواجز مع الآخرين. واجتذاب الموهوبين واكتشاف أصحاب الكفاءات المجهولين. الذين أصبح كثير منهم فيما بعد من نجوم الصحافة.. والسياسة”.. “والمدهش حقاً أن رجلاً بكل هذه الصفات يكون علي الأرجح فظاً غليظ القلب. وعبوساً ومتجهماً. علي النحو الذي تصوره الثقافة الشعبية السائدة والمسلسلات التليفزيونية السطحية. لكنه كان علي النقيض من ذلك تماماً. عاشقاً للحياة. يجعلك تقبل عليها وتفرح بها باعتبارها أعظم منحة حصل عليها الإنسان”.
من السهل أن يصف شاب لم يُكمل العشرين بعد هذا الأمر بأنه خسارة فادحة؛ لكن عن أي خسارة أتحدث؟.. يوجد في “المنصورة” شخصيات تماثل د. فتحي عبد الفتاح، لكن لا توجد مؤسسة كدار التحرير للطبع والنشر.. يوجد في “المنصورة” من يمتلك تاريخًا من الأدوار النبيلة التي أدّاها د. فتحي عبد الفتاح، لكن لا توجد ماكينة إعلامية وثقافية من تلك المعيّنة لكتابة التاريخ الأدبي الرسمي.. هذا ما أتحدث عنه طوال الوقت وما أؤكد عليه وما أواجه به كل الأنطاع المسليين الذين يهربون من الاعتراف بفضل المركز على انتشار أعمالهم ورواجها النقدي وفوزها بالجوائز والترجمات إلخ.. لو كان في الأمر عدالة وتكافؤ وحياد لما اعتبر الشاب الصغير أن انتهاء فترة عمله بـ “المساء” كان خسارة فادحة.. ذلك لأنه حُرم مما يستحقه دون تعويض نزيه لا يحتم عليه مكابدة الفراق لما لا يريد التخلي عنه، والانتقال بحياته من مدينة إلى مدينة أخرى والكفاح من أجل فرصة جديدة بالغة الصعوبة لكي يحفر بصمته الخاصة ضمن حدود الفضاء العام “الرسمي” المكلّف بديهيًا بالنبذ والإقصاء والتعتيم على أي بصمات خارجه مقارنة بالتوطيدات السهلة والمجانية لخطوات أبنائه.
في مقال سابق قمت بتلخيص “المسيرة المبهرة” لإحدى الشاعرات “الشهيرات” المضحكات: “كاتبة متعجرفة، توزّع هشاشتها عداوات كوميدية، اعتمادًا على مكانة في الوسط الأدبي لم تكن لتبلغها لو كانت قد كتبت كل ما كتبته وهي لا تزال مقيمة في قريتها أو حتى في المركز الذي تتبعه قريتها أو حتى في عاصمة المحافظة التي تتبعها قريتها”.. حقيقة بسيطة ومختصرة ووافية لا يخدشها صراخ المركزيين ولا يجرحها عويل المكرسين ولا يضللها الهراءات التزييفية للمغتلين.. لو كان في الأمر عدالة وتكافؤ وحياد لما كان هناك فرق بين المسارات التي يقطعها النص أو الدراسة النقدية أو العمل المترجم إذا ما كان الكاتب يسكن في بلد ما أو في بلد آخر، لو كان يدرس في مكان ما أو في مكان آخر، لو كان يعمل في وظيفة ما أو في وظيفة أخرى.. يحق لأي أحد أن يتباهى بأي مما يرى أنه يستحق التباهي به، لكن حينما تتغاضى عمدًا أو جهلًا عن فضل وتأثير الإمكانيات المتوفرة في “جغرافيتك”، والتي حرُمت منها “جغرافيا” أخرى فأنت إما جبان أو غبي.
