محمد عبد النبي
“في هذه الرحلة الطويلة، ستواجِه الكثير مِن الأقنعة والقليل مِن الوجوه.”
لويجي بيراندلو
في سياق الاحتفاء بالأطباء والعاملين في الحقل الطبي على العموم، خلال ذورة انتشار وباء الكوفيد-19 منذ أشهرٍ قليلة، انتشرت على مواقع التواصل الاجتماعي صورة فوتوغرافية لرَسم جرافيتي، تصوّر وجهَ طبيب يضع القناع الطبي ورأسه في المنتصف بين رؤوس أبطال خارقين خياليين مِثل الرجل الوطواط والرجل العنكبوت وغيرهما. يبدو أنَّ هذه الثيمة تكرَّرت، بأشكال مختلفة على جدران دول كثيرة، لكنَّ الصورة الأكثر انتشارًا كانت تخصّ فنان جرافيتي مِن مدينة بلجراد. وقد تكرَّر المجاز الحاكم لهذا المعنى، مع تجاوب وتردُّد أصداء الهتاف والتصفيق من شرفات بيوت الناس المعزولين في الحجر الصحي، تحية ومحبة للأطباء، مِن قارةٍ إلى أخرى، بينما بقي الطبيب ومعه أطقم التمريض والنظافة والرعاية الصحية عمومًا، مخفيين وراء أقنعة اجتماعية شفَّافة غير أقنعتهم الطبية، أقنعة تجعل منهم مجرد جنود مجهولين، تتوجَّب عليهم التضحية في صمت، مندمجين معًا في كُتلة هائلة بلا تمييز أحدهم عن الآخَر، وهو الأمر النقيض تمامًا لأصحاب الأقنعة الأخرى في الجرافيتي.
لم يكن الحال دائمًا هكذا بالنسبة لتمجيد القناع الطبي كرمزٍ للتضحية، ففي أوروبا العصور الوسطى ارتبطت صورة أطباء الطاعون بالذُعر والموت والخراب، بمظهرهم الغريب الذي يبدو كأنه خرجَ مِن أسطورة مخيفة أو تجسيد لأحد الكوابيس. كان أطباءُ الطاعون يعملون على حصر أعداد الموتى في السجلات العامة ويتعاملون بالتالي مع مرضى الطاعون وضحاياه مُباشرةً، ويوثقون وصاياهم الأخيرة، وفي بعض الأحيان يشرّحون جثثهم لأغراض بحثية، ونتيجة لهذا التعرُّض المباشر كان لا بدَّ مِن اتخاذ تدابير وقائية صارمة، لم تفدهم كثيرًا في حقيقة الأمر. لكن هكذا ظهر ذلك الزي الغريب الذي ابتكره الطبيب الفرنسي شارل دي لورم في عام 1620، فظهرت بدلة الطاعون، بقبعتها الجلدية ومعطف مِن نسيج خفيف مشمَّع يُطلى بالشحم غالبًا، والإضافة الأهم والأغراب هي أقنعة بعوينات زجاجية لحماية العينين، وأنوفٍ ممدودة لا تختلف كثيرًا عن مناقير بعض الطيور، وكان هذا الأنف الطويل يُزوَّد بمواد ذات روائح قوية وطيبة، مثل القرنفل والعنبر والكافور، بغرض تقليل إمكانية انتقال العدوى إليهم، وفقًا لنظرية طبية عتيقة هي نظرية الميازما التي تفترض أن الأوبئة تنتج عن الهواء الفاسد وتعفُّن المواد العضوية، وبالتالي فإنَّ الخطر يكمن في استنشاف الهواء الملوث، بروائحه الكريهة، المحمَّل بالأمراض. وظلَّت نظرية الميازما سارية في أوروبا لعشرات السنين، لتفسير أمراض كثيرة مثل الكوليرا والمالاريا، وهي إن كانت قد اختفت بتأثير نتائج الأبحاث العلمية الحديثة، فقد بقيت صور وأقنعة أطباء الطاعون ماثلة وحَيَّة، كأنها أشباح مِن العصور الوسطى لا زالت تربض في الأركان المعتمة مِن اللاوعي البشري. وما بين صورة الجرافيتي التي تمجد الطبيب الشهيد في الزمن الراهن، ورسوم أطباء الطاعون المخيفة، ثمة خط طويل مِن أقنعة أخرى غير طبية، تخط يمتد حتَّى بداية تكوين الوعي الإنساني، وربما وُلدَت فِكرة أوَّل الأقنعة منذ أن اكتشفَ الإنسان صورة وجهه تنعكسُ على صفحة ماء فأحسَّ كأنه شخص آخَر.
