ممدوح رزق
لم يكن هناك صراع، وإنما كان الأمر ـ كأي خدعة أخرى ـ منتهيًا قبل بدايته.. بالأحرى كان يستمر في مساره الحتمي بواسطة أجساد مؤقتة تؤدي رغمًا عنها استعراضًا شكليًا للصراع.. خرق متناثرة، تتطوّح بين طاولات المقاهي، ومقاعد الندوات، وشقق القرويين المؤجرة في مدينة لا تصنع “أبطالًا أدبيين” بل تجهّزهم لذلك فحسب بقدر استعدادهم للخروج منها في لحظة وشيكة.. أدوار نمطية، تستعمل ـ كالعادة ـ مؤدين غافلين، ليس بمقدروهم الخروج عن النص القدري المبتذل، وقد حان موعدهم المنتظر مع تجسيد مشهد قديم يتنقل عبر الزمن، ويتظاهر بكونه جديدًا أو مختلفًا، لكنه في حقيقته مجرد إعادة منتشية، تكرار محموم لهزل سخيف، تواصل الحياة من خلاله بداهتها الغامضة.. فقط على المؤدين أن يصدقوا أنها معارك حقيقية، وأن ثمة حربًا كبيرة ستُحسم على إثرها في النهاية.. تصديق لا يتطلب جهدًا؛ فهو يتصاعد بشكل تلقائي من جذوره المتشابكة في الذات، فقط يستلزم العناية المقدّرة بطبيعة الاختيارات الضرورية مما يتوهم أنه متاح بالفعل.
بالنسبة لي كانت أطراف المجابهة في زيف تلك “المعارك” واضحة ومحددة: البارعون في استغلال الحصانة الأخلاقية للشعر الأبيض، والتجاعيد المرتعشة، و”المنجز الإبداعي” الواجب تقديره، أو على الأقل التغاضي عن مساءلة صورته المتعالية، لمجرد انتمائه إلى “التاريخ”، ولكونه يعيش ما يشبه انقطاعًا نبيلًا أو رومانسيًا بالضرورة عن “حاضر فاسد”.. النائمون على بطونهم في حضّانات الهامش، ويحلمون بثقوبهم كمعجزات مضادة، يمهّد خيالها طريقًا انتقاميًا، أشبه بزفاف أسطوري نحو المتن، يمر عبر انتهازية التصعلك، ومكائد “الصداقة”، وجروح العالقين ضد إرادتهم في عقيدة “الشلة الأدبية”.. النزاع المتنامي في داخلي بين الاستمرار في الكفاح لتحويلهم إلى رفاق جدد لمغامرة طفولية قديمة لم تكتمل، أو إخضاعهم ـ منطقيًا ـ كمريدين لي، أو الانعزال التام عما يمثّله وجودهم في واقع ليسوا أكثر من امتدادات عفوية للكوابيس المستقرة التي خلقته.. كان مرور الوقت بحثًا مضنيًا عن التماسك.. تفاوضًا عسيرًا مع الارتباك المزمن.. لم يكن هناك معنى وسط كل هذه الفوضى غير أنه لا شيء قابل للتسوية، خاصة مع الإلحاح العقلي للتوصل إلى حل عاجل.. إلى سكينة حاسمة، تهيمن على الأسرار كافة، وتتلاعب بالأرواح كيفما تشاء، وتستطيع حماية نفسها من التشوش المتفاقم.
ظللت سنوات كثيرة متأرجحًا داخل حصار ما اعتدت تسميته بـ “الحواف المائعة”، أو “العتبات الضبابية”.. مفترق الطرق في التعريف الكلاسيكي للقصة القصيرة كثمن قهري لكتابتها.. لكن القصة حينما تُكتب كل مرة لن تكون فقط الجائزة التعويضية التي تستدرك بها هزيمة مستيقظة في الذاكرة، متجاوزًا ما تتصوّره حدودها المباشرة؛ وإنما ستكون أيضًا حفرًا جديدًا في الجروح المتداخلة لتلك الهزيمة، اكتشافًا آخر لعمق مستعر في أغوارها المبهمة، يتخطى الملامح الملموسة للواقع الذي ترتجف خطواتك في وعورته.. ستكون القصة تماديًا ماكرًا في التورط.
حتى بعدما تظن أنك أغلقت على نفسك أبواب ونوافذ تلك العزلة المنشودة لزمن طويل بما يشبه حصنًا اكتمل متأخرًا لدرجة تعجز عن تصديقها؛ لن يتوقف ذلك المرض عن إبقائك تحت رحمته: هل ينبغي أن تدرك من مكانك البعيد آثار تلك القصص التي كتبتها في حياة كل منهم، بحيث تتأكد من اقتران موتهم بالألم الناجم عن أن الكلمة الأخيرة كانت لك، وأنك أنت الذي ضحكت في النهاية، أم أن عليك مواصلة الكتابة فحسب؟!.