“لصوص النوم”.. أحلام أمجد الصبَّان غير موجَّهة

"لصوص النوم
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

محمد عبد النبي

“سيكون أعظم السَحرة ذلك الذي يَسحر نفسه إلى درجة يحسبُ معها أوهامه أشباحًا مُستقلة قائمة بذاتها. أَفَلا تكون هذه حالتنا؟”، تَذكَّرتُ هذه المقولة وهذا التساؤل، للفيلسوف والشاعر الألماني نوفاليس (1772 – 1801)، بينما أقرأ قِصة بعنوان الأوراق، في المجموعة القصصية لصوص النوم، أوَّل كتب أمجد الصبَّان، والصادرة حديثًا عن دار الكتب خان.

في تلك القصة شخص عجيب اسمه فايز، (كان فايز يغرقُ دومًا في أحلام اليقظة. ومكافأةً على ذلك، أصبحَ كُلَّما انخرطَ في حلم يجد الحلم مكتوبًا على ورقة)، ولن نَعلم هُنا مَن الذي كافأه، لكنه كان يجد أحلامه مكتوبة على وريقات زرقاء تنزل من السماء أو تخرج من باطن الأرض، فبدأ يستغل موهبته بالنصب على روَّاد المقاهي، غيرَ أنَّ الأمور تزدادُ حرجًا وتعقيدًا حتَّى تخرج عن السيطرة تمامًا، عندما يتجاوز الأمر حدَّ الوريقات المكتوبة ويتجسَّدُ أحد أحلام يقظته واقعًا ملموسًا، وهو حلمه بجمعية خيرية تستدعي أرواح الموتى وتستضيفهم لكي يتواصل معهم أقاربُهم مِن الأحياء. وبعد سلسلة أحداث مثيرة، بعضها ضاحكٌ وغريب وفي الغالب بلا معنى، يتم اعتقال فايز وسَجنه ويُنسَى ليتعفَّن في زنزانته الصغيرة فيحاول استدعاء الأرواح لتنقذه، لكنه لا يجد غير المزيد من الورقات تحمل أسئلته التي أكلت دماغه ليلة أمس، وتتكاثر الأوراق وقد ازدادت حدَّة كأنَّها كَسْر رخامٍ مشطوف، وتزاحمه فيدخل معها معركة أخيرة قبل أن ييأس ويترك لها جسده تقطّعه ببطء.

          لُعبة الكتابة، عمومًا، وفي هذه المجموعة خصوصًا، لا تبتعد كثيرًا عن مقولة نوفاليس، لكنَّ الساحِر، في أحيانٍ كثيرة، وكَما حدث بطريقةٍ ما في هذه القصة، لا يملك سيطرة تامة على أحلامه بعد أن تتجسَّد، نصوصًا أو أشباحًا، لا فرق، إذ تمتلك تلك الأحلام حياتها الخاصة وتبدأ في التصرُّف كَما يعنُّ لها، بلا منطق واضح لأفعالها، ومِن غير أن تقارِب ذلك الهدفَ العزيز على الكُتَّاب والمفكرين والجماعة الإنسانية كلها، وهو هدف إنتاج المَعنى.

يشير الغلاف الخلفي إلى أنَّ المجموعة “مكتوبة بخيالٍ جامح، طازِج ومنطلق، ونزوعٌ تجريبي له مذاقه الخاص.”، وكلها سِماتٌ متحققة في الكتاب، غير أنها تصدق بالقدر نفسه على كتابات سردية عديدة خلال السنوات الأخيرة في مِصر. وربما نجد في قصص أميمة صبحي ومحمد فَرج على الخصوص، ما يجمعها بقصص أمجد هُنا، وهو الحِرص الشديد على التملُّص مِن المَعنى الواضح المحدَّد للحكاية أو سلسلة الأحداث بالأحرى، سواء كان هذا التملص مقصودًا أو عفويًا. فإن لم تستطع تلك الكتابات الإفلات بنجاحٍ تام مِن إنتاج معنى لها فإنها على الأقل تجعل مسألة الخروج منها بفكرة متماسكة ومقصد واضح مَهمة بالغة الصعوبة على المتلقي، إلَّا إذا استطاع أن يضفي عليها مِن ذاته ومِن مخزون خياله ما يجمع به تلك الصور المتناثرة والمختلطة والمشتبكة بحيث تتخذ صيغةً ما، أو تبدو مثلَ حكايةٍ ما، غيرَ أنَّ ذلك الاتصال بين الصور والمشَاهد شكلي تمامًا وليس محكومًا بأي منطق أو حبكة أو تسلسل زمني. كل شيء مسموح في رِحاب اللعب الحُر وتوالُد الصور بعضُها مِن بعض، كأنما تلقائيًا بلا فاعلٍ خارجي مستقل عنها، أو كأنَّ الكاتب نفسه مجرد مشاهِد مُحايد لخيالاته الذهنية وهي تتوالي مِثل انفجارات ملونة في فوضى سعيدة لدماغٍ مُجنَّح  بالهلاوس.

