ممدوح رزق
“محمد عمار” .. شاعر عامية في نهاية الخمسينيات من العمر .. واحد من الذين تواجدوا في المرة الوحيدة التي ذهبت خلالها إلى منتدى عروس النيل الأدبي .. لكنني لم أعتبره من ضمن الحاضرين .. لماذا؟ .. لأنه كان طوال الوقت جالسًا بمفرده عند باب القاعة، بعيدًا عن الطاولة الكبيرة التي تُدار الندوة فوقها، ولا يتكلم أبدًا .. لأنه الوحيد الذي كان يرتدي جلبابًا، بدا كعلامة سخرية من المكان وشخوصه، ليتناغم مع الابتسامة الصغيرة الهازئة التي كان يتطلع بها من حين لآخر نحو الوجوه المحيطة بطاولة الندوة .. لأن الضجر الذي كان يرتسم على ملامحه السمراء الشاحبة بوضوح، وينبعث من عينيه الغائرتين وراء زجاج نظارته السميك كان يدفعه على فترات متقاربة للنهوض من فوق كرسيه ثم الوقوف خارج عتبة الباب لإشعال سيجارة، والاستمتاع لحين الانتهاء من تدخينها بنسيم المساء الصيفي داخل حديقة قصر الثقافة .. لأنه صنع الذكرى الجميلة الوحيدة في هذه الليلة بالنسبة لي حينما تحرك بشعره الأشيب، وقامته الطويلة والنحيفة بعد انتهاء الندوة، ودون أن يتخلى عن صمته أو ابتسامته الصغيرة الهازئة، ليوزّع على الحاضرين نسخًا من نشرة أدبية مطبوعة بطريقة الماستر اسمها “صهيل”.
“محمد صابر” .. صاحبي في قصر ثقافة الطفل .. شريك القراءة واللعب والتجوّل وأبحاث الفضاء ومغامرات فريق “م “2 x.. رفيق التنقل من “المكتبة الخضراء”، و”قصص بوليسية للأولاد”، و”السلاسل التعليمية” إلى “روايات مصرية للجيب” ثم إلى “إشراقات أدبية”، ومجلة “القصة”، والمطبوعات القصصية العربية والمترجمة في المكتبات والمعارض وأكشاك الصحافة .. صديق الكتابة الأول.
ذهبت أنا ومحمد صابر إلى بيت محمد عمار .. لم نكن نعرف أنه بيته، بل كنا نعتقد أن العنوان المدوّن بنشرة “صهيل” يقود إلى مقر مستقل للجماعة الأدبية التي تحمل النشرة اسمها .. اكتشفنا بعد وقت طويل من البحث وتمرير السؤال بين الناس والتوهان في أماكن خاطئة بميدان (الشيخ حسنين) أن ما نبحث عنه هو منزل الرجل ذي الجلباب الأبيض، الذي قام بتوزيع النشرة في منتدى عروس النيل الأدبي .. ذهبت أنا ومحمد صابر إلى هناك لأننا كنا نمتلك ما يكفي من إصرار على اتخاذ كل ما يتاح لنا من خطوات في “عالم الأدب” .. وصلنا إلى بيت قديم متهالك داخل حارة منكمشة، عالقة بين شوارع جانبية غاية في الضيق .. وبالرغم من كوننا في المرحلة الثانوية إلا أن إدراكنا بعدم معرفة الأهل لوجودنا في هذا المكان كان يمثل مخاطرة زاد من عبء التفكير فيها تلك السلالم المتهدمة التي صعدناها وراء محمد عمار إلى حجرة صغيرة فوق السطح .. رفوف كتب وسرير وكنبتان عتيقتان وراديو وتليفزيون قديم وكرسي خشبي وطاولة تحمل أوراقًا وأقلامًا، ومصباح يتدلى من السقف، يُخفي ضوؤه الأصفر الشاحب أشياء الحجرة أكثر مما يُظهرها .. يسمح لها بالاختباء وراء أفكار بصرية مشوشة عن طبيعة وجودها الباهت .. فخذان فخمتان فوق الحائط لراقصة باليه روسية لم أعد أتذكر اسمها، وقد يكون هذا أفضل؛ فربما كان هذا النسيان من ضمن الأسباب التي جعلتها تواصل الرقص فوق نفس الحائط داخل ذاكرتي حتى الآن .. فخذان ساحرتان في حجرة كهذه يجب أن تكونا خيالًا أكثر من كونهما صورة منتزعة من مجلة قديمة .. تحوّل المشهد إلى حلم منعزل بقدر من الارتباك، غير متسق على نحو ما مع العالم الذي أتينا منه أنا وصديقي، رغم الدفء الريفي الغامض الذي يسكن الحجرة .. كان هناك قليل من الخوف يناوش هذا العبور المبهم، الذي يمتلك هدوءه الخاص، نحو معرفة مغايرة لحياة “أديب”.