محمد عبد النبي
في المساحات السابقة على فِعل الكتابة وتَخلُّق النص على السطور، تُولَد أسئلة لا مهرب منها، أسئلة القلب الصامتة وأجوبتها – إن أتت – هي نفسها القرارات الصغيرة الخاصة بالإعداد للكتابة والتفكير فيها وطريقة تَشكُّلها ونمو طموحها الفني. مِن بين تلك الأسئلة والقرارات السابقة على العمل الفني أحيانًا أو المتزامنة معه في أحيانٍ أخرى سؤالٌ قد يتخذ صيغًا عديدة: هل أُغوي القارئ أم أتحدَّاه؟ هل أرشوه أم أستفزه؟ هل يمكن التوفيق بين الطريقتين؟ وفي الأساس، هل أمارس هذه اللعبة بمفردي، دونما اكتراث بالآخَر، أم أترك مساحة للمشاركة؟ هل أسير في السّكة المضيئة المطمئنة أم أخوض زقاقًا معتمًا لا أعرف إلى أين قد يؤدي، هذا إن كان يؤدي إلى أي شيء على الإطلاق؟ تتراوح إجابات هذه الأسئلة وفقًا لكل كاتب، ووفقًا للحظة وطبيعة النص ونِيَّاته الفنية وسقف طموحه، إلى آخر نسيج يكاد يكون بلا نهاية.
أمامَ مِثل هذه الأسئلة كثيرًا ما أتذكَّر تشبيهًا سمعتُه منذ سنوات – أظنها كثيرة – مِن الأستاذ الكاتب والناقد سيد الوكيل. في الحروب، يكون للجيوش فرق استطلاعية، مَهمتها الأساسية التوغُّل لأبعد نقطة تستطيع بلوغها في خطوط المواجهة مع العدو، تلك الفرق قد تعود أو لا تعود، قد تكون سببًا في انتصارٍ حاسم وقد لا يُسفِر عملها عن شيء. حسب تشبيه سيد الوكيل، ينتمي بعضُ الفنانين والكُتَّاب إلى تلك الفرق الاستطلاعية، ولكن على جبهة الفن والأدب. هؤلاء لا يريحهم أو يرضيهم أن يمكثوا في أمان الكتيبة ودفئها، منتظرينَ الأوامر بالتحرُّك وفقَ خِطة مُسبقة وضعها القادة من أرباب الفن وسادة الصنعة. قد يكون هؤلاء أقرب إلى الغَجر والصعاليك، أو الطير الهارِب من السرب، أو الراهب المتوحّد في كهفه بالجبل النائي. وإذا صرفنا برفق تيارَ المجازات المتوالية ذلك، أقول إنَّ ذلك التشبيه لم يكن يصدق على أحد بقدر ما يَصدق على مسيرة الوكيل نفسه، وعلى تجربته العريضة (رغم ما يظهر من قلة عناوينه بالنسبة إلى رحلته الأدبية)، والكم والكيف سؤالٌ آخر أجابَ هو عنه عمليًّا.
إذا كان قد أسعدني الحظ بالتعرّف على أشخاصٍ كثيرين، شكّلوا لي إلهامًا ودافعًا نحو التعلّم والتطور والتفكير المنظَّم على مدى سنوات تكويني المبكرة، سواء في المدرسة أو في بعض بيوت الثقافة والمراكز المختلفة، فإنَّ ترددي على بيت ثقافة بهتيم منذ أواخر التسعينيات وعلى مدار نحو سبع سنوات كان مرحلةً حاسمة في ذلك التكوين، ربما لأنني تعرّفت هناك على أصدقاء عُمر حقيقيين، من جيلي وسِنّي وعلى نفس موجة الجنون والارتباك التي استحوذت علينا آنذاك. وربما أيضًا لأن المنتدى الأدبي الأسبوعي هناك ضَمَّ بين أعضائه والمترددين عليه أسماءً ذات أصالة وفرادة، أدبيًّا وإنسانيًّا. غير أنَّ كلمة السر ومفتاح اللعبة الأدبية في هذا اللقاء الأسبوعي كان هو سيَّد الوكيل، وقبل أن أتعلّم منه أدبيًّا تعلّمت منه كيف كان يعمل دائمًا على تجاوز الخلافات أو حَسمها سريعًا ولو بنكتة حارقة، وعلى إثراء الحوار وتطوير الأفكار بدلًا مِن الوقوع في فخ الصراعات الساذجة الصغيرة التي طالما شهدتُ كيف كانت تسيطر على لقاءات وندوات أخرى.
