د. مصطفى الضبع
ما نتعلمه في المدرسة وما يتلقاه الطالب في الجامعة يجد تطبيقه العملي في الشارع، الشارع بوصفه مدرسة تفرد مساحة للتعلم، والاكتشاف والمشاهدة الحسية التي تؤكد أو تترجم، تبني أو تهدم، في الشارع نكون سفراء لبيوتنا وممثلين لعائلاتنا وثقافتنا وتعليمنا وحضارتنا.
لا يغير الإنسان سلوكه الشارعي مع تغير المدن، تصرفك في الشارع تعبير عن طبيعتك المكتسبة، الحاملة جيناتك الوراثية من سلوك تتناقله الأجيال، لن أحيلكم إلى شوارع قاهرة الخمسينيات والستينيات يوم كان تعداد سكانها بضعة آلاف، ولكن لنتذكر حقيقة لا تخفى على كل ذي بصيرة أن معظم مدن العالم تتصف بالزحام لكنها لا تعانيه، معاناة الزحام تعني غياب النظام، وافتقاد ثقافة الشارع في صيغتها الحضارية، معاناة الزحام تعني غياب المؤسسة التعليمية والتربوية وغياب الإعلام في جانبه التربوي (في دول العالم التي تفهم التعليم بطريقة أكثر تحضرا تحرص المؤسسات التعليمية على تعليم النشء سلوكيات الحياة قبل تعليم القراءة والكتابة ) إن تعليم الإنسان احترام إشارة المرور لا يتطلب كونه متعلما، وتعليمه الاحترام للآخر لا يرتبط بكونه حاصلا على عليا الشهادات.
شوارعنا شاهد على غياب الحس النقدي،ذلك الحس الذي يجعلك تطور من سلوكك في الشارع، وتكون حريصا على تقديم نفسك بوصفك سفيرا لنفسك، لشخصيتك التي هي نتاج كل ما عرفته من بلاغة وفهمته من الدين واستوعبته من الشعر وأدركته من الأدب بمعنييه: الأخلاقي والفكري، ويجعلك قادرا على أن تحفظ لنفسك قدرا من الاحترام ( الاحترام ليس قرارا حكوميا، ولا دستوريا، هو قرارك الداخلي تعبيرا عن دستورك غير المكتوب الذي تضعه لنفسك وتتوافق عليه كل حواسك ومشاعرك ).
مما يؤسف له إن القوانين (مهما كانت قوتها ) لا تتحقق في الشارع إلا بقبول الأفراد ورضاهم التام عن أنفسهم لضبط سلوكهم، يحدث كثيرا أن تضع الحكومات والأنظمة قوانين ( ما أكثرها ) لكنها تفقد كل معانيها عند مستخدميها أو المستهدفين منها، يمكنك مراجعة اللوحات الإرشادية المنظمة لصعود الركاب ونزولهم من مترو الأنفاق بالقاهرة لتدرك طبيعة المارثون الذي يمارسه المصريون يوميا، مارثون التزاحم والتصادم صعودا وهبوطا من المترو دون أن يفكر أحد في الالتزام بالإرشادات المنظمة لحركة مستخدمي المترو وهو ما يشكل عبئا على الجميع.
صناعة المدن تمر بثلاث مراحل أساسية عبر ثلاثة أنواع من البشر:
- قرار الإنشاء والتمويل : ويخص الحكومات والأنظمة السياسية.
- التخطيط والإنشاء: ويخص المؤسسات المكلفة بذلك ( قد تكون مؤسسات غير وطنية غير أنها تحسن التخطيط والإنشاء وصناعة الجمال)
- الاستهلاك: ويخص المواطن ساكن المدينة ومستهلك مرافقها، والقادر – حسب نمط استهلاكه – على إطالة عمر المدينة أو تقصيرها أو حتى إهلاكها سريعا.
وعلى أهمية المرحلتين الأولى والثانية فإن المواطن ( المستهلك ) هو ما يحافظ على المدن ويمنحها احترامها ويضمن لها البقاء، وكم من مدينة تحققت فيها كل عوامل التحضر غير أن سكانها أفقدوها كل مقدراتها،تماما كالسيارة الجديدة التي تأتيك من شركة مصنعة ضمنت لها كل وسائل الرفاهية لكن طريقة استخدامك لها يعجل بالقضاء عليها أو الحفاظ عليها في أحسن حال.
لا خلاف على العلاقة الوطيدة القائمة بين نمط الحياة و ثقافة المواطن ودرجة وعيه، والتناسب بينهما قائم لا محالة، قائم بين ارتفاع الوعي والحفاظ على المدن، قائم بين الوعي النقدي خاصة وجمال المدينة وحسنها التاريخي، غير أننا نقصر كثيرا في الربط بينهما أولا وفي تنمية الوعي اللازم للحفاظ على مدننا، ذلك الوعي الذي يحفزنا على تجاوز القبح والخراب وإحلال الجمال محله ( راجع حال مدن أوروبا بعد الحرب العالمية من خلال عشرات الفيديوهات على اليوتيوب، سترى مدنا محطمة منهارة يشعرك أنها لن تقوم لها قائمة يوما ولكن شتان بين ما كانت عليه وحالها الآن مع الوضع في الاعتبار أن أهل هذه المدن لم يستيقظوا يوما ليجدوها قد تبدلت من خراب قبيح إلى عمران جميل لا يختلف عليه اثنان.
إن صناعة المدن وإقامة الجمال فيها لا تحميه القرارات الحكومية وحدها وإنما تتصدى لحمايته أذواق السكان وثقافتهم ودرجة تحضرهم المستمدة بقدر أكبر من تعليمهم أولا وتربية سلوكياتهم ثانيا و امتلاكهم الوعي النقدي ثالثا.
المدن نصوص تحتمل قراءات متعددة غير أنها قراءات تعتمد على الذائقة دون غيرها، و أن تقارب مدينة فهذا يعني أن علاقة قائمة على الشعور بالجمال قد وجدت طريقها إلى وعيك بالمدينة وإدراك الجمال فيها فإذا حدث ذلك فنحن إزاء علاقة لها طبيعتها الخاصة بين نص جميل ووعي أجمل بما يكتنزه النص.
إن غياب الذائقة قد كشف عن وجهه القبيح في تفاصيل مدننا وفي معاناتها من سلوكيات كارثية لا تغيب عن بصيرة الزائر أو المقيم ولا مجال لإصلاحها إلا بأن نشعر بأهمية امتلاكنا وعيا قادرا على تجنيب مدننا آثار ما لم نتعلمه وأضرار ما نكتسبه من سلوكيات يمكنك بسهولة إدراكها في الزحام غير المبرر في الشوارع، وفي التلوث غير المقبول في مجرى النيل وفي حجم الحوادث التي تعد مشهدا متكررا في الطرق السريع منها والبطيئ.
إننا ببساطة في مشهد عبثي يفتقد لكل منطق، ويتطلب كل ما نملك من وعي للتغيير، تغيير عبثية المشهد إلى منطقية الحياة الإنسانية التي تليق بإنسان الألفية الثالثة.