سفيان صلاح هلال
هل الشعر غير قمة الوعي في صرح جمالي مبني بالمفردات ومعشق بالعلاقات الداخلية والخارجية في فضاء التجربة، فالنص الشعري لا يولد من فراغ، ولا هو اللا شيء الذي يتخلص منه إنسان ما، ملقياً به في فضاء الوجود.
“ماركس” يرى أن ّالوعي بناء فوقي تدريجي تندرج تحته الأنشطة الإنسانية كافّة، ويرى أن الإنسان لا يستطيع العيش بمعزل عنه”،)1(
“والوعي يعبّر عن مدى إدراك الإنسان للأشياء والعلم بها، بحيث يكون في وضع اتّصال مباشر مع كل الأحداث التي تدور حوله، من خلال حواسّه الخمس، فيبصرها، ويسمعها، ويتحدّث بها وإليها، ويشمّ رائحتها، ويفكّر بأسبابه” (2)
إذن فالوعي لا ينفصل عن التجربة ولا ينفصل عن المعرفة؛ وهو نتاج تفاعلهما، ويتضح لنا هنا أن الوعي يغطي مساحة واسعة من فعل ورد فعل الإنسان … و”محمود خير الله” في ديوانه “الأيام حين تعبر خائفة (3) ” تجربة، للوعي دور كبير في شكلها ولغتها، يتضح ذلك من العنوان نفسه؛ فالأيام هي وحدة زمنية تحدث من دورة الأرض حول الشمس وتتخذ شكلها (الطقس) من عوامل جغرافية فنقول يوم ربيعي يوم شتائي يوم مطير، لكن وصف حالة الأيام حين تعبر بالخائفة هو خلع صفات حسية للكائنات الحية على شكل الأيام، وكلمة العبور تدل على صعوبة الانتقال من نقطة إلى نقطة، وترتبط في المخيلة بعبور الحواجز المنيعة مثل: عبور قناة السويس في الحرب، أو عبور الصراط فوق حافتي الجحيم، بعكس ما توحي به كلمة مرور مثلاً والتي ترتبط بالنسيم وما كان سهلاً.
نعود للسؤال وهل الأيام تخاف؟ بالطبع من يخاف هو الكائن الشاعر، أو الإنسان أو حتى الكائن الحي، وهذا الإدراك كأنه رد فعل الشاعر على توصيف حالة الحقبة الحالية من الزمن، فانعكاس خوف الإنسان والكائنات الحية على الزمن الحالي أعطاها وصف الأيام الخائفة، وهذا استشفاف من الدلالة اللغوية بخلع (الخوف) على ما لا يلحق به وهو (الزمن) مما يوسع دائرة الدلالة ويعمم الخوف، والصعوبة ليكونا حال كل ما لم يذكر الشاعر؛ وهو يذكرني بالشاعر العربي .”(4) الذي قال “وأحبها وتحبني. ويحب ناقتها بعيري” يقول الشارح (5) “إنه تلاقح المعنى” والتلاقح بوجه عام يدل على سعة الدلالة، وهنا نرصد وعي الشاعر باللغة وبالحال العامة من العنوان.
إذا تركنا العنوان ودخلنا لبداية المتن وهو الإهداء سنجد أن الشاعر لجأ إلى كاف التشبيه في وصف حبه لحبيبته التي أهداها مقدمته الشعرية، ولكن المدهش أنه لم يشبه حبه بشيء واحد بل شبهه بأشياء عدة (………….كقُبلةِ وداعٍ /مذَّقتها صافرةُ القطار،/كحافلةٍ سقطت في النهر عنوةً /فتبللت جيوبُ الموتِ فجأةً. /كالذنوبْ والخطايا. /كسنٍّ مَعدنيةٍ تلمع، /فوق شفاه قاتل. /كشمعةٍ. /كطلقةٍ في الميدان، /مُصوَّبةٍ منذ أعوامٍ، /لكنها لم تصل ـ بَعْد ـ إلى سويداء القلب، /كطريقٍ فرشناه معاً /بالأسى والحنين،/كسمكتيْن وحيدتيْن/في “حوض” ضائع/ أحبٌّك… كنُدبةٍ.”.
