“فانتازيا الرجولة”: بين التفجير اللغوي المحسوب والمونولوجات المشتعلة

أحمد مرتضى عبده
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

أحمد مرتضى عبده

قليلةٌ هي الأعمال الشعرية المُشتعلة بالفعل الحقيقي للقصيدة والمتجاوزة كذلك لقضية الشكل المستهلكة، أو المتخطية لإشكالات الموسيقى، التي لا زالت تندلع “حرائقها” هنا أوهناك في عالمنا العربي.

هذه الأعمال القليلة دليلٌ لا يقبل الدحض على القيمة الحقيقية للشعر: أن يشتعل ويُشعل، أن يعبِّر بحق عن إنسان هذا الزمن وعن طموحاته وجروحه الخاصة والعامة، ثم أن يعبر ـ من طريق آخر ـ على أن الشعر العربي يجيد التنامي الأزمنة، ولا يقف الإبداعُ فيه على حدّ معيّن أو مكرس لجمود.

و”فانتازيا الرجولة” هو ديوان أول لشاعر مصري شاب هو محمود خيرالله، سعى من خلاله إلى إثبات الكثير،وأعطى من خلال قصائده حساً عالياً بالاختلاف، مرتكزاً على زخمٍ ماضويِّ فاض بكثير من التجارب ـ خصوصاً التجريبية منها ـ ومنطلقاً كذلك من حسٍّ عالٍ باللغة فجر معها بعض الإشكالات التي يمكن في نهاية أنفاقها العثور على نقاط ضوء عديدة، فبدءاً من ” عادةً مايسمونه إهداءً” نشعر بذلك الاختلاف حيث جاء فيه، ويهمنا هنا إيراده لتسجيل ذلك التجاوز:

إليها رغم أنف هؤلاء…

مدخنو المارلبورو، رجال الأمن في المؤسسات، شحَّاذو كورنيش النيل، عشرات السلالم إلى الدور السابع، آباؤنا الطبقوسطيون وآباؤهن البرجوازيون، بائعو الهامبورجر في الجامعة، العاطلون عن العمل في الحدائق العامة، مُخطِّطو الإسكان الفاخر، فمٌ ينصح وحوله لحية سوداء وفم ينصح وفوقه شعرٌ أبيض.. إلى آمال شحاته” .. وهكذا ندخل أجواء الديوان الذي يحتوي إحدى وعشرين قصيدةً تنتمي أغلبها إلى القصيدة النثرية ، وتحاول الانعتاق من ربقة التشابه ومحاكاة المنجز الشعري من ذات القصيدة،كما تعتمد ـ بعمومية ـ على لغة تتخلى بوعي وقصدية عن الترهل الصوري الذي يعني هنا الاحتشاد بالتركيبات الوصفية، كما تعلو فيها المونولوجات الداخلية لتشكِّل حجر زاوية لمعظم قصائد الديوان، ففي “فوتوغرافيا” ندخل عالم تلك القصيدة:

سوف أطلع مرة

هذه الأشجار المعلقة على الحائط

لنجد أننا إزاء بنائية مختلفة، بدءاً من لغة المخيلة، وانتهاء بآلية المعطى اللغوي:

وسوف أنتظر العصافير التي تهب بين أوراقها في الصباح

 والشمس الساطعةُ هذه

سوف أمشي تحتها حينما يهز الشتاء ذيله للجميع،

ساعتها سيحلو النوم

هكذا تتالى الصور البسيطة الموحية، لتضعنا أمام شاعر “يحس” بما هو فيه من اختلاف، ويجيد من خلال ذلك الحس الراقي القراءة المختلفة للظواهر، مضفورة كذلك بمحمول فكري غير معتاد.

