الإسكندرية التي تستقبلهما تشهد أن قسطنطين كفافيس، الشاعر اليوناني وأحد رعاياها، عاد بعد رحلة علاج، فاقداً صوته، إلى الأبد، حتى ولو كان لدى عودته يملك أملاً واهياً كذب به الأطباء عليه، ومتأبطاً شخصاً، يتسند عليه في الحقيقة، كابن، أخ أصغر، خادم يافع، أحد أقاربه.. نحيف لكن قابل لأن يُرى، شاحب، وتُغطِّي وجهه نقاط نمش بني كثيفة، أتيح الوقت لعدد ممن رأوه يومها، كي يفتشوا عن ملامحه بين فوضاها. رأى كثيرون ذلك البنيان الهش لشاب أبيض حد الامتقاع، وتأكدوا من أنه موجود، في الشوارع المحيطة بالميناء، حيث لا يزال البحر حقيقياً أكثر من المدينة، والهابطون من السفن ليسوا، أمام أنفسهم، ذواتاً بعد، (ظلال لأجساد لم تغادر السفن بشكل كامل)، لكنهم، لسوء الحظ، كانوا أشخاصاً عابرين لم يعرفوا اسمه، لأن ذلك لن يشغلهم، كل الواقفين في نقطة مثل تلك اسمهم مسافرون، أشباح بائسون ينعكسون على أعين عملية (مجرد مرايا لا تلتقط الشخص إلا فى وجوده المباشر قبالة سطوحها). تراءى وجه ألكسندر سينجوبوليس لحمال، يلح في طلبه، بينما يزيحه المسافر بهدوء، خطوة بعد الأخرى، تراءى لبائع صحف لجوج أشار له المسافر بيد رافضة، لعاهرة أخطأت الطريق للرجل المناسب، كل هؤلاء ليسوا بالأشخاص الذين يمكن أن يؤكدوا تاريخاً، أن يمنحوا شخصاً وجوده أو يجردوه منه.
من بين كل أمتعته، ظل ألكسندر حريصاً على حقيبة صغيرة سوداء، فيها مخطوط، سيتقلص بياض صفحاته، يوماً بعد الآخر، لأنه سيكتب، يوماً بعد الآخر، رواية يجب أن تظل سراً.. لكن قسطنطين كفافيس الذي ظل يقرأ المشاهد البعيدة الممزقة، أولاً بأول، في المستشفى الأثيني، من خلف ظهر عشيقه، أو صديقه، أو حتى الشخص الذي لم يوجد، سيقرأ المسودة المكتملة في شقته بشارع ليبسوس بالإسكندرية، ولن يتهاون في تسجيل ملاحظات صارمة، بدفتر صغير في البداية، لن تلبث أن تتضخم وتتشعب، حاملةً اقتراحات، تساؤلات، ملاحظات فنية، إلى أن تُشكِّل ما يصلح لرواية موازية.
(2)
بينما يتنفس هواء الإسكندرية من جديد، كان كفافيس يتمنى أن يعيش إلى أن يقرأ الرواية كاملة، لكنه أيضاً يفكر في المدينة التي تتجسد ببطء، كأنها تبني نفسها في الواقع، على عجل، فقط لكي تبدو حقيقية أمام القادمين من وهم البحر، وبدت له الإسكندرية، في أكتوبر، نفس مدينة يوليو، الشهر الذي غادرها فيه لآخر مرة.
يحطان أقدامهما أخيراً على اليابسة، ويشعر بدوار، الدوار الذي يصيب شخصاً يطأ مكاناً لأول مرة، يعرف أنه ليس وطنه، ويسأل نفسه، حقيقةً، إن كان عاش في هذا المكان من قبل.