ما يهمني هنا ليس شرح معاني حب الشاعر لحبيبته لكن هو دلالة هذه التشبيهات الكثيرة، يقول البلاغيون: “إن للبلاغة مدلول جمالي ومدلول وظيفي، والتشبيه باعتباره أهم وسائل التعلم والإدراك؛” يدل على إدراك الشاعر لما يحيط به من واقع، والإدراك هو الوعي ولو رجعنا للفقرة السابقة سنجد أن الشاعر وإن كان يبلور لنا وعيه بالحب كمعنى ليس محدداً، بل واسعاً قد يعني الشيء ونقيضه ويمثل شبكة علاقات حية واسعة، فهو أيضا يدل على سعة وعي الشاعر بمفردات واقعه وتشابكها، ما يجعلنا نزعم أن الشاعر دائم البحث عن فك رموز هذه العلاقات للوصول للدرجة القصوى من الوعي. “ولیس ثمة تشابه أوتضادّ بین الأشیاء خارج الوعي البشري، إنما هذه العلائق هي من صناعة الخبرة البشرية في محاولتها لتجزئة الواقع من أجل التعرّف علیه وفهمه،”(6) دكتور محمد جاسم “المعنى والدلالة” .
ربما هذا هو الذي جعل قصائد الشاعر تتسم بالطول أحياناً وبالقصر أحياناً، فكما يهتم الشاعر بالمحدود والطارئ من الأفكار ويبلوره في طلقات لغوية موجهة تنقل خبرة محدودة، يهتم بتوسيع دائرة الوعي، وهو أقرب لشعراء الحالة الشعرية من شعراء المعاني المقصودة؛ فثمة ما يشبه القصد البحثي في شعره.
بوجه عام التأمل ركيزة كبيرة من ركائز هذا الديوان، وهو أيضا من منابع الوعي . في قصيدته الطويلة “عاريا يتغطى بنافذة”، لا ينفصل الشكل وبناء النص عن المضمون، بل يحدث بينهما وبين اللغة نفسها تكامل معبر عن هم الشاعر الأول وهو الوصول لقمة الوعي، فالشاعر عارياً إذا لم يعِ، وإذا كان عري الجسد يحتاج للملابس فإن عري الإدراك يحتاج للوعي والذي يحتاج بدوره للإضاء، للتنفس للنظر ….: لنافذة، وهو يحيلنا للمعنى القرآني “يا معشر الجن والإنس إن استطعتم أن تنفذوا من أقطار السماوات والأرض فانفذوا لا تنفذون إلا بسلطان” .
أما لماذا اختيار كلمة النافذة وليس أحد مرادفاتها؟. لأنها فَتْحَةٌ فِي الْحَائِطِ حرة تماما لا حواجز عليها ولا حجب هي حرة دائما وطليقة.. أما الشُّبَّاكُ : هو المنفذ المشبّك بالحديد أَو الخشبِ و يمكن التحكم في فتحه وغلقه، كما أن جرس كلمة نافذة يوحي بالعمق والنفاذ، مما يجعل طلب الوعي مقترنا بطلب الحرية والعمق والديمومة، وكان الابتداء بالحال وتأخير الفعل له دلالة معنوية تعبر عن طغيان الحاجة للفاعل المحذوف من الجملة… ثم ندخل في عالم النص لنجد نصا يشبه في بنيته بنية العمل المصور، حيث يقوم فيه شاعر بدور الراوي، ويتنقل بين مشاهد عدة، تنقل تجربة نموذجية للوعي التأملي الذي ينمو طولاً وعرضاً، ويتغذى من شبكة منابع تصب كلها في مجرى يبلور المعني. غير أنه إذا كان لكل عمل غاية يسعى إليها؛ فإن الغاية هنا هي “النافذة / الوعي” نفسه.
من البداية يقرر الشاعر أن الوعي هو سبب السعادة، وقد أعلن عن ذلك في العنوان حيث جعل النافذة برمزيتها كفيلة أن تكون غطاء ساترا، بل النوافذ هي جيش المقاومة ضد قسوة الوجود:
“لم يبقَ معي ـ دائماً ـ/وإلى النهاية، /سوى الشرفات،/ كانت تعويضاً كافياً عن العالم،/ ذلك الملعون الذي لا أم له ولا نافذة ـ/يمنحُ الحبَ بيدٍ /ويأكل بالأخرى خُبز العاشقين.” غير أن الوعي نفسه متقلب ومتطور فهو ليس جماداً تمسك به ويظل كما هو، إن استمرار الوعي حيوياً فعالاً يحتاج وعيا خاصا فإذا كان الوعي فاتنا تفوق فتنته فتنة البنت للولد بل تفوق فتنته الدال عليه “كنتُ أعشق النافذة أولاً، /وقد لا يبقى لدي وقت لأعشق /الفتاة التي أطلت منها/مصادفة،/بعض الفتيات ظهرن مرة واختفين،/في شرفات لا أزال أحبها إلى اليوم.” فإن الوعي يحتاج إلى اختبار دائم حتى لا يسقط؛ فالشاعر يعي أن هناك وعياً زائفاً يجب التخلص منه “بعض النوافذ تسقط كالثورات الزائفة، /وتتكوم كالروث /في جانب الميدان.” إن الحركة الدائبة في البحث عن النوافذ واختبارها ومتابعة صمودها وسقوطها وعلاقاتها بالمراحل العمرية للإنسان همّ الشاعر الأول، وقد ربط الشاعر هذا كله برباط قوي هو الحب، فالشرفات المعادية للحب ليست لها قدرة على الصمود “بعض الشرفات تفعل ذلك،/لأنها تلعن قصص الحب/التي انمحت من جدارها،) بينما كلما امتزج الحب والعاشق والنافذة كانت القدرة على الاستمرار والتطور والتأقلم المانح للحياة الرغدة: “أنا من هؤلاء الذين يعتقدون /أن الحبَ نافذة، /حيث لابد له أن يعيشَ وأن يتألم، /لدرجة أنني حين كنت صغيراً /كنتُ أعشق النافذة أولاً، /وقد لا يبقى لدي وقت لأعشق /الفتاة التي أطلت منها مصادفة”.