في قصيدة “الخرابة التي لا تنتهي” نقرأ:

“أمشي مع القصيدة حتى آخر الشارع

والتجريب نائم بين فخذيّ،

يخلعُ كل دقيقة إيقاعاً”

لندخل اشتعالاً هادئاً لكنه مختلف أيضا، ومتجاوز كذلك السرد الوصفي الذي يكاد يكون ملمحاً شبه ثابت في معطى القصيدة المعاصرة ومعيارياتها، بل ان القصيدة لدى خيرالله تمثل دفقةً شعورية واحدة، تستسلم للحظة تداعٍ تفجرها على شكل حالة متكاملة، تُعنى بلقطة ـ أو ملاحظة ـ عابرة، ثم تفجِّر إحالاتها، ومن ذلك ما فعلفي لحظة شعرية سمّاها”كان يا ما كان”:

يُحكى أن

قصراً يمتد ثلاث محطات مترو

وأن كدمات وندوباً صارت تنمو في حسدي

ـ قدمي تحديداً ـ

لأن قطع الأثاث في بيتي متقاربة كشعر الرأس

إلى آخر هذه الدفقة الشعرية التي تعني هنا استسلاماً لا واعياً من الشاعر لسطوة الملاحظة ثم ابتناء متتالٍ لتداعيات مسكونة في الذاكرة بالتناقض اليومي، الذي لا يخفي هزيمة الإحساس بالطبقية العالية التي يمثلها ذلك القصر “الذي يمتد ثلاث محطات مترو”.

أيضا يُفلتُ خيرالله قصيدته من السكون الذي يعني هنا الركون إلى حركة شكلية واحدة، والاتكاء عليها في معطاه المتواتر، وهو ما يساعد عليه حدة الملاحظة التي لا يمكن إنكارها عليه:

لابد أن تكون لك “بلكونة” صغيرةً

حتى تستطيع أن تدلل فيها أحزانك،

أو تشطف فيها غضبك النهاري

مع مكاتب العمل،

وإذا اخترت لها إضاءة

فلابد أن تكون خافتة

حتى تشم رائحة الأحزان من ملابس العابرين تحتك

فالحديث الداخلي المشتعل يمور فعلاً بالاختلاف، بدءاً من التقاط الملاحظة العابرة، وانتهاء بالإحساس بالآخرين،واختيار عنوان لا تخفى دلالته ” من أعلى مرة واحدة” ويستمر منوال تلك اللحظات الكاشفة الصغيرة في قصائد”البطالة بوصفها حافظة نقود”و “ربما شجرٌ لدموعي”و “حسناً، سوف أنتظر” ولكننا نقف أمام قصيدة “اشتراك” لنجد دخولاً للشاعر في حالة طبقية واضحة، ما يدل على أن تلك الملاحظة الدقيقة تستند على وعي سياسي بالمتغيرات التي أصابت مصر ت وكانت قاعدتها سنوات  الانفتاح الرديء ـ فنجد حساً اختزالياص عالياً بالهزيمةن رغم عدم الاستسلام لها، ولكن المرارة واضحة:

لأنهم يملكون أرغفةً أكثر نظافةً

فهم ولا شك

يعطون لأطفالهم ضحكاً أكثر رنيناً

وهكذا، ما يسجِّل الشاعر كذلك نقطة انفلات أخرى تسجل اختلافها في دفتر الحضور البكر للقصيدة:

بين القطارات المزدحمة

والعربات المارقة

بظل وحيد

ويُعنى الشاعر بتسجيل كل لحظاته المشتعلة، دون اهتمام بمدى “طول” القصيدة أو عرضها، بل بمدى اشتعالها الشعري.

ورغم ما في اللغة من مباشرة وخلوها من الصورة الأخّاذة، إلا أنم الحالة ذاتها هي ما تمثل ذلكذلك الإحساس بالاختلاف، لكن تلك المباشرة أسقطت الشاعر في قصائد أخرى في انكفاءة شعرية ملحوظة، مثل قصيدتهط أخافك يا رئيس العمل”التي لم تكن على المستوى السابق من الادهاش والتمايز، بل مثلت التداعي في أسوأ حالاته/ كما كانت اللغة غير مطلقة لأي إحالة، حيث اعتمدت على مستواها العادي الأول، ومثل ذلك في ” الكل ليس في واحد” حيث يعلو الحس القصصي، والكتابة “بعرض” الفعل الشعري.

لكن خيرالله يخرج مسرعاً من تلك الوحدة، التي تعني اهتمامه بتسجيل قصائد مرحلة الديوان الزمانية قبل أي شيء آخر، يخرج إلى اختلافه الآخر، في “بضع أشجار شريرة” حيث تعود اللغة إلى طزاجتها وتحميلها بمرموزات شتّى، تفتح بدورها إحالات مختلفة:

الذين جاءوا مهرولين

معهم شعاراتهم وحواجبهم تتراقص

وضعوا في جيوبنا

أحزاناً بأغلفةٍ “سوليفان”..