من موقعه في البحر، قبل ذلك بقليل، وبينما يراها تتقدم نحوه، فكر أنه بمجرد أن يتحرك على أرصفة الميناء، لن يعثر على شئ. هذه التي ينقشع عنها تدريجياً ضباب عينيه، صورة لمدينة، رسمتها يد كبيرة على ورقة هائلة مجعدة. من ينظر لمدينة وهو عائد من سفر، يهيأ له أنها مجرد خطوط مرتجلة صُفـَّت على عجل، ولم تكن الإسكندرية، التي تزحف بأناة لتصطدم في لحظة بمقدمة السفينة، (بينما يسأل نفسه أيهما سيتحطم في هذه المواجهة الوشيكة)، سوى اسم، لفظ على لسان، صوت فقط، لا يدل على أي شئ. الآن، هناك ملايين الأشياء، تثبت أن الصوت ليس مجرد صوت، تنسحب بمكر غيمة عماه (وكأنه فقد عينيه أيضاً) لترتفع بيوت وتبرق واجهات محال وتبرز أقدام بشرية من الإسفلت ما تلبث أن تكتمل حتى يصبح لها رؤوس. بالمقابل، صارت هناك، خلف ظهره، كلمة اسمها أثينا، لا شئ يثبت الآن أنها تعني شيئاً، أو تشير لشئ يرقد في الواقع، وقد تخلصت بالتأكيد من كل ما من شأنه أن يجعل منها وجوداً. صوته الذي فقده هناك، لا شئ الآن.. ليس حتى ذكرى. الخرائط، القواميس، ما يتفوه به الناس، وما يتفقون عليه، كل هذه أوهام، لن تقنعه بأن ثمة مكان يرقد على الجانب الآخر من البحر، ما يزال بعض المسافرين لم يغادروا حدوده.
لدهشة سينجوبوليس، طلب الشاعر المحتضر أن يستقل الترام. (كان سينجوبوليس يفكر، في اللحظة ذاتها، في الفصل الأول من الرواية، الذي سيكتبه على أنقاض قصاصاته المشوشة، بحيث يتم تقديم كل الشخصيات على خلفية ترام، صوت هادر يخترق المشاهد المتجاورة لشخصيات لا يعرف بعضها بعضاً، تعيش كل منها في زمن)، لكن لا أحد منهما سينظر في عيني الآخر. كلاهما يفقد النظر في هذه اللحظة . كان كفافيس، واقعياً، قد أصبح على الأرض، له قدمان يستطيع لو أمال جذعه قليلاً أن يتأكد من وجودهما. هناك حشرة معدنية هائلة تصفر في أحشاء المدينة، عليه أن يستقلها، كاختبار لا سبيل إلى تفاديه، لكي يصدق أن كل ما يراه ليس من ورق.
يمكنه، بينما تهتز به عربة الترام، التي شعر فيها وكأنه داخل حصالة نقود كبيرة في يد طفل ضخم، ( وسينقض بنفسه ذلك الخيال بعد لحظات عندما يجتاحه اليقين بأنه يجلس على كتف رجل يعظل)، أن يفكر من جديد في الرواية، أو، في الصفحات المهترئة المتباعدة والمتشابكة والكثيفة التي تشبه نية حقيقية لكتابة رواية.
ما يزال يتذكر تلك اللحظة المدهشة، عندما عثر، عقب فقدانه لصوته، على أول فقرة كتبها ألكسندر، أول مرثية (هكذا اعتبرها في حينها) والتي سيُعدِّلها الشاب قليلاً بعد ذلك في ثنايا أحد المقاطع. بعد ذلك سيظل يتذكر الرواية مقترنةً بفقدان صوته، وفي لحظة متقدمة، مع القدر المطلوب من التصالح، ذلك الذي يتكفل به الزمن بغض النظر، أو رغم أنف، الكائن، سيستدعيهما باعتبارهما الشئ نفسه.
4 يوليو 1932.
اليوم في الصباح، استيقظ شاعر بعد حلم غامض ليكتشف أنه فقد صوته. لقد أدرك قسطنطين كل شيء وهو يحاول الهمهمة بكلمات فور تأكده من أن صحوه ليس وهماً جديداً، كلمات خرجت منه صامتة، للدرجة التي هز معها صدى سكونها المخيف عظامَه.. ثم صرخ بكل وسعه: ألكسندر.. ألكسندر.. غير أن صياحه لم يصلني، ليس لأنه خرج مثل طعنة سكون مدوية.. لكن لأني لم أنم في المستشفى ليلتها.. انسللت من فراشه بخفة، لأودع صوته العالي الذي كان يحكي حياته وكأنه يدافع عن ماضيه أمام كل أشباح الحاضر.. وتسللتُ على أطراف أصابعي لأغادر جدرانه، وكأنني متواطيء بشكل ما مع كائنات أحلامه التي جردته بغتة من النطق.