اللغة في هذا النص تصنع دلالتها عن طريق تركيبها والتي قد تبدو مفاجئة للقارئ في بعض المناطق فمثلا: حين يقول الشاعر “خسرتُ عشيقاتٍ كثيرات، لأن نوافذهن كانت أقل جمالاً من سيقانهن.” ستجد ربطا بين المحبوبة ونافذتها والتي ترمز لوعيها ورؤيتها للحياة وبين الجزء المادي من المحبوبة والذي تعبر عنه السيقان، وهنا ينتصر الشاعر للمضمون أكثر من الشكل بالدلالة. كما أن النافذة نفسها قطعة عري في حجاب هو الجدار فكيف يتغطى العاري بالعري؟ إنه الاعتماد على الدلالة في اللغة أكثر من المنطق التراتبي.
غير أن الفتنة بقيمة الوعي ليست فتنة بالبحث دون المبحوث، فالمعرفة الواعية قيمة، ولكن هذه القيمة إذا لم توظف فهي تساوي عدم وجودها. والشاعر من الرائين أن الإنسان هو المحور الأهم في الحياة والذي لا تساوي الحياة بدونه شيئا، وعنوان إحدى قصائده “العالمُ من دونِنا يتيم”، وعلى الرغم من ذلك يرى أن الطبيعة تعمل ضد نفسها وتناصب الإنسان العداء “العالم يفتح عينيه ليرانا مُعلَّقين ـ هكذا ـ في الهواء/ وضائعين تماماً، /يفتح عينيه كل يوم /ليتسلّى. /يستحق العالمُ منا أن نكونَ أذكياء،” ولو لاحظنا الجملة الأخيرة؛ سنجد أن الشاعر يعود بنا للإلحاح على أهمية الوعي، ولكن من أين يبدأ الوعي؟ إن الوعي لدى الشاعر يبدأ بقراءة الواقع من منظور تاريخي؛ فالتاريخ هو الجذر التي يتغذى منه الحاضر، إن الرغيف المستدير الذي نأكله الآن “ليس قمراً، /صدِّقوني، /إنه آخر ما تبقى من دموعِ أجدادِنا، /الذين ماتوا في سالفِ الأزمان، /ببطونٍ خاوية.” كما أن ما تجود علينا به السماء من ماء هو ليس ماء مجانياً، لكنه “ليس مَطراً ولا يَحزنونْ ـ /إنه عرقُ أجدادِنا، /الذي جمَعَه ملوكُ الأزمنة الغابرة،/ وخبَّأوه ـ كالعادةِ ـ /في عَباءةِ السماء، /ليروي الأرضَ التي يحرسُها الأحفادُ”.
ربما تظهر في هذه المقاطع رؤى مستمدة من مفاهيم شعبية لخصها المثل العامي “اللي ما فاتلوش جده ما يلاقيش حد يمده” ويمكن رصد تأثيرات كثيرة للعامي والشعبي في الديوان رغم أنه بالفصحى مثل الحلفان الشائع بالنعمة وعهد الله، والتأثر بالقرآن …. وتدل على إلحاح فكرة الوعي وتعدد مصادره وتشابكها عند الشاعر.