*
قد يعني مفهوم البِرسونا (The Persona) أشياء عديدة في سياقات مُختلفة، فهو يشير إلى الصورة التي يظهر عليها المرء على الملأ، صورته العامة، وأيضًا الدور الاجتماعي الذي يلعبه ويتنباه في مؤسسةٍ ما كأن يكون أبًا أو عمَّة أو رجل دين. كما أنه أيضًا قد يشير إلى شخصية خيالية في عملٍ أسطوري أو فني. الكلمة مشتقة مِن جذر لاتيني بمعنى القناع المسرحي، (per-sonare)، أي (التكلُّم مِن خلال/عَبر)، لأنَّ ذلك القناع القديم، في الدراما الإغريقية على الخصوص، غالبًا ما كان مدمجًا ببوقٍ لتضخيم الصوت لمساعدة الممثل على توصيل صوته للجمهور ولو كان بعيدًا عنه. القناع هنا لم يعد أيقونة بصرية وحسب، بل هو أيضًا أداة صوتية، يمكن عبرها للإنسان أن يتكلَّم ويرفع صوته ويدلي برأيه ويلعب دورًا، ولو كان بوجهٍ مخفي لتحقيق الأمان أو للتظاهر بأنه شخص آخَر لعبًا وفنًا. ومِن المثير للتأمُّل أنَّ القَنْع في العربية هو صوت البوق، ويعزو البعض الكلمة الإنجليزية (Mask) إلى أصلٍ عربي في كلمة (مَسْخرة).
في الحقبة الرومانية المتأخرة اكتسبَت المُفردة دلالة إضافية وهي “الشخصية الاعتبارية” أمام السُلطات، كأنَّ المواطنة الكاملة في روما قِناع معترَف به اجتماعيًا، وقد يعود ذلك لأنَّه كان على المواطن الروماني الحُر أن يُثبت خط نسبه عبر صور أسلافه أو أقنعة موتهم، وكانت تلك الأقنعة والصور تُحفَظ في المدافِن العائلية للبيوت الكبرى، ويستعان بها عند أداء طقوس العبور مثلًا للأعضاء اليافعين في الأسرة، وكان بعض الطقوس الأخرى يؤدَّى في تلك المدافن تحت الأعين الراعية لأقنعة الأسلاف، وأحيانًا كان يُستعان بممثلين في الجنائز لارتداء تلك الأقنعة في موكب طقسي يجمع الأحياء بأسلافهم الموتى.
استعانَ بمفهوم البِرسونا، عالِمُ النفس السويسري كارل يوستاف يونج (1857-1961)، للإشارة إلى الوَجه الاجتماعي الذي نتبناه لنخوض به غمارَ العالَم ونتفاعل مع المحيطين بنا، وهو قناع يصنعه كلٌ منا بيديه ليعطي انطباعًا محددًا ويخفي الطبيعة الحقيقة للفَرد، كوسيلة للحماية أو التكيُّف.
كان مِن بين المرضى الذين عالجهم كارل يونج الكاتب الإسكتلندي روربرت لويس ستيفنسُن، أشهر مَن أبدع رواية عن انشقاق الإنسان المعاصر إلى صورتين متنازعتين، تمثلان الخير والشر، في روايته دكتور جيكل ومستر هايد، وقد وصفَ له أحلامه بكيانٍ مزودح، قبلَ أن تتجسَّد تلك الأحلام فنًا وأدبًا. هذا بالطبع غير فيلم إنجريد برجمان بعنوان بِرسونا. لكن حتَّى مِن قبل يونج وبرجمان والمسرح الإغريقي وغيره مِن أشكال الفنون الدرامية القديمة في اليابان وكوريا ممَّا استعانَ بالأقنعة المسرحية، عرفَت الشعوب المختلفة الأقنعة، منذ سبعة آلاف سنة قبل الميلاد على الأقل، والأرجح أنَّ تاريخ بداية ظهورها أقدم مِن هذا، واستخدُمَت في طيف واسع مِن المراسم والاحتفالات والطقوس الدينية والاجتماعية، بأهداف تتراوح مِن التماهي مع الآلهة المستمدّة من عالم الطير والحيوان والنبات، أو استدعاء أرواح الأسلاف وكسب رضائهم.
*
زي طبيب الطاعون في العصور الوسطى
في القناع قوة أيقونية جعلت منه موضع اهتمام دائم في الفن التشكيلي، بحيث قد يقضي أحد الباحثين في هذا المجال منكبًا على هذا الموضوع وحده، بل فقط لو حاول تتبع أثر الأقنعة الإفريقية والأسيوية العتيقة أو في المجتمعات التي تتسم بالبدائية على أعمال أشهر النحاتين والرسامين في القرن العشرين. لكنَّ هذا الأثر ليس أقل وضوحًا في مجال الأدب، بما للوجه المختفي وراء حجاب مِن طاقة درامية تكاد تكون بلا نهاية، وتتضاعف تلك الطاقة بمجرد اللجوء لقناعٍ ما، فالوجه الآخَر يشق الذات اثنين ويغرس بذرة الحبكة، التي قد تتراوح أهدافها، مِن خداع الآخَرين إلى إخفاء تشوّه ما، أو التنكر وانتحال شخصية أخرى، وقائمة الاحتمالات قد تمتد طويلًا.
ويعدّ قناع فنديتا أحد أشهر الأقنعة التي شهدت انتشارًا ورواجًا في السنوات الأخيرة نظرًا للاستعانة به كرمز من رموز الاحتجاج في المظاهرات والاعتصامات. وللقناع وصاحبه الأصلي تاريخٌ قديم يبدأ مِن مؤامات سياسية مخفقة ويستمر بفضل أعمال فنية ناجحة. يعود القناع لتصوُّر خيالي لوجه رجلٍ إنجليزي اسمه جاي فوكس، (1570 – 1606)، كان أحد المتورطين في مؤامرة لاغتيال الملك جيمس الأول وإعادة الملك الكاثوليكي للعرش، حيث وضعه زملاؤه في المؤامرة حارسًا على البارود في قبو أسفل مجلس اللوردات الإنجليزي، لكن الحكاية انكشفت برسالة من مجهول للسُلطات فقبضَ على صاحبنا بجانب المتفجرات وعُذّب حتَّى اعترف بكل شيء وأعدمَ، وتمضي الأسطورة لتقول إنه سقط مِن على سقَّالة الإعدام فتجنَّب هكذا ألمَ الشنق. وصار اسمه مرادفًا لمؤامرة البارود وإخفاقها وصارَ يُحتفَل بهذه المناسبة وتحرق دمية على صورته بمرافقة الألعاب النارية. ونشرت رواية تاريخيهة باسمه، لوليام هاريسون إينسوورث عام 1840. ولولا الرواية المصورة (V for Vendetta التي كتبها آلان مور ورسمها دافيد ليود، التي بدأ نشرها مُسلسلة في 1982 ربما ظلَّ اسم الرجل مرادفًا للخيانة والتآمر للأبد. لا حاجة للقول إن الفيلم الأمريكي بنفس العنوان في عام 2006 كرَّس الأسطورة بصريًا وثقافيًا، وجعل مِن قناع فوكس رمزًا للتمرد على السلطات الفاشية وللانتقام أيضًا، في أجواء دستوبيا مُستقبلية، لا تبتعد في بعض ملامحها العامة عن واقعنا الراهن في العديد من الدول.
غيرَ أنَّ قناع جاي فوكس ليس إلَّا مثالًا واحدًا، وإن كان الأشهر ربما، مِن أقنعة كثيرة فرضت نفسها على الأدب والفن، وأمثلة مَن استعانوا برمزيته مِن الكُتَّاب قد يصعب حصرها، وإذا اكتفينا فقط بأعمال استعارت كلمة القناع في عناوينها، لوجدنا قصة قناع الموت الأحمر لإدجار آلان بو، ورواية الرجل ذو القناع الحديدي لألكسندر دوما الأب، وليس انتهاء ربما باعترفات قناع ليوكيو ميشيما. فِتنة القِناع الأدبية لا تنحصر فقط في إمكانياته الدرامية أو قوته الرمزية، بقدر ما تعود إلى لُب صناعة الأدب ومسعاه الأزلي نحو كشف الذات الإنسانية وتجريدها مِن أوهامها وصورها العابرة سريعة الزوال، وصولًا إلى جوهرها المراوغ.
وفي السينما العالَمية لن نَفتقد حضور الأقنعة في أشكال فنية متباينة للغاية، تتراوح مِن التاريخي إلى الكوميديا، كما في فيلم القناع لجيم كاري، وطبعًا الرُعب في سلسلة أفلام الصَرخة، وفي السينما المصرية كذلك لن نعدم مشاهد تستعين بالقَناع أو الأقنعة، إمَّا على سبيل بث الرُعب أو للتسبب في سوء تفاهُم يؤدي للكوميديا، أو حتَّى لإضفاء طابع رومانسي على رقصة بين بطل وبطلة في حفلة تنكرية كما في فيلم نهر الحب، وسيظل الضابط (فاروق الفيشاوي)، في فيلم المشبوه، يلجأ إلى لعبة إخفاء وجوه المُشتَبه فيهم لسنوات بعد أن هزمه أحد الخارجين على القانون (عادل إمام) ولم يرَ منه سوى عينيه. وكَم كان البُرقع في لحظات قديمة ناعمة إطارًا لتأكيد جمال العينين المكحولتين للبطلة في بعض اللحظات، أذكر منها الآن مشهد نجاة (دلال عبد العزيز) مع طه السماحي (عبد العزيز مخيون) في الجزء الأوَّل من ليالي الحلمية. هل لعبت الكمامة الطبية في الآونة الأخيرة دور البُرقع الذي يبرز جمال العينين، أم أنها ليست مُصمَّمة لمثل هذا الغرض؟ هل منعَ الخوف مِن الوباء الناس في المدن الكبيرة في العالِم كله مِن ابتكار كمامات طبية تعبر عن شخصياتهم من حيث الشكل واللون والنقوش المرسومة عليها؟ هل وجدَ البعض في الكمامة فرصة للإعلان عن ذاتٍ أخرى أو رأي مكبوت أو رغبة غير متحققة؟ هل وجدَ جميع الناس أنفسهم فجأة أبطالًا أسطوريين في فيلمٍ ملحمي كبير مِن أفلام هوليوود، ولو مِن غير قدرات خارقة؟
*
لم يكن مِن العسير على الشُعراء أن يجدوا في القناع لُقية ثمينة لأفكارهم حول الداخل والخارج، وحول الكذب والانكشاف، ومرة أخرى تكاد الأمثلة تكون بلا حصر، أقربها إلى الذهن قصيدة والت ويتمان، [بترجمة الأستاذ رِفعت سلَّام]، خارجًا مِن وراء هذا القناع، والتي يبدأها بتقرير صريح أننا جميعًا نحتجب مِن العالَم والآخرين وراء أقنعة تنكر وزيف:
خارجًا مِن وراء هذا القناع المحني المصنوع بلا براعة،
مِن هذه الأضواء والظِلال، دِرَاما الجميع هذه،
هذا الحِجاب العادي للوجه الذي أحتويه بداخلي مِن أجلي، بداخلك مِن أجلك،
بداخل كل واحدٍ مِن أجله،
(تراجيديات، أحزانٌ، ضحكٌ، دموع – أيتها السماء!
المسرحيات المشبوبة الولود التي أخفاها هذا الحجاب!)
لعلَّ ما ينشغل به ويتمان هُنا هو كل ما نحبسه ونخفيه ونكبته وراء الأقنعة المصقولة المرسومة والمعدَّة سلفًا للاستعمال الاجتماعي الآمِن والكاذب. هذه الدعوة لنزع الأقنعة تجد صداها، وإن بمحمل سياسي واجتماعي صريح، في بعض قصائد العربية. ومِن غير حاجةٍ إلى أن نجري بحثًا مطوّلًا، سنتذكر بلا مشقة، أغنية أم كلثوم (إنَّا فدائيون)، التي كتبها الشاعر عبد الفتاح مصطفى ولحَّنها بليغ حمدي، والتي يقول أوّل بيتٍ فيها: سقطَ النقابُ عن الوجوه الغادرة – وحقيقة الشيطان باتت سافرة. الأغنية مِن إنتاج العام 1967، وتدعو للقتال والفداء بينما تبشّر بالانتصار على العدو الواضح والآخرين الذين انكشفت حقيقتهم. بعيدًا عن التقييم الفني للأغنية، ولو بمقاييس الأعمال الوطنية الأخرى، فكل شيءٍ فيها ينضح بالحماس والشحن المعنوي، من الكلمات للحن لأداء أم كلثوم والكورس من الرجال ذوي الأصوات الهادرة الغاضبة. لا ينفصل كشف الحقيقة إذن عن الدعوة للفِعل والتحرُّك و(الزحف للنضال) حسب الأغنية، وإلَّا فلن يكون عندئذٍ لسقوط النقاب أي معنى أو أهمية. الوقوف على الحقيقة هنا مجرد خطوة، أوَّل بيت في القصيدة حرفيًا، تمهيدًا لرحلة النضال والتضحيات.