يصل الاشتعال أوجَّه حينما يلجأ الشاعر إلى جوف  التسمية العلنية فيضطر إلى وصف الملتحين ـ أو الجماعات الدينية في عزّ سطوتها ـ وبـ :

الشعيرات الطويلة هذه

هي الشجر اليقيني الذي يصعدونه

تعود القصائد إلى حظيرتها الخاصة الملأى بالمونولوجات الضاجة او الهادئة أو الداخلة لحالة “ملاحظة” عابرة، أو النامية على مفارقة ملحوظة، ومع كل ذلك فإن الأمر لا يخلو من ادهاش حيناً ومن استسلام مخيلي حيناً آخر لنمطية شعرية، ومن انفلاتات محلقة في أحيانٍ أخرى، ومتخلصة من تراكمات ذهنية قد تعوق فنية القصائد أو تقطع إدهاشها ومفاجآت ذلك الإدهاش:

بالموسيقى التي تفضح دموعي

أنظر لهذا الصيف الفاني

أي شتاء سيبقى محطة أخيرةً

وأي صيف؟”

كما يستريح الشاعر للتساؤل وطروحاته، وتفجيراته الإحالية التي تتخلص غالباً من التراكمية وتعتمد على تنقية اللغة من الشوائب والترهلات:

سأبقى مع الدموع في قبرٍ واحدٍ

وسأستريحُ مع ملابسي القديمة

كزوايا ناقصة الضلوع

كما تخرج القصيدة من موضوعها  أحياناً على الاعتيادية، ففي قصيدة ” الحقد على صلاح حامد” نقع على مانفستو ثوري هاديء، فجَّرته الحاجة الدائمة للنقود،التي تعني اختناقاً من نوع آخر للمشاعر البشرية، وصلاح حامد هنا هو محافظ البن المركزي المصري ـ خالد الذكر على ورق البنك نوت ـ الذي يطارده  الشعرلء والنبلاءُ والشحَّاذون:

تقرأ مثلاً:

“البنك المركزي المصري،

جنيه واحد

المحافظ صلاح حامد

مسجد السلطان قايتباي”

كل هذا

وعلبة سجائري التي نفدت

لا أستطيع شراء غيرها

بالرموز العظيمة هذه

أما في “فانتازيا الرجولة”فثمة تراكمية اشتعالية تخرج بالقصيدة إلى أنساق مختلفةمن دخول للحالة:

أقفُ طويلاً أمام النوافذ البعيدة

طويلاً،

وأنا أستدعي أشباحي الخاصة

ثم اتكاء على ذكريات بعيدة، ثم عرض لحالات ماضوية، ثم تقرير نفسي خاص:    ” دائما لم أكن شجاعاً وأنا أشير لأمي أن فأراً يقفز فوق السرير” ثم حالة حكي مستمرة لا تخلو من وقوع تقريري أحياناً، لكنها، ومع كل ذلك تظل قصيدةً لافتةً وقابلة للجدل، ومثل تلك القبولية للجدل نجدها في قصيدة ” حفرتان من ضحك” ، حيث تدفقات تخلو من حشوٍ وتطويل:

المدينة الكبيرة اتسعت، ولم يعد هناك متّسعٌ للضحك،، صرتُ عبوساً وخائفاً من صرخاتٍ تعدو خلفي، صرخات أبي كانت تفزعني حينما يناديني باسمي، وحينما يرفض رغباتي الصغيرة، كان دائماً مفزعاً بدرجة كافية لقشعريرة تمتد لسنوات دون أن يهزها قيد أنملة خطابات الحبيبة“..

وهي القصيدة التي “تترجم” لحياة الشاعر بأقسى ما يمكن من الكتابة، كما لو أنها توثِّق لحالة شعرية ما، تعنى بالتسجيل والإيغال في انطفاءات الوطن واشتعالاته.

في أيّ حال أضاف خيرالله بديوانه ” فانتازيا الرجولة” قصيدةً أخرى إلى الحالات الشعرية المشتعلة والقليلة التي تعبر عن إنسان هذا الزمن العربي، بكل ما تستطيع من قراءة نفسية خاصة، لخارجٍ لا يخلو من إحباطات، واشتعالات وهزائم مروعة.

…………..

*القدس العربي

عودة إلى الملف

 

مقالات من نفس القسم