إذا كان الشاعر يرى أن العالم يعمل ضد الإنسان الذي يمنحه القيمة، فإنه يرى أن الإنسان نفسه يعمل ضد نفسه، نظرا لقلة وعيه بتصرفات العالم من حوله، أو دوافعه المدمرة داخل نفسه البشرية الضعيفة “أنتَ نفسَك يا عزيزي ـ /حين تسدِّد هدفاً في روحِك، /ثم تصيحُ فرحاناً،/ كآخر من أنجبَتْه الخسائر. /لا يريد العالمُ أبداً /أن يعترف أنه مثلنا، /بحاجة إلى هُدنة طويلةٍ، بين كارثتيْن، /لكي يتمكَّن من تنظيم أنفاسه، /من جديد”.
الالتفات للجانب الإيجابي للضعف الإنساني سيطر كثيراً على رؤيا الشاعر في عدة قصائد، وكأن الشاعر يستحث في الإنسان إنسانيته، ويجعله يلتفت إليها باعتبارها المخلص له من براثن العالم القاسي. فهو يلفت الإنسان إلى الوعي بنتائج تصرفاته أحيانا “وتلك المياه التي تجري منسابةً /إلى الجحيم، /ليست نهراً، /بل دموعُ أمهاتٍ فقدنَ أبناءهنّ في الحرب” ويلفت نظره إلى الجانب الخير في داخله أحيانا، والذي يحسه على استغلال كل طاقاته الإيجابية، حتى لو كانت هذه الطاقة بعد الموت الذي لابد منه، وليست بعمره القصير في الحياة فقط ” ليتني. /بعد أن أموتَ /وتصير العظامُ تراباً، /أن أتحوَّل ذاتَ مرَّة إلى شَجَرة، /ينامُ الناسُ تحتَها، /يبتسمون ويأكلون كلَّما شاءوا /وحين تجف الحياةُ في بدني، /وتصير القامة يابسةً، /تماماً، /من كثرةِ الحنين إلى الثمار، /أصيرُ جِسْراً ميتاً بين ضفتيْن”. إن الوعي لا يقتصر اكتسابه من خلال التفكير في القضايا الكبرى ذات الوجه الفلسفي لكليات الحياة، هناك قضايا صغيرة قد لا نلتف إليها تحتاج إلى الوعي بها، فالرجل الذي ضيع عمره يجري وراء لص، لم يسرق منه اللص الخلود أو معتقداته العظمى في وجوده، فقط سرق منه برتقالة تعب في انتاجها ليقايض عليها في السوق بحاجته “كان خصمي فلاحاً عجوزاً، /لو كنتُ أخذتُ قلبهَ /من بين ضلوعه، /ما كان جرى ورائي، كل هذه السنوات، /هو لا يزال يجري، إلى اليومْ.” كما أن الوعي يحتاج لإداركنا لقيمة الزمن فالحياة محدودة بالزمن، والزمن سلسلة تتسلم حلقاتها الأجيال، والأجيال مسؤولة عن بعضها البعض؛ فلولا ما ادخر الأجداد ما وجد الأبناء “المجدُ للطريقة التي نتسلل بها /حين نبلغ الأربعين، /خارجين من /البيوت الدافئة، /دون أن يلحظنا أحد”. أما الصدق في التوجه عند طلب الوعي فهو ركيزة لا تحتاج إلى كثير بقدر ما تحتاج التدقيق والحرية لاستجلاء الصدق من الدعاية الكاذبة “حيث عُلقت صورة كبير العائلة /في مكانٍ بارز، /فوق كل رؤوس النساء الثكلى والرجال الواجمين، /وسط كل هذه الموجات الهادرة من النواح، /لم أرَ أصدق من دموع هذا الرضيع، /الذي يعصر ثدي أمّه”. لا يحتاج المشهد إلى شرحه أو تأويله فالمشكلة ليست في الصور المرسومة بعناية كداعية، المشكلة في الواقع الحقيقي للحاجات والدوافع.
إن الديون يعبر عن رؤية مدركة لأهمية الوعي كمكون أولي وأساسي، تضافرت فيه الأفكار مع تراكيب اللغة لتمنحنا جرعة شعرية عظيمة التأمل بمثابة النافذة على السعادة “احصل على النافذة أولاً وأنا أضمن لك /أن القمر سيأتي صاغراً معها، /والنجوم، /والشجر سوف يأتي، /وإذا جاءك هؤلاء جميعاً، /مرة، /صدقني، /سيأتي النهرُ معهم /دائماً /من تلقاء نفسه.”
………………..
1( ـ رزان صلاح موضوع كوم
2)ـ المرجع نفسه.
3) ـ الأيام حين تعبر خائفة ديوان محمود خير الله” الصادر عن الهيئة المصرية العامة للكتاب 2019
.”(4) ـ ديوان المنخل اليشكري
(5) ـ أبو عبد الرحمن ابن عقيل الظاهري”
(6) ـ دكتور محمد جاسم “المعنى والدلالة”.