ثُمَّ هناك بالطبع القصيدة الشهيرة، مديح الظل العالي، ذات المكانة الخاصة لدى مُحبّي الشاعر الفلسطيني محمود درويش، اشتهرَ منها على الخصوص الجزء الذي يبدأ بقوله (سقطَ القناعُ عن القناعِ عن القناع…)، وهو الجزء نفسه الذي غنَّته ماجدة الرومي وسميح شقير وغيرهما. من بين أبياتها:
سقط القناعُ عن القناعِ عن القناعِ
سقط القناعُ
لا إخوةٌ لك يا أَخي، لا أَصدقاءُ
يا صديقي، لا قلاعُ
لا الماءُ عندكَ لا الدواء و لا السماء ولا الدماءُ ولا الشراعُ
ولا الأمامُ ولا الوراءُ
حاصِرْ حصَارَكَ… لا مفرُّ
سقطتْ ذراعك فالتقطها
واضرب عَدُوَّك … لا مفرُّ
وسقطتُ قربك، فالتقطني
واضرب عدوكَ بي .. فأنت الآن حُرُّ
حُرٌّ
وحُرُّ…
هُنا أيضًا ينطلق الشاعِر للتحريض مِن لحظة سقوط الأقنعة، لكنَّ المختلف أنّه ليس قناعًا أو نقابًا واحدًا بل كأنها متاهة مِن الأقنعة، حيث لا يعرف المرءُ العدوَ مِن الصديق ولا يميز السراب عن الحقيقة. ومع ذلك تبقى للحظة سقوط الأقنعة خصوصيتها وإضاءتها الكاشفة، والشاعِر هو مَن رأى وشهدَ وأشار، هو العين المكشوف عنها الحجاب، والفم الذي هتف بكل قوة: (الملكُ عارٍ، يا جماعة)، تمامًا مِثل الطفل البرئ في الحكاية الخرافية القديمة. رغم اختلاف الصوت وثورية الصور والبلاغة، لم يزل الشاعر هنا أيضًا هو صوت الجماعة وموقظها والآخذ بيدها، هذا هو قدره أو ربما قناعه الخاص، المصنوع من اللغة، لغة خاصة عُليا تتنزَّل عليه، مِن صوتٍ سماوي مُجلجل، لغة تنكرُ كونها حجابًا آخَر، بل كأنها النور والشعاع، وما الشاعر إلَّا حامل مصباحها وسط الخراب والظلام.
لم يعد هذا القِناع شديد التداول والإقناع وسط كُتَّاب القصيدة وقرائها في وقتنا الراهن. ربما أصبح الشعراء أكثر تواضعًا وواقعية، بالمعنى الإيجابي والسلبي أيضًا لكلمة التواضُع. باستثناء طبعًا بعض المحافل هنا وهناك، حيث لا يزال الشَاعر يعتلي المنصات ويُطلَب منه أن يجلجل بنفس الصوت السماوي القديم. الشاعر الآن يحتفي بأقنعته الخاصة، راضيًا بكونها أقنعة ويبدو كأنه لا يكترث إن كان ثمّة وجه حقيقي ونهائي خلفها. لذلك لن يجد مَن يغني قصائده، حتَّى ولو لم تكن منثورة، ولو التزمت وزنًا وإيقاعًا راقصَين، ربما لأنَّ القصائد والأغنيات القديمة ما زالت صالحة للاستعمال لنفس الأغراض القديمة، إذ يبدو أنَّ الأقنعة لم تتزحزح كثيرًا، ولم يكن سقوطها إلَّا مجرد لحظة مواتية لقصيدة أو أغنية تشعلُ شرارة الروح وسرعان ما تنطفئ كأن لم تكن.
*
الدوبلكس برنامج تليفزيوني مصري تقدّمه دُمية شهيرة اسمها أبلة فاهيتا، صانعها ومحركها ومؤدي صوتها المجهول لم يزل مجهولًا في المجال العام، ويتخذ منها قِناعًا استطاعَ أن يحقق به شهرة وانتشارًا واسعين، بعد أن شقَّ بها طريقه مِن دهاليز منصات التواصل الاجتماعي وصولًا إلى شاشات الفضائيات، عبر درجة لا بأس بها مِن الجرأة والسخرية.