يصل جهد تجنُّب المَعنى هذا أحيانًا إلى حدودٍ قُصوى، حتَّى تبدو القِصة مِثل أحجية لا حَل لها، ولا حتَّى في صدر كاتبها، فَمنذُ سطور المقدمة، أو هي مدخل سردي مِن نوعٍ ما للكتاب، تواجِه القارئ حالة متطرفة مِن المراوغة وعَدم الثبات. “في مرحلتي الثانوية، أُصبتُ بانزلاق غضروفيّ في عمودي الفقري. قالت لي الطبيبة إن السبب هو المقاعد التي أجلسُ عليها؛ لذلك لا أهبط على الجالسين فوق المقاعد، أو السائرين بهمّة، أحيانًا أهبطُ على السائرين الناظرين إلى أعلى بوَلَه شديد، لكن إذا رغبتَ فيَّ، ستجدني ولا تراني – ستراني فقط على هذه الورقة لمرة واحدة – على الأسِرّة الضيقة، قد أكون تحت المرتبة، أو بين ألواحها الخشبية، أو خلف ظهرها المعدني….”.

مَن المتحدث هنا؟ الكاتب؟ قناعٌ ما له؟ أم الوحي؟ الذي يهبط على ناس ولا يهبط على آخرين؟ أم لعلَّه المعنى نفسه الذي قد يُوجُد في أبعد المواضع عن توقعنا؟ أم أنَّ هذا كله جزءٌ مِن الأحجية التي يستمتع الكاتب بتشكيلها مِن غير أن يكون هناك شيء خلفها بالمرة؟ علبة داخل علبة داخل علبة، يصغرُ حجمُ العُلب الصينية المتداخلة إلى أن نصل للأخيرة الخاوية تمامًا، نقطة الصفر التي يُحبَط أمامها كل جهد فِكري للتأويل  فيما تشتدُّ عندها أوتار الخيال في تأهب وتوتُّر.

“…تجوَّلتُ قليلًا، حتَّى أصبحتُ أجلسُ وسط بيت المرايا، لوهلة توقَّعت أنَّ كلّ الأفكار التي تخزَّنت فيّ، ستنعكس أمامي على المرايا، سأراها لأوَّل مرة، وسأستمتع باكتمالها، لكن ما انعكس، كانتا عيناي الخضراوان الحزينتان. رأيتُ شفتي تتحرَّك أمامي، وتخبرني بأنَّ الحزن الذي في عينيَّ، يرجعُ إلى أنهما لا تستطيعان أن تقرآ جملتي الأخيرة أبدًا.”

ما الذي قد ينعكس منَّا على سطح المرايا؟ ليس أفكارنا بكل تأكيد، مجرد صور، صور تنعكس على سطح مصقول، كأنَّ كل كتابة ليس إلَّا مرايا تعكس سطح العالَم، فإذا سلَّمنا بهذا لمَ لا نتلاعب بالصور لما لانهاية، نكون نحنُ الشهود والمَشَاهِد معًا، حيث يشكّل الخيال بؤرة حيَّة لإنتاج واستهلاك الصور في اللحظة ذاتها، وَهكذا يُمكن أن يُزاح المَعنى أبعد قليلًا في كل مرَّة، يُرجأ ويؤجَّل حتَّى نهاية اللعبة، ولا تنتهي أبدًا، ولعلَّ هذا هو نفسه سر الحُزن في العينين الخضراوين، انعدام المعنى النهائي المتمم لكل تلك الحكاية. ومع المعنى، قد تُزاح اللغة أيضًا إلى الدرجة الثانية مِن الاهتمام، وهي مُشكلة، مِن وجهة نظري، لأنها المادة الأساسية لكل أدب. لا أقصد اللغة بمعنى السلامة النحوية، رغم بضعة أخطاء هنا وهناك صارت قدرًا محتومًا في أغلب الكتب الأدبية مع أغلب دور النشر، بل أقصد عدم الاعتناء الكافي بالعَمل على اللغة وخصوصيتها ودور البطولة الذي تلعبه، لكنها هُنا للأسف مجرد ضيف شرف، أو على أقصى تقدير وسيلة فعَّالة لدَفع الحُلم قُدمًا ورسم الصور شِبه الكارتونية وملاحقة الشخصيات التي قد تكون هي نفسها أشباحًا أو أجنَّة في عالَم الغيب أو كائنات غير متعينة على وجه التحديد.

الجانب الإيجابي الأساسي في ألعاب أمجد الصبَّان أنها تتطلَّب قارئًا مِن طرازٍ مختلف، قارئًا آخَر غير ذلك الذي ينتظر حكايات مُسلية أو مواقف طريفة أو حتَّى همومًا إنسانية واجتماعية راهنة، بل تتطلَّب شخصًا يشبه العاطلين عن العَمل بإرادتهم، قارئًا لا ينتظر شيئًا بعينه مِن النص، ويود أن يُسهم بدورٍ في اللعبة، فهو ليس كسولًا رغم بطالته.

إذا كانت الكتابة حسب المعلّم الأرجنتيني الأمهر، “ليست إلَّا حُلمًا موجَّهًا”، فإنَّ ثمَّة كتابة تختار أن تتنازل عن حقها الشرعي في توجيه أحلامها، وقصص أمجد الصبَّان تنتمي لهذا النوع بامتياز، مستسلمة تمامًا لألعاب الخيال المجنون وصامدة في لامبالاة وراحة بال أمام اتهامها بانعدام المعنى وتكريس العبث.

 

 

         

مقالات من نفس القسم