د.مصطفى الضبع
انطلاقا من أن دور الناقد ليس منحصرا في مقولات نظرية يطلقها وعلى الآخرين ترديدها أو إعادة تدويرها وإنما هو نظام من التفكير عليه ترجمته عبر مجموعة من القنوات ذات الأولوية التي تتناسب مع قدراته أو مساحة حركته في مجتمعه، وتتوزع مجالات عمل الناقد وفق مجموعة قنوات الاتصال التي يعتمدها في التواصل مع الآخرين (جمهوره خاصة أو الجمهور المعني بتلقي النقد عامة)، وتتبلور هذه القنوات فيما يلي:
- شفاهية: تقوم على التواصل بين الناقد ومتلقيه عبر قنوات متعددة: الندوات – المحاضرات – المؤتمرات – البرامج الإذاعية والتلفزيونية.
- كتابية: الكتب – المقالات الصحفية – الرسائل العلمية (الماجستير – الدكتوراه) – البحوث العلمية المحكمة.
- سلوكية: تتبلور عبر السلوك اليومي والعلمي والاجتماعي والإنساني للناقد ترجمة لمفاهيمه ولما يؤمن به.
النــــدوات (ندواتنا)
جميل أن تضم القاهرة (نموذجا) عشرات الندوات الأسبوعية، لدرجة يصعب الحصول معها على تحديد موعد ندوة أسبوعية جديدة، وجميل أن يكون لها موضوعها المحدد مسبقا ومتحدثوها، وجمهورها، والأجمل أن تحقق أهدافها في نشر الوعي النقدي والجمالي، ومتابعة المنتج بطريقة علمية، منظمة على أقل تقدير، رافعة من قيمة السماع بوصفه أقدم وسائل التعلم، ومحافظة على قيمة النقاش، و حجم الندوات يطرح سؤالا يفرض نفسه للخروج بنتيجة ذات تأثيرهو: كيف تؤدي هذه الندوات عملها ؟ وكيف تدار ؟ وهو ما يترتب عليه تحقيق مردودها و الكشف عن نتائجها وبيان مدى نجاحها في تحقيق أهدافها.
يقوم على أمر هذه الندوات مؤسسات حكومية: الهيئة العامة لقصور الثقافة- المجلس الأعلى للثقافة مثالا، ومؤسسات المجتمع المدني(نادي القصة – اتحاد الكتاب مثالا)، وأفراد معنيون بالثقافة والأدب (الصالونات الأدبية وما أكثرها في القاهرة)
مشكلة هذه التجمعات أنها لم تطور نفسها لتكون عامل جذب أولا، وتحقق الاستمرار ثانيا، وتحقق نتائج منطقية ثالثا، وفي مقدمة هذه النتائج: متابعة المنتج – تشكيل وعي أجيال من النقاد – تربية الرأي العام – التأثير في الذائقة العامة للجمهور، والتغيير شبه الوحيد الذي يتم يتمثل في تغيير الوجوه، وعشوائية تقديم المنتج النقدي(النقد الانطباعي المعتمد صيغا إنشائية تنطبق على كل نص مما تحول معه الناقد إلى آلة تلقين، أو تحول إلى ناقد يعيد ترديد ما يحفظ من مقولات لنقاد غربيين، لدرجة أن هناك ناقدا بعينه يردد عبارات مخترعة ينسبها لنقاد غربيين لا علاقة لهم بها)، كما يترتب على عشوائية الطرح ضياع كثير من الأفكار الجادة لغياب التسجيل، تسجيل الندوات وتفريغها ونشرها أو تدوين النقاد دراساتهم ونشرها، يحدث أن يطرح أحدهم فكرة لا تدون وتضيع في طيات الزحام (الحروف تموت حين تقال كما قال نزار قباني)، إن هذه التجمعات بوصفها إمكانيات قائمة بالفعل في حاجة إلى تنظيم ووضع مخططات دورية تراجع ما سبق وتنطلق إلى ماهو متطور عبر أسئلة لها قدرتها على بث طاقة الوعي بالتطوير، ومنها على سبيل المثال:
- كم ندوة طرحت مشروعا ثقافيا أو مجموعة من الندوات حول موضوع واحد يؤسس لبناء فكرة أو يحقق هدفا له تأثيره في متلقيه ؟
- كم ندوة وضعت مشروعا نقديا اهتمت من خلاله بمتابعة سلسلة أدبية شهرية أو فصلية لتقوم بدور وساطة نقدية مع القارئ ؟
- كم مؤسسة وضعت برنامجا لمناقشة إصداراتها الدورية ؟ (منذ سنوات قدمت هيئة تحرير سلسلة كتابات نقدية بالهيئة العامة لقصور الثقافة برنامجا شهريا لمناقشة إصداراتها توقف مع تغير هيئات التحرير).
- كم مؤسسة صحفية معنية بالثقافة والنشر وضعت برنامجا يستهدف جمهور المدن خارج القاهرة ؟
- كيف كانت تدار القوافل الثقافية التي كانت ضمن جدول نشاط الهيئة العامة لقصور الثقافة ؟
- كم ندوة وضعت برنامجا سنويا أو نصف سنوي، أو فصلي لسلسلة ندوات أو محاضرات عن واحدة من القضايا الطارئة التي تشغل الرأي العام شريطة تناولها بشكل علمي معرفي ؟
- ما الذي حققته نوادي الأدب على مدار تاريخها ؟ لا ننكر فاعلية بعض النوادي وتحديدا في الأقاليم، خاصة حين تعزف لحنها المنفرد في إقليمها،ولا مجال للمنافسة مع الشبيه وقد كان لبعض النوادي (المحدودة) دورها في توجيه العمل الثقافي،وهو دور مطلوب وله أهميته في ظل الصمت التام للجامعات وأقسام اللغات في الأقاليم ؟
- كم جامعة، وكم قسم لغة عربية في جامعة مصرية وضع مخططات خدمة المجتمع قيد التنفيذ وكلف أعضاءه للعمل الثقافي الممنهج خارج قاعات المحاضرات، وخارج أسوار الجامعة، وهو دور أصيل للجامعة وأساتذتها (لا تكلمني عن جهود فردية تتوقف مع أول عقبة وتحاربها الجامعة نفسها أحيانا وأذكركم برئيس الجامعة الذي أصدر تعميما للأساتذة بمنع أعضاء هيئة التدريس بالجامعة من الإدلاء بأي حوارات أو نشر أية مقالات إلا بإذن كتابي منه شخصيا!!!!!!!)
إن مساحات من العشوائية تسيطر على ندوات، نقادها يرتادونها دون قراءة الأعمال المدروسة (ومع ذلك يروح الواحد منهم يتحدث ساعة أو ساعتين)، ومديروها يحرصون على استنطاق كل الحاضرين للمشاركة حتى لو كانوا لا يعرفون شيئا عن النص بوصفه إبداعا ولا عن النقد بوصفه علما، وجمهورها لا يكلف نفسه قراءة الكتاب المدروس (ومع ذلك يطلب الكلمة ومن السهل أن تجده يردد عبارة أزلية: الحقيقة لم أقرأ العمل ولكني أرى كذا وكذا) وأصبح هؤلاء علامة على كثير من الندوات ومقياسا لجماهيريتها، والمؤسف أن الجميع يرى ولا يدرك وإن أدرك التمس لنفسه الأعذار بأن الأوضاع سيئة….ولكن.
(للحديث بقية)