في أولى حلقات أحد مواسم الدوبلكس استضافت أبلة فاهيتا راقصة مصرية ما، ودخلت الضَيفة إلى المسرح أمامَ جمهور الضيوف الذين يحضرون تصوير الحلقة (لايف)، بوجهٍ مخفي وراء قناع مِن أقنعة الكرنفالات الفينيسية، ثم شَرعت ترقص. لم تكن هويتها لُغزًا، فهذا الجسد وهذا التلاعب الماكر بالجسد يشيران لهوية واحدة فقط لا غير، دِينا، واحدة مِن الراقصات المصريات التي استطاع جسدها أن يحتل موقعًا خاصًا في مخيلة الجمهور والمتابعين لسنوات، ولأسباب عديدة، قد لا يرتبط كثيرٌ منها ببراعتها في الرقص التي لا تُنكَر. قالت الأبلة: (يا سوسو! مكسوفة! لابسة ماسك، مكسوفة!). أوَّل ما رقصت دينا رقصت على موسيقى نشرة الأخبار التي سرعان ما تحوَّلت إلى إيقاع سريع على الطبول. بلا وجه، جسدٌ فقط، تمامًا كما عمدَ المصور الفوتوغرافي المصري يوسف نبيل منذ سنوات إلى تصوير فيفي عبده جسدًا فقط بلا وجه. في المقابل نستطيع أن نستعيد الآن ما كتبه إدوارد سعيد في مقاله (تحية إلى تحية) عن ابتسامة تحية كاريوكا:
“أذكرُ على وجه الخصوص أنها كانت ترسمُ على وجهها، منذ بداية رقصها وعلى امتداد عرضها كله، ما بدا وكأنّه بسمة صغيرة غارقة في ذاتها. وكان فمها أكثر انفتاحًا ممَّا يكون عليه في العادة عند الابتسام؛ فكأنها كانت تتأمَّل جسدها، على خلوة، مُستمتعة بحركاته…”
ويواصل في مقاله الشهير، ليؤكَّد على أنَّ تلك البسمة الصغيرة هي مِن بين العلامات التي جعلت من تحية كاريوكا حالة خاصة أرقى من عشرات الراقصات، (أسماؤهن مِن نوع زوزو وفيفي) حسب قوله. ثم جملته الأثيرة: “لقد كانت بسمتها نقطة ثابتة في عالَمٍ متقلّب”.
لا بدَّ مِن مجهود مستقل لمسح ودراسة الطريق الذي مرَّ به الرقص الشرقي من ابتسامة تحية كاريوكا التي رفعت هذا الفن، إلى جانب أخريات بكل تأكيد، لما يتجاوز الإغراء والإثارة الرخيصة، إلى أن وصل إلى محطة رقصة دينا المُقنَّعة. الجسد فقط بلا ابتسامة وبلا وجه، مجرد قناع فينيسي جامِد ومُبهرَج، هو أيضًا نقطة ثابتة، رَسم بلا روح، فوق جسدٍ يتقلّب ويتلوَّى.
*
طبيب طاعون
إخفاء الوجه بقناع طلبًا للمُتعة الحرَّة المتحللة مِن المواضعات والأعراف ممارَسة قديمة كذلك، نجد أصداءً لها في رواية حُلم للكاتب النمساوي أرتو شنتسلر (1862-1931)، وقد صدرت لها حديثًا ترجمتان عربيتان عن داري نشر مصريتين، وقرأتُها بترجمة جميلة لسامح سمير عن دار المحروسة. وقد استلهمها المخرج ستانلي كوبريك، بعد أن أضفي عليها طابع عصري ونقل أحداثها إلى نيويورك، في فيلمه الشهير عيون مغلقة على اتساعها Eyes Wide Shut (1999)، حيث نتابع ضياع طبيب شاب بين رغباته المُحبطة وحُلم غريب زار زوجته وإعرابها عن رغبة ساورتها نحو غريبٍ ما في رحلة لهما، وفي إطار له صبغة تشويقية خفيفة لكنه بالأساس يعمل على المكبوت والسري، تسوقه المصادفات ليكون شاهدًا على حفل قاصر على خاصة الخاصة ولا يدخله أحد إلَّا بكلمة سر، حيث تؤدَّى عربدات جنسية غير مكبوحة بطقوسٍ ذات طبيعة خاصة تُذكّر على نحوٍ ما بالقداس الأسود أو ممارسات التجديف والهرطقة في العصور الوسطى.
يجد دكتور فريدولين، في الرواية، نفسه مندفعة نحو خيانة زوجته، نحو عيش مغامرة غير محسوبة ولو كانت نتيجتها أن يصاب بمرض جنسي أو يتورَّط في لُعبة كبار قد يفتكون به وبأسرته الصغيرة السعيدة. يجد في نفسه رغبة في الخروج عن الخط المستقيم والحياة الزوجية الرتيبة.