هذه السطور من نوفيلا “جرثومة بو” الصادرة عن دار عرب 2018 :
“انغمس ذهني في استعادة التاريخ القصير لهذه اللحظة، وتحديدًا منذ يوم الثلاثاء 29 يونيو عام 1993 حيث نُشرت قصتي الأولى “انكسار” بالملحق الأدبي لجريدة المساء مع تقديم لي برفقة كاتبين آخرين هما إيناس وجيه ومحمد محفوظ.. كانت الورشة الإبداعية لمركز الأبحاث بدار التحرير الذي يديره د. فتحي عبد الفتاح قد عقدت ندوتها الأسبوعية التي تستكتشف من خلالها المواهب الأدبية الجديدة في مصر بنادي أدب قصر ثقافة المنصورة مساء الخميس 24 يونيو أي قبل خمسة أيام من تاريخ النشر.. كنت في السادسة عشر حينها، وكنت أنا وإيناس ومحمد أصغر من قرأوا أعمالهم في تلك الندوة، أما لحظة فتح جريدة “المساء” أمام بائع الجرائد في ميدان المحطة، ورؤية قصتي التي قرأتها في الندوة منشورة وبجوارها صورتي تحت تصدير للصفحة بأننا كنا مفاجأة الورشة الإبداعية، وأن الساحة الأدبية في مصر قد أُضيفت إليها من اليوم وبقوة أسماؤنا، مع التأكيد على القرّاء في نهاية التصدير بعدم نسيان هذه الأسماء ثم قطعي للمسافة بين بائع الجرائد وبيتي جريًا كي أُطلع أمي وأبي عليها فقد كانت من أجمل لحظات عمري.. كأن بابًا كبيرًا للسعادة قد فُتح فجأة داخل حياتي، ولم تتوقف خطواتي المحلقة بعد عبوره عن التقدّم لأعلى.. خلال سنة كاملة بعد هذا اليوم واصل د. فتحي عبد الفتاح نشر قصصي القصيرة التي أعطيتها في يوم الندوة للأستاذة عزة شلبي المحررة بالقسم الأدبي في “المساء”، وكانت هذه السنة هي عام الثانوية العامة بالنسبة لي.. بعد نجاحي والتحاقي بكلية الآداب قسم اللغة العربية سافرت إلى القاهرة وقابلت د. فتحي بمكتبه في دار التحرير، وطلبت منه أن أتدرّب على العمل الصحفي بالقسم الأدبي معه.. رحّب د. فتحي على الفور مُشيدًا بموهبتي، وأخبرني أن أعتبر المكان مكاني.. ستظل هذه الفترة التي قضيتها في العمل مع د. فتحي عبد الفتاح محفورة في ذاكرتي كواحدة من أروع أوقات حياتي المهنية.. أستعيد البهجة الممتنة والرائقة التي عشتها مع سفر القاهرة يوم الخميس من كل أسبوع.. السير من رمسيس أو أحمد حلمي إلى دار التحرير.. طعم سجائر البوسطن واللايت وهوليود الذي لم يتكرر.. تناول ساندويتشات الفول والطعمية وشرب الشاي والقهوة على كرسي وطاولة صغيرة أمام مقهى في شارع عماد الدين تجاوره واحدة من السينمات المهجورة منذ زمن طويل، ويظهر أفيش أحد الأفلام العربية القديمة ملصقًا على حائط داخل ظلامها المغلق ببوابة صدئة.. قراءة الجرائد والمجلات في صالة استقبال دار التحرير حتى الثانية عشر ظهرًا.. صعود السلالم.. دفع الباب الزجاجي لمركز الأبحاث.. برودة التكييف ورائحتها الممتزجة برائحة الكتب وأوراق الكتابة الصفراء.. المشي داخل المكتبة حتى الوصول إلى صالة الاجتماعات الملحق بها مكتب د. فتحي.. الجلوس فوق طاولة الاجتماعات، ومراجعة أوراق العمل.. توافد الزملاء.. خروج د. فتحي عبد الفتاح وجلوسه على رأس الطاولة.. المناقشات حول مواد الملحق الأدبي الذي يُنشر يوم الثلاثاء قبل أن يتغيّر موعد صدوره إلى الإثنين.. جلوسي مع د. فتحي في مكتبه بعد انتهاء الاجتماع.. كان كل شيء مثاليًا.. لم أكتب حرفًا واحدًا إلا وتم نشره على الفور سواء في الملحق الأدبي لجريدة المساء، أو في الصفحة الأدبية بجريدة الجمهورية التي كان يُشرف عليها د. فتحي أيضًا.. لم أصدق يوم أن نُشر مقال لي في باب “خواطر”، والذي كان معروفًا أنه مخصص لكبار الأدباء.. كان المقال عن رواية فؤاد حجازي “الأسرى يقيمون المتاريس”، وحينما رأى د. فتحي دهشتي الفرحة ابتسم وقال لي أنني أستحق أكثر من ذلك.. استمر أيضًا نشر قصصي القصيرة في “المساء” و”الجمهورية”، ونتيجة لكل هذا لم أتعجب حينما صارحني أحد الزملاء في القسم أثناء التمشية ليلًا بعد خروجنا من ندوة مناقشة “الحب في المنفى” لبهاء طاهر في أتيليه القاهرة بأن المحررين كانوا يقولون لبعضهم عند انضمامي للقسم الأدبي أن المشرحة لا ينقصها القتلى، ثم أدركوا تدريجيًا بأنني لست واحدًا من هؤلاء القتلى، خاصة بعد نشر مقالي في باب “خواطر”.
لكن باب السعادة أغلق فجأة مثلما فُتح؛ إذ أخبرني د. فتحي عبد الفتاح ذات يوم عقب انقطاعي فترة عن الحضور لسبب لم أعد أتذكره، وربما يرجع في الأغلب لخسارة جديدة استغرقت وقتًا طويلًا في صراعي الدائم ضد أسرتي للحصول على المال من أكياسهم الممتلئة؛ أخبرني أن سمير رجب أثناء غيابي قرر عقد اختبارات مفاجئة للمتدربين من أجل تصفيتهم، وبالطبع، ولأنني لم أكن متواجدًا من الأساس فقد تم إقصائي من الجريدة.
لم أشعر بمدى محبة د. فتحي عبد الفتاح وتقديره لي أكثر من هذه اللحظة التي أخبرني فيها دون أن ينظر أسفه العميق في عينيّ بأن الجريدة ستظل مفتوحة لقصصي ومقالاتي ولكن بشكل غير رسمي.. صافحني بقوة مواسية ثم أخبرني بوجود مستحقات مالية لي، يتعيّن أن أمر على الخزانة لاستلامها.. خرجت من مكتبه، وألقيت نظرة أخيرة على طاولة الاجتماعات ثم غادرت الجريدة دون مجرد التفكير في التوجّه إلى الخزانة”.