ممدوح رزق
بدأت منذ فترة قصيرة في كتابة مشروع نقدي جديد بعنوان “كيف يُصنع التاريخ الأدبي”، وإذا أردت أن أتناول الآن نموذجًا مختصرًا لإحدى الطرق التي يتكوّن بواسطتها هذا التاريخ لقدمت المثال التالي: لو أن الكاتب الذي طرح في مقاله تحليلًا لـ “القواسم المشتركة الملفتة، والجديرة بالتأمل بين نوفيلا (جرثومة بو) ومسلسل (قابيل)”؛ لو أن هذا الكاتب كان ينتمي إلى جماعة أدبية من الشخصيات التي تمتلك “مكانة مركزية” ـ وهو المصطلح الذي يتضمن المشروع النقدي المُشار إليه في البداية تعريفًا تشريحيًا له ـ لتعاقبت الأخبار والمقالات والتدوينات وفيديوهات البوكتيوبرز ومنشورات فيسبوك حول الأمر، والتي لن تتوقف بالتأكيد عند حد “التشابهات” بين النوفيلا والمسلسل، وإنما ستمتد وبتركيز شامل حول وجود “شبهة سطو” فعلية من المسلسل على النوفيلا، حتى لو تعمّد كاتب المقال “مؤلف النوفيلا” التأكيد على عدم استهدافه الإشارة أو التلميح إلى وجود سرقة أو حتى اقتباس.. ستقوم “الشلة” بما لا ينبغي أن يؤديه هو بنفسه.
لن يمر وقت طويل حتى يُسرع محررون وكتّاب ونقّاد ومدونون وقرّاء وبتزايد غير محكوم في الانضمام إلى “القضية” أو الخطوات التمهيدية لهذا “التاريخ الأدبي” الذي يتم توثيقه ليس فقط بقوة الانتشار، وإنما بما اكتسبه هذا الانتشار من لمعان النفوذ التأثيري الذي يحظى به أفراد الجماعة الأدبية التي تكفلت بالمهمة منذ بدايتها.. الأسماء التي لابد من الثقة في خطابها نظرًا لكونها “معروفة” و”ناجحة” أو”حصلت على اعتراف وتقدير المؤسسات الثقافية المرموقة”.. ستتوالى المقالات والتدوينات والفيديوهات والمنشورات فضلًا عن الحوارات والاقتباسات وإعادات النشر.
سيفتح كل ما سبق أبوابًا لا حصر لها نحو ماضي كاتب النوفيلا.. كتبه ومقالاته ومسرحياته وسيناريوهات أفلامه ومحاضراته عن الكتابة والنقد… إلخ.. سيُكتشف، وسيُعاد اكتشافه ليس فقط ككاتب، وإنما ككاتب في موضع اهتمام “رأي عام”، يدعمه “مثقفون كبار”، بعد تعرّض أحد أعماله لـ “اقتباس محتمل على الأقل” من مسلسل حقق شهرة كبيرة.. سيكون ضروريًا حينئذ أن يسعى إليه الناشرون أكثر، وأن يُكتب المزيد عن إصدارته، وأن تتسابق إليه اللقاءات الصحفية، ودعوات المناقشة، وحفلات التوقيع، والجوائز، والترجمات على نطاق أوسع.. سيتم تثبيت “التاريخ الأدبي” بفضل تلك التوالدات المستمرة، التي لا تخضع للتحديد، بوصفه “وعيًا جماعيًا رسميًا” يتنقل عبر الزمن.
يكمن السر في ثنائية الزخم والإلحاح.. وفرة العناصر التي لديها “منزلة مميزة” داخل “الوسط الثقافي”، وتعمّدها الكتابة عن الموضوع والترويج له لأطول وقت ممكن بحيث يصل إلى مستوى التجذّر الذي يجعله قادرًا على خلق نتائجه بنفسه، ومراكمة آثاره بلا عطل، ودون حاجة لمزيد من التدّخل.
أعرف أن هناك من سيتصوّر وبشكل عفوي تمامًا أن ما كتبته الآن ستكون له نبرة “الحسرة” إذا ما تحوّل إلى كلام.. أنه رثاء لأمنية لم تتحقق.. هذا الاعتقاد البائس يسعدني حقًا لأنه دليل احتياج صاحبه إلى تضليل إدراكه بأن ما ذكرته حقيقة لا يمكن إنكارها.. أنتم تعلمون جيدًا أنه الواقع، مثلما تعلمون أيضًا ـ يا أبناء الكريمة ـ لماذا عليكم الصمت أو المراوغة عند مواجهة ذلك اليقين.. لكن هذا لا ينفي قطعًا الشك المستقر داخلي منذ عرض المسلسل في رمضان 2019 تجاه وجود “استفادة ممكنة” من “جرثومة بو”، والتي يدعمها تعدد “القواسم المشتركة”، المثيرة للانتباه بالفعل، وعلى نحو أقوى مما حفّز ارتيابي في “تماثلات أساسية” بين روايتي “الفشل في النوم مع السيدة نون”، ومسلسل “30 يوم”.
نعم.. هو ثمن عدم الانتماء إلى “شلة”، ذلك لأن ما يحققه هذا “الانتماء” لم أكن أبدًا زاهدًا فيه، ببساطة لأنني أستحقه، بل وأكثر الجديرين به.. لكن في المقابل فإنني أستحق بصورة جوهرية ما يليق بي فعلًا، أي ما كنت، وما زلت عليه حتى الآن.. أن أكون وحدي، مستقلًا بفرديتي الطائشة، خارج المتن، منفصلًا عن سلطة المركز، مجرّدًا من أفضال “الصداقة”، مغتنمًا المكاسب الأنقى.. لأنني أكثر الجديرين بأن أكون لاعبًا بـ “التاريخ الأدبي”، لا قطعة من ألعابه.