د.مصطفى الضبع
يتحمل التعليم – بطريقته الراهنة – المسؤولية الأكبر فيما نتج عنه من خروج عقلية الأجيال المتعاقبة ( في مصر خاصة) عن دائرة النقد البناء، وخارج نطاق خدمة الذائقة الإنسانية، مما ترتب عليه فقدان هذه الأجيال الذائقة القادرة على رصد مساحات القبح وتجاوزها أو التخلص منها بشكل جماعي، فالجمال واحد من معايير التعلم، وهو مكون تربوي ليس من الصعب تعلمه وليس من المستحيل غرسه في النفوس وإنما يجد بيئته الصالحة من النمو والتطور في ظل تربية قائمة على معرفة الجمال وإدراكه ومن ثم استشعاره والتدريب على تذوقه وليس مجرد البحث عنه بوصفه مجرد تعبير غير مستشعر.
يقوم تعليمنا على عشرات المفاهيم المغلوطة، أو التي لم تعد صالحة لإثارة النفس، تلك المفاهيم يتبناها القائمون على التعليم مما يجعلها تجد رواجها بوصفها دستورا منظما للعملية التعليمية برمتها وهو ما ينعكس على رؤية وزارة التربية والتعليم ورسالتها ويدمغ كل محاولات الخروج عن نطاق الواقع المستهلك والمثقل بكل أشكال التخلف عن الوضع الحضاري الراهن، وفي مقدمة المفاهيم الخاطئة الاعتقاد بأن التعليم ماهو إلا عملية جمع معلومات يكون على المعلم حشرها بالقوة في ذهن طالب غير مؤهل بالمرة لإدراك ما يتعلم ويكون على المتعلم أن يتلقى هذه المعلومات كما هي دون فهم أو تفكير أو تنمية قدرات عقلية (كثيرا ما يحدث أن يحاول طالب طرح تساؤل من شأنه استيعاب مايتلقى وعندها تكون الإجابة عبارة متكررة: هي كده احفظها كده ولو جاءتك في الامتحان اكتبها كده) مثل هذا الطالب خارج عن الطريق القويم (في عرف المدرس طبعا) غير أنه خارج عن النمط مما يضعه في عداد المحاولين للتعلم بطريقة عصرية تقوم على إعمال العقل
ولم يحاول المدرس ولم تحاول الوزارة وقوانينها وجيوش معلميها مراجعة الأمور بالقدر الذي يتيح لهم اكتشاف حقيقة أن القضية ليست كما من المعلومات لايعجز الطالب عن الإتيان به في لمح البصر خلال دقائق من التعامل مع أي محرك بحث أو قاعدة بيانات إلكترونية وعندها يحصل على أضعاف الأضعاف من معلومات وهو ما جعل الطالب مستغنيا عن المدرس تمام الاستغناء، وفات الوزارة أن العملية التعليمية مجال واسع لنقل الخبرات والتدريب على أمور الحياة وهو ما يجعل الