د. عـزة مـازن
في كتابه “أيها الفحم يا سيدي.. (دفاتر فنست فان جوخ)” (2018) استطاع الشاعر البحريني “قاسم حداد” أن يلمس الروح المرهفة والنفس المعذبة للفنان الهولندي “فنست فان جوخ” (1853 _ 1890)، وينطلق منها إلى أفق أرحب يلمس فيه ما يعانيه الفنان الصادق وسط ضغوط الحياة والمجتمع. على مدى فقرات متناثرة تحلق في سماء الشعر، لتلمس جوهر مأساة الفنان وعذاباته، وتغوص عميقًا في إبداعاته وتطوره الفني، يدور السرد بضمير المتكلم، فيتقمص الشاعر روح الفنان ويستنطق عقله.
ينطلق السرد من “العزلة”، وهي ما يغلف حياة الفنان وأعماله. فتأتي الفقرة الأولى بعنوان “كتاب العزلة”: “بالخطوات الوئيدة ذات الهمس، يصعد ليل الغابات الكثيف عتبات العزلة. ليل زخرفته زخات الثلج الناعم، يهطل بسلاسة الحلم. غابات لا متناهية تعبرها وحيدًا، بأقدام مرتعشة لفرط الوحشة المحكمة. لوقع أقدامك هسيس ماكر في شفيف الأبيض الطازج. ما ترفع قدمك حتى ينصب في أثرها ندف هش يتقصى خطاك بدأب العتمة الخفية”. تؤرقه العزلة وتحيره: “إلى أين أنت ذاهب على وجه التحديد. هل أنت طفل يبحث عن سكينة مفقودة في ليل الكون”؟
في الفقرة التالية “لم يكن يسأل، كان يعرف” يأتي تعليل سيطرة اللون الأصفر على كثير من لوحات فان جوخ في دفقات نثرية مشحونة بكثافة الشعر وإيحاءاته: “يصعب تقدير المسافة بين الرؤى والمرايا، بين الحال واللوحة. كل هذا الذهب الفاتن الذي خرج توًا من مصاهر السماء، تشعر به يلفح وجهك ويقهر عينيك بصفرة الخجل ويفلح أرضك البكر بسطوة الأمل (…). تلك شمس لك، تضىء طريقك إلى الرسم، لك أن تمنحها العناق بألوانه الباهرة”. وعن تلك العلاقة الوشيجة المقدسة التي ربطته بالطبيعة وجعلتها تتغلل في روحه فيقع في أسرها يقول: “ها أنذا تحت رحمة الثلج، يطلقني في الليالي ويحرسني في النهار. روحي تحت امتحان الطبيعة وجسدي في التأويل”.
في فقرة بعنوان “حنان العائلة” ينفتح السرد على جوهر معاناة الفنان وصراعه مع أبيه القس بالكنيسة، ومع التزمت والتقاليد الصارمة وسط عائلة لا تعرف من التدين سوى وجهه الصارم. اعتبرت العائلة فنه وموهبته جنونًا ولم يجد من يتعاطف معه سوى أخيه ثيودور: “لم تكن العائلة مستعدة لقبولي كشخص سوي. الجميع ينظر إلىَ بوصفي كائنًا ناقص الأهلية، يستحق الرعاية قليلًا، وكثيرًا ما يستدعي الكبح والتوبيخ والعقاب. وكلما حاولت شرح نفسي لهم، كانوا، واحدًا بعد الآخر، يمعنون في توجيه اللوم باعتباري العضو الناشز في العائلة. حين قلت لأحدهم: هل تعتبرني إبنًا عاقاً؟ قال: أنت معوق يا فنست، عليك أن تفهم هذا لكي تساعدنا على مساعدتك”. اعتبرت العائلة الموهبة والفن جنونًا، ولم يجد فنسنت فان جوخ دعمًا ومناصرة سوى من أخيه ثيودور: “الموهبة هي المسألة التي حاول ثيودور وحده دعم اقتناعي بها. كانت العائلة تراقبني من خلال ثيودور لكي يحكموا الحصار. وكان عليه أن يتفادى ذلك من جهة، ويساعدني على تفادي الأبواب والجدران من جهة أخرى. يصح القول إن ثيودور كان عائلتي الوحيدة في ذلك النظام”. ويظل ثيودور راعي فنسنت وموهبته منذ الطفولة. في فقرة بعنوان “مواثيق الطفولة” يتذكر السارد: “بدأ الرسم من هناك، حيث طفولة أشيائنا الصغيرة، تبحث عن مكامن الكمأ في جيوب التربة السرية، بعد شتاء حميم (…). الأحلام قادرة على إغرائنا بأنهار تنحت الصخر منجرفة في منحدرات الأودية. فيما الشمس حيية في نهارها، توغلنا في أكثر الغابات غموضًا وتعهدنا بالمواثيق الثقيلة ألا يموت أحدنا قبل الآخر (…). نرسم الغابة كما يحلو لنا. ندلل الطبيعة ونغنج كائناتها، نغري الجذور بمستقبل نبيل للماء. اقتسمنا المهمات والأدوار، يبعث لي ثيودور الأصباغ ورزمة الورق، ثم ينتظرني في البيت، لكي أرسم الأشجار والأكمات الغامضة بطريقة لا تشبه شيئًا قبلها. فقد سئمنا تلك الغابة. ثيودور سوف يعمل على بيع الرسوم على مستنطقي الجدران، وأبقى في غاباتي أخلط الألوان وأكدسها، وأنتظر، دون أن أعرف مصير ما أصنع. وحده سيعرف كل شىء عني، يدرك الحياة من أجلي”.
ينفي السارد عن نفسه الجنون، فقد اعتبر الآخرون الموهبة والفن جنونًا. في فقرة بعنوان “إنجيل المنجم” يصف السارد حالته: “في العمل الفني تستطيع أن تعرف ما إذا كنت موجودًا أم لا. أتوقف عن الرسم فأموت. هذا ليس اختزالًا ولا مجازًا ولا مبالغة. الأطباء أنفسهم، كل من عاينني وقف بجانب السرير، وقال: خذوه إلى الرسم. كيف يجرؤ الآخرون أن يطلقوا كلامًا على عواهنه، يعتبرونني مجنونًا، ويذهبون إلى النوم؟ المجنون يشكل العمل عقابًا له. فيما كان الرسم حياتي. الفن يمنحني التوازن في سديم الخليقة، مثل موسيقى كونية توقظ الحياة. هذا سبب يجعلني أعتبر النوم وقتًا ضائعًا إن لم أقضه في غزل خيط في قميص البشرية”. هناك في منجم الفحم حيث ذهب في مهمة وعظ دينيه للعمال، محاولًا إرضاء العائلة، اكتشف الفنان كيف تُمتهن إنسانية البشر، وتفجرت رسوماته تعبر عن تلك المأساة: “خارج المنجم سهرتُ أنتظر تلك العربات، حاملات الماء بأحصنتها البيضاء متهدلات الوبر، كما لو أنها خارجة من الأساطير (…). سهرت أحصي أحلامًا تتكدس في تغضنات تبحث عن راحة بين الماء والآخر. المشقة تصقل العمال التاعسين وهم يصعدون من حفرة الأعماق القصية، وتسحقهم أيضًا. لن تعرف الحياة إذا لم تر آبار المناجم الحجرية ذات الأنفاق اللامتناهية. جذوة الحياة كانت هناك أستحضرها كلما أوشكت على النسيان”. شعر الفنان بالخجل من الوعظ لبشر “يهلكون دون أن يلتفت إليهم أحد”: “كنتُ هناك، حملت مزاميري وذهبت أرنمها في ناس المنجم. تجاسرتُ وعرفتُ كيف أن بشرًا يهلكون دون أن يلتفت إليهم أحد. رأيت هياكل أشباح تعمل وفي أعناقها المثاقيل وتقطع الأغوار المظلمة، هياكل تشهق مثل البشر كلما تذكرت الهواء في الأعالي”. في المناجم عرف فنسنت فان جوخ بشرًا يبذلون حياتهم ليضيئوا الحياة للآخرين: “أيها الفحم، يا سيدي. كيف تقوى على إطفاء هذه الذؤابات الرهيفة فيما تضئ الحياة للآخرين؟ أيها الفحم يا ذهب النار وذريعة الحياة، من أين لك كل هذا الصمت عن صريخ الأرواح المعذبة في غياهبك”.
ينفي الكتاب ما شاع عن انتحار فينسنت فان جوخ. يروي السارد كيف خرج في “نهار مبهج” للرسم واصطحب معه بندقية صيد، أعطاها له طبيبه المعالج لإثارة الغربان. يقول السارد: “أفعل ذلك عادة، حين أرغب في رؤية الطيور فارة بأجنحة شاسعة في فضاء اللوحة”. يصعد الرسام صخرة عالية، فتفلت البندقية، ولحظة اصطدامها بالأرض تفلت قذيفة تصيب صدره. افترض الطبيب أن الفنان حاول الانتحار، فيما كان هو يفكر: “من سيكمل مشاريع اللوحات الكثيرة المنتظرة في شرفة القلب”.
“أيها الفحم، يا سيدي (دفاتر فنسنت فان جوخ)” عمل إبداعي يستنطق السيرة الذاتية للفنان فان خوخ ويحلق بها بأجنحة الشعر وكثافة لغته وإيحاءاته.