على سرير ضيق، انتزع الأطباء حنجرته ولم يتمكنوا من إعادتها.
نعم.. كنت آخر شخص سمع صوته، صوته الذي لم يسمعه هو بينما كان في بحر المنام العميق يقاوم الغرق بسرد أشد ذكرياته قِدماً.. يصرخ ويبكي ويتغنج ويطلق صرخات شبق. لم يكن صوته.. بل كانت سيرة صوته، إن جاز لي التعبير، تحضر.. منذ صرخة الولادة.. ثم بكاء الرضيع.. ثم تلونات الصوت الطفل المخنث الذي يعبر المراهقة.. وصولاً لصوته الأخير الحاد الرفيع المنهك، والشاحب، حتى أنه يشبه وجهه.
سمعت صوته منذ ولادته وحتى موته.. عندما تحشرج وبدأ يذوي إلى أن انمحى تماماً.. ورغم ذلك لم أصدق أن تلك الانطفاءة ستظل على حالها عندما يستيقظ، ليكتشف أنه لم يعد قادراً على التفوه إلا بالصمت.
كان يحلم وهو نائم، وهي أغرب حرب يمكن أن يخوضها شخصٌ تعوَّد أن يحلم وهو مستيقظ، وكان ثمة شخص يتلصص على صور ماضيه، التي انسالت، حية وحرة، مع لعابه، على الوسادة.. قبل أن تجف في الصباح، مودعةً عمراً طويلاً من خزائن الجسد الهش.
لن يتذكر ما حدث في منامه الذي بث فيَّ كل الرعب الممكن في هذه الدنيا، بل إن تلك الليلة تحديداً، والتي تضاجعنا فيها طويلاً قبل نومه، وهو يتقمص شخصية طفل صغير يغرر به رجل كبيرـ كان يحب تلك التمثيليات العبثية ـ ستظل في ذاكرته ليلة بلا أحلام .. وسيظل يندهش طويلاً، كيف اقترن رحيل صوته بغياب أحلامه.. متأكداً من وجود علاقة ما، وعاجزاً عن الإتيان بشئ.
لم أره يومها وهو يحاول عبثاً البحث عن صوته في ركن، التفتيش عنه تحت الوسادة والملاءة المبعثرة الغارقة في منيه الشائخ.. تحت السرير وبين القصائد المتناثرة على فراشه، والتي لن تُكتب الحياة لأغلبها، بين التعاويذ الطبية الغامضة المشهرة أمام وجهه كمرايا، وفي أصوات جميع من حوله.. إذ أنصت طويلاً، مجدداً، لكل من يملك صوتاً.. ليتأكد أن أحداً لم يستعر نبرته.
رغم ذلك أستطيع أن أخمن أنه لم يستقبل الأمر بالرعب الذي سأستقبله به بعد ساعات قليلة، عندما أجد في كل ركن بغرفته تقريباً ورقة كُتِبت عليها عبارةٌ واحدة بخط ضخم: لن ينطق قسطنطين ب.كفافيس بعد اليوم).
قرأ كفافيس هذا المقطع فور كتابته، ليس بالضبط، لكن في نفس اليوم، قبل أن يصبح مكتوباً بيد الأمس. لم يكن يتخيل أنه سيصبح مشهداً في رواية، نواة لرواية. هو بالفعل كتب على أوراق عديدة “لن ينطق قسطنطين ب. كفافيس بعد اليوم”، بحروف كبيرة واضحة ومرتعشة جعلتها أشبه بلافتات كتبها طفل، (إعلان غامض عن ذاته، ربما تأكيد لوجوده لم يكن بحاجة له قبل ذلك، أو: دأب على أن يجافيه قبل ذلك)، وتركها مبعثرةً في عدة أركان.. لكن فكرة المنام الطويل المكتظ بكل أصواته بدت له مدهشة. أعجبه مجاز البحث عن صوته بالمعنى الحرفي، كما دَوَّنه ألكسندر سينجوبوليس، (الذي سيذكر أحد الكتب بعد خمسين عاماً أنه رافقه السنوات السبع الأخيرة في حياته، أي منذ العام 1927 على وجه التقريب، في شقة شارع ليبسوس، التي استأجرها كفافيس قبل ذلك بنحو عشرين عاما، في العام 1908، بعد أن هاجر شقيقه بول إلى باريس).