“أَجل، أن يخدَع، أن يكذب، أن يمثل دورًا، أمام ماريان، أمام ألبيرتينا، أمامَ الدكتور رودايجر الطيّب، أمام العالَم بأسره. أن يعيش نوعًا مِن الحياة المزدوجة، أن يكون طبيبًا قديرًا، أهلًا للثقة، وأمامه مستقبل كبير، زوج صالح ورب أسرة مستقيم، وفي الوقت نفسه، إنسان متهتك، مُغوٍ، عَدمي، يتلاعب بالناس، رجالًا ونساءً، كما يشاء له الهوى….”
نلحظُ هُنا أحد أقدم وأبرز أدوار القِناع الاجتماعية. مرة أخرى دكتور جيكل ومستر هايد، لكن بلا خير مطلق ولا شر مطلق، فقط حياة عَلنية وأخرى سرية مُختلسة مِن المتع والذنوب، حيث ولا وَجه ولا اسم، فقط قِناع مؤقّت، يمكن أن نضعه ونرفعه كما يشاء لنا الهوى.
الحرية المجنونة، والمؤقتة في الأعياد والاحتفالات والكرنفالات والحفلات التنكرية، التي قد تعود في بعض جذورها إلى طقوس ديانات قديمة في احتفالات الخمر والرقص والمتَع الجسدية الصريحة، تلك الاحتفالات التي كانت تقدس باخوس أو ديونيسيوس وكلاهما إلهٌ للنبيذ والرقص والطرب والنشوة. ظلَّت مِثل تلك الأعياد الحسية تقاوم طويلًا هيمنة الكنيسة والدين الجديد في أوروبا، حتَّى اختلطت، عند نقطةٍ ما، بفنون العِرافة والكِهانة والتطبيب الشعبي والشعوذة، إلى أن صارت جريمة كنسية تُنسَب إلى ساحرات يلتقين في أماكن بعينها لممارسة طقوس وثنية، وتنضم إليهنّ فئات مختلفة مِن المهمشين والمرتدين، بل بعض القساوسة المارقين كذلك.
نجد وصفًا مُفصلًا لمثل تلك الطقوس، تحديدًا في منطقة الباسِك خلال العصور الوسطى، لدى الكاتب الإسباني بيّو باروخا (1872-1956)، في قصة مشوّقة بعنوان سيدة أورتوبي من كتاب قصص بالعنوان نفسه، ترجمه حديثًا د. جمال يوسف زكي، وصدرَ عن سلسلة إبداعات عالمية في الكويت. في أحد الهوامش يُعرّف المُترجم كلمة الأكيلاري (Aquelarre) بأنها: (التجمّع الليلي للسَحَرة بُغية ممارسة طقوس ما قبل مسيحية، برئاسة الشيطان الذي يحاكيه تيس أسود اللون، وصل مجمّع السحرة الليلي أوج انتشاره في نهاية القرون الوسطى حتى نهاية القرن الثامن عشر في إسبانيا، وتمت محاربتهم من قبل محاكم التفتيش بتهمة الوثنية والكفر والهرطقة وعبادة إبليس في ما يعرف بمطاردة الساحرات).
في القصة نفسها يذكر الراوي أنَّ تلك الاجتماعات كانت تستقطب أصنافًا وأنواعًا عديدة مِن البَشر، لمشاهدتها والمشاركة فيها واغتنام اللذات الحسية والتجارب الجنسية المتاحة، مِن بين هؤلاء، بنص القصة: (كان الفقراء والتُعساء والمجانين مِن ضراوة الجوع وفقدان الأمل ومن احتدام الغضب، يقصدون مَجمَع السحرة الليلي “أكيلاري”، وقد ضمنوا فَلتانهم من العقاب، كي يشتموا الملك والكنيسة وأصحاب السُلطة… لعلَّ هذا الدافع الأخير، الخاص بالاحتجاج الاجتماعي، هو الذي يشكّل السمة الأكثر عمقًا لمعشر السَحرة، وأضحت ممارسة السحر في فرنسا معقدة مع نشوب الحراك الفلاحي أو الثورة (الجاكية) ضد النبلاء، في منتصف القرن الرابع عشر، مما أدَّى لتحولها لممارسة فوضوية وثورية.)
*
على نحوٍ ما، يبدو تاريخ الأقنعة واستخداماتها والمواد التي صنعت منها وأشكالها العديدة، أقرب إلى تاريخٍ مواز للتاريخ الإنساني نفسه، أو بالأحرى قناع آخَر للإنسان، قد يبدأ بقناع مِن طين على هيئة تيسٍ أو ثور حتَّى يصل إلى صورة على صفحة الفيس بوك يود صاحب الحساب منها أن تكون وسيلته للتكيف أو للحماية أو للاندماج في الحشد. ولعلَّ خطورة اللعب مع الوَجه الإنساني، بتزييفه وتلوينه وإخفائه وإعادة تشكيله أنها بالأساس لعبة مع الهوية وبها، أو بالأحرى لعبة بالوَجه، أي بأقدم وأوضح رموز الهوية الإنسانية. لَعبٌ ينطوي على رغبة أصلية في امتلاك تلك الهوية والإمساك بزمامها واستيعابها كأنها ليست شيئًا قَدريًا مفروضًا على الإنسان، متمثلة في وجهه، بل كأنَّ الهوية مجرد غرض خارجي متحوّل، يمكن وضعه ونزعه والتخلي عنه وفق الحاجة والسياق والرغبة.
في هذا كله طموح إنساني صريح لامتلاك المصير والتحكم فيه، وإن أتى أحيانًا على حساب ما يُسمَّى بالحقيقة. للكاتب والناقد الفني الأمريكي مِن أصل نمساوي، والتر سوريل Walter Sorell دراسة حول القناع في الفنون بعنوان الوَجه الآخَر، قالَ فيها: “يصيبنا وجودنا الخاص بالحيرة والارتباك، وبالتالي ننشغل بذواتنا في انهماك. انعكاس ذاتنا في صورة لا يغادرنا قَط، ذلك الانعكاس الذي نحاول أن نخترقه، ونفهمه، ونحبه. ولهذا تحديدًا يُعدُّ القِناع فاتنًا لنا، إنه محاولتنا لصوَغ صورةً ما لنا. الفنَّان الذي في داخلنا هو مَن يخلق القناع. وكانت هناك على الدوام رغبة أساسية في تقديم الجوانب العديدة للأنا، أو وضعها تحت أقنعة تنكرية أو إخفائها. العالَم حافلٌ بالأقنعة، ونحنُ جميعًا صُنَّاع أقنعة. إنها ممارسة تمثّل رغبتنا في أن نعرف مَن نكون.”
في وقتنا الراهن، تتوفَّر في سوق الهُويات جميع الأشكال التي يمكن أن نتخيلها للقناع، أقنعة المقدّس وأقنعة المدنّس، أقنعة الرُعب والخَوف وطلب الحماية، أقنعة الثورة والغضب واليأس، أقنعة إطلاق الشهوات واللعنات ضد الاستبداد والرجعية. كمامات طبية بجنيهات معدودة، تُباع على الأرصفة وفي إشارات المرور وفي محطات المترو، وأخرى تُصنَع لخاصة الخاصة من الكتان والكشمير وقد تزين بالماس وتوقَّع بأسماء أشهر مصممي الأزياء. أقنعة الحماية مِن الغاز ومِزق الأقمشة المبللة بالخل وسط سحابات القنابل المسيلة للدموع في ساحات الاحتجاج. وأقنعة أخرى افتراضية على حسابات منصات التواصل الاجتماعي نتحايل بها على الوحشة والعزلة والافتقار للثقة في النفس والآخرين.
أوضح مخاطر القِناع بكل أشكاله أن ننسى طبيعته المؤقّتة والنَفعية، وأن ندعه يستخدمنا بدلًا مِن أن نستخدمه على خشبة الفن وفي شوارع الواقع، أي أن نتماهى معه مواصلين العيش بداخله حتَّى ولو سقطت الحاجة إليه، دون قدرة على التمييز بينه وبين الوَجه الهش والمتغيّر والذي يعكسُ بتعبيراته وخطوطه كل خطوة لنا على هذه الأرض. أن يطابق المرء وجهه بِقناعٍ من أي نوع يعني أن يتخلَّى طوعًا عن طبيعته الإنسانية لصالح هوية جامدة مرسومة سلفًا مِن قِبل آخرين، أن يذوبَ في صورة لا ينال منها تغير ولا تؤثر فيها عوامل الطقس، ومع الإيغال في هذا الطريق قد تأتي لحظة لا يجرؤ فيها المرء على رَفع القناع عن وجهه، ولو بينه وبين نفسه، بافتراض انتباهه لوجود القناع من الأساس، سيظل يخشى الإطلاع على ما يخفيه القناع خشيةَ دوريان جراي من النَظر على البورتريه الخاص به والذي حمل عنه كل الآثام والذنوب التي اقترفها لسنوات، تاركًا لوجهه النضارة والبراءة والشباب كأنه لوحة في متحف. قد تأتي لحظة على الناس يبدو فيها طموح العودة إلى واحة الوجوه الأصلية حلمًا ساذجًا مكانه القصائد والروايات والأفلام، ندخل إليها ونخرج منها سريعًا، مستعيدين غابة الأقنعة الفاتنة.