كان الجميع متورطًا وفاعلًا، لكن ظلَّ هو المركز المشع بالعاطفة والثقافة والأفكار. طبعًا تغيرتْ الأحوال فيما بعد وغادر كثيرون شبرا الخيمة ومن بينهم أستاذ سيد نفسه، وتباعدت اللقاءات بين الجميع أيضًا، كما هو معتاد ومتوقَّع تمامًا مع تعقُّد الحياة وافتراق الطرق. لكنّي لم أتوقَّف عن انتهاز الفرص للقاء سيّد الوكيل وقراءة أعماله والإنصات إلى حَكيه وآرائه، سواءٌ في أعمالي الخاصة أو في أعمال الآخرين، والشباب خصوصًا وقد ظلَّ لكثيرين منهم أبًا روحيًّا ومُلهمًا، في كل موضعٍ أو منصب شغله، مِن غير جَلبة ولا جلاجل المهرجين.
لقد تمَّ تكريم سيد الوكيل والاحتفاء به غير مرة، لكن ليس بما فيه الكفاية في ظني بالنسبة لما قدّمه عن طيب خاطر وبلا انتظار للمقابل، ومع ذلك فإنَّ تكريمه الحقيقي هو اسمه، حضور اسمه، والابتسامة الطيبة التي تشيع في النفوس وترتسم على الوجوه عند حضور اسمه، وما يقال عنه في غيابه قبل حضوره مِن كلامٍ طيب ومقدّر لدوره، مِن أشخاص ربما لم يعرفوه شخصيًا ولم يتتلمذوا على يديه، حتى ولو كانوا على خلافٍ فني معه، ولا أعرف تكريمًا خيرًا من ذلك لأي إنسان أو كاتب.
لكن لا يجب أن نحصره مع هذا في دور المعلّم الملهِم أو الأب الروحي، فهو من قبل ومن بعد الكاتب المبدع، الذي لا يستريح قليلًا إلّا ليعود – بعد وقفات التأمُّل والاحتشاد – بمغامرةٍ جديدة قد تُثير الغيرة والحسد في قلوب الكُتَّاب الأصغر سنًّا من المتشدقين بالاختلاف والخروج على الأعراف والتقاليد. سيّد الوكيل السارد ـ في غنى تام عن شهادتي – ويعرف كلَّ مَن قرأ أحد نصوصه أو كتبه أنه قاص وروائي من طراز خاص، لكنّه لا يطمئن أبدًا إلى تلك الحيل والأدوات المكرَّسة، وظل يتشبّث بشجاعة التجريب واللعب، فَكأنَّ قلبه وروحه لشابٍّ مهووس بالفن ولا يهمه أي شيء سواه، لا تكاد تهدأ غاراته على الحدود المستقرة للأنواع الأدبية، كما لا تنقطع هجماته على حصون النقد التطبيقي والنقد الثقافي. هل انتقصَ ذلك الجهد الذهني وبعض العمل العام مِن طاقته وإنتاجه في الكتابة الأدبية؟ ربما نعم، وربما كان هذا نفسه هو مصدر تميز نصوصه القليلة، فهو يكتب كأنه يفكّر، ويفكّر كأنه يحكي، ويتخفّى في صورة الأب ليلعب دورَ الصديق الحميم، ويبدو مستكينًا في ركنه الظليل ليواصل قيادة فرق الاستطلاع نحو ممالك مجهولة، بينما يكتفي الآخرون بالحُلم بها والتحدُّث عنها.