شعر بامتنان ما، مجهول المصدر، لأنه أمسك بطرف لعبة، تمنى أن تستمر. كان ألكسندر، في حدود معلوماته، يتمنى دائماً أن يكتب رواية، بعد حفنات قصائد متعثرة لم يُكتَب لها الظهور، بسبب ذائقته الصارمة بالذات.
في اللحظة التي بدأ كفافيس فيها يطالع سيرة الشخصية التي يعرف هو فقط حدود ما فيها من واقع وحدود ما فيها من وهم، كان أمامه أقل من تسعة أشهر أخرى سيحياها، إلى أن يموت في المستشفى اليوناني يوم 31 أبريل 1933، نفس يوم مولده. ألكسندر أيضاً اختار هذا اليوم لموت كفافيس في روايته، جاعلاً من مشهد احتضاره الطويل نهراً رئيسياً يشق الرواية، تنام الحكايات المسترجعة على ضفتيه.
لم يفعل ذلك بمنطق النبوءة، لكن بإلهام بدائي تحول إلى حيلة فنية، كانت ستظل كذلك لو لم يمت قسطنطين كفافيس في ذلك اليوم.
بعد ذلك، في كل الأيام التالية، وجد الشاعر مقاطع أخرى، وبدأ يشعر أن المسألة تتجاوز حد الخاطرة.
ثمة مشروع يتشكل، وعليه أن يدعمه.
(3)
في أثينا، مكثا نحو أربعة شهور، وضع خلالها ألكسندر مخططاً أولياً، مثل نيةٍ مشوشة، لكتابة رواية، لم تكن أكثر من اقتراح بسيط يضم عدداً من المقاطع القصيرة.
لا أحد يعرف بالضبط طبيعة الشهور الأربعة في العاصمة اليونانية، ربما لم يهتم كثيرون بالبحث في هذه الفترة، لأنها تلخصت في رحلة مرض رتيبة.
كانت الفرص سانحة أمام ألكسندر، دائماً، خلال الشهور المطفأة، ليقتل وقته بمغامرة. (ليس من الممكن على وجه الدقة تحديد سبب حاسم أو دافع مقنع للانطلاق في كتابة الرواية، ألكسندر نفسه سيُرجع، في مقدمة الرواية، الدافع لمشهد هش لا يمكن التأكد من وقوعه).
بالنظر لوضعية كفافيس في سرير المرض، فإنه ينام طويلاً، واهناً، أو يستسلم للأطباء، مستمعاً ليونانية نقية لا مثيل لها في الإسكندرية، حتى على ألسنة اليونانيين، يقرر أن يحاكي نقاءها عندما يعود وأن يدعو أصدقاءه لذلك، لا يدري أنه لن يتمكن من ذلك أبداً.
في أوقات الفراغ، أوقات فراغ الأطباء وأوقات صحوه التي يُمليها مرضه، يستقبل الزيارات المحتفية بوجوده، (تبدو حفلات تأبين سابقة لأوانها) مثقفون، يتعاملون معه كشاعر عاد أخيراً، وليس كمريض في التاسعة والستين.
ما إن بدأ ألكسندر حتى شعر برغبة ساحقة في أن ينتهي، والقصاصة الصغيرة الأولى التي حملت فكرة، مشهداً كثيفاً، لن تلبث أن تتعرف على طموحها بين جيرانها، لكن آفة الشخص الذي يرافق مريضاً، أنه يمنحه الأمان، كأنه عاد طفلاً، كأنه صار ميتاً، ولا يتخيل أبداً أنه أشد خطورة من ذلك بكثير، ولو كان لابد من تشبيهه بطفل أو ميت، فهو خبيث كالطفل، خبير كالميت.
بسهولة شديدة، ودون أن يحتاج لإعمال ذهنه الواهن، عرف المريض أن صديقه يكتب شيئاً، وهو يملك الفضول الكافي ليَطلع على سره.
هناك حقيبة، يتحرك ألكسندر بها على الدوام، هناك سؤال دائم عن بضعة أوراق بيضاء، وهناك عينين يعرفهما كفافيس، عينين زائغتين لشخص يكتب.
(4)
في مرحلة مبكرة من الكتابة، فكر كفافيس أنه بدوره يجب أن يمنح ألكسندر، أشياء كان الأخير بالتأكيد في حاجة إليها. ” ذلك الشاب لا يعرف عني الكثير، ولكي يحرفني، أو يشوهني، يجب أن تكون بحوزته بعض الحقائق، من دون الحقائق كيف سيحولني إلى شخص من خيال؟”، لكن كلمة، من سيل حواره لنفسه، الذي يسمع فيه صوته بنبراته، وقفت في حلقه بغتة.
الحقائق! أي فزع تبثه في قلبه تلك الكلمة، وأي زيف.. “ما يشبه الحقائق”، أو “ما يبدو حقائق”.. أحد هذين هو التوصيف السليم.
المقاطع المتنامية كانت كلها تتمحور حول مشهد لكفافيس في سرير احتضاره، في وجود كريستينا والسارد. هل ستتحقق القصة كلها من مشهد واحد طويل؟ فكر كفافيس، ثم شعر أن ألكسندر لو توفرت له مادة مغرية، فربما يفكر في تغذية ما يخطط له بشرايين عديدة. تقريباً، لم يكن ألكسندر يملك من الشخصيات القريبة لكفافيس سوى حفنة أسماء، وهو ما فسر له اكتفاءه بذلك المثلث في غرفة ضيقة. (سيعرف بعد ذلك أن تقديره خانه بعض الشئ)، شعر كفافيس بالشفقة، وهئ له أنه يرى عجز رفيقه متجسداً على الوريقات القليلة التي تبدو آمالها في التضخم محدودة. وكان عليه، من مكانه في الخفاء، أن يُسدي لألكسندر سينجوبوليس جميلاً أخيراً.
هناك أوقات فارغة لدى المريض لم ينتبه لها أحد، أوقات خارج النوم المستسلم ومواعيد الأطباء والزيارات الاحتفالية. يستطيع المريض أن ينزوي، ليقرأ المراسلات، وليرد عليها. كل شئ في هذه الفترة أصبح مكرساً لتغذية اللعبة.
(صار من المعروف تاريخياً أن قسطنطين كفافيس ترك خطابات وهمية عديدة، مسودات خطابات في الواقع، لعدد من الأشخاص، اكتُشِف بعد ذلك أنها كُتبت خصيصاً من أجل الرواية، كما عُثِر بين أوراقه، على رسائل وصفحات من مذكرات كتبها أشخاص آخرون، بعضهم امتلك ذات يوم حياة في الواقع والبعض الآخر لم يعش إلا في مخيلته، مكتوبة بخط يده الذي غيَّر منه مرة بعد أخرى).
ترك متعمداً، بضع خطابات من صديقه الحميم، الكاتب الانجليزي إي إم فورستر، أرسلها له من لندن. ارتجل ردوداً عليها، مختلفة بالطبع عن تلك التي يرسلها في الواقع، باعتبارها مسودات لما أرسله فعلاً. سرد فيها ثلاث قصص مرتجلة، باعتبارها اعترافات أخيرة. كنوع من التمويه، جعل كفافيس شخصيات اعترافاته تعيش في أزمنة لم يعرفها ألكسندر، ينتمي أحدثها لسنوات قبل تعرفه عليه، قصته الغريبة مع شاعرة كانت تحبه في بدايات القرن، مصرية، اسمها فتنة. “هذه الفتاة التي أحبتني فعلاً، عزيزي فورستر، والتي لم أعد أعرف شيئاً عنها. لقد اختفت، لم يعد لها وجود، حتى أنني أفكر أحيانا إن كانت وجدت ذات يوم. إنني أتذكر انجليزيتها الركيكة التي كانت تكتب بها القصائد، إلحاحها في المجئ بينما أطفئ شموعي في وجهها وأطردها، والأفدح من ذلك، تلك التمثيليات التي جعلتها بطلة لها في لحظات جنوني واكتئابي. كل ذلك أتذكره الآن وأنا أستحضر تلك السكندرية التي عذبتها، وكأنني أنتقم عبرها من المدينة نفسها“.
ضبط نفسه متأثراً، وترك ذلك راحةً بداخله. “اعتبرني أتمرن على كتابة يومياتي التي طلبتها مني مراراً، لقد طلب مني أصدقاء آخرون ذلك أيضاً، بل لقد ألحوا في الطلب.. لكنني متشكك، هل ثمة شخص يعنيه أن يقرأ جانباً مما كانته حياتي؟“.
الخطاب الثاني، قفز فيه اسم توتو، أو “عبد الفتاح”. إنه شخص وجد بالفعل هذه المرة، لكنه سيتحول إلى شخص آخر. “أول شئ جردته منه كان اسمه، حولته لتوتو، رغم تأففه في البداية لأنه رأى فيه تدليلاً يلائم طفل. هؤلاء الرجال السكندريون، الفقراء، يمكن أن يتسامحوا في أجسادهم لكنهم غير قادرين على تخيل خيانة أسمائهم، ثم غيرت مهنته أيضاً، حولته من ميكانيكي سيارات لبائع صحف يرتدي جلباباً نظيفاً، أي عذاب احتمله ذلك الشخص، فقط من أجل غرور جسدي، خاصة إن علمت أنه لا يجيد القراءة. لقد كان دائماً بحاجة إلى المال، بحاجة إلى شخص أجنبي“.
تذكر كفافيس توتو، لم يتحول أبداً عن مهنته، ظل غارقاً في شحومه وسلوكه الكلبي حتى غادر حياته، لكنه أراد له فعلاً أن يغير مهنته، لكي لا يشعر كلما تحسسه أنه يتشمم سيارة. يمكن لهذا الحلم أن يتحقق الآن.
قصة ثالثة عن حبه، هو، لكريستينا قسطنطين، “الحب الذي حال جسدي دونه”.. “إنها حبي بلا شك، لو قدر لي أن أختار لها مهنة لجعلتها ممرضة.. ملاك نحيف بابتسامة مغتصبة.”
“أنت لم تعرف شيئاً عن كل ذلك عزيزي فورستر، ربما وصلتك شذرات، وربما ألمحتُ لك بخجل في بعض الأحيان، كنت دائماً أعرف أنك ذكي مثلما أنت عطوف على الدوام، وقادر على أن تحتوي بائس مثلي بكرم بالغ، لكن كان يجب أن تعرف، لأنك قد تكون الشخص الوحيد الذي يمكن أن أأتمنه على تاريخي، تاريخي السري“
تمنى فعلاً أن يضيف قصصاً جديدة، أن يُشيد وهماً مكتملاً، لكنه اكتشف بحسرة أنه في كل مرة، ومع كل قصة يختلقها، كان يبتعد خطوات، باتجاه الواقع.
في الأيام التالية، شاهد وجه ألكسندر المتضرج، بحمرة الأمل التي يعرفها حين ينفتح طريق ظنه صاحبه مغلقاً، ولاحظ، رغم وهنه، أن الأوقات التي يختفي فيها أصبحت تطول تدريجياً، وأن تبريراته تقلصت، إنه يستذكره، لقد جذبه الفخ.
أدرك كفافيس أن الإلهام عرف طريقه للشاب، الحائر مثل ذبابة في كوب، وانتظر أن يرى ما ستسفر عنه يداه.
ــــــــــــــــــــــ
فصول من رواية “الحياة الثانية لقسطنطين كفافيس“، صدرت مؤخرا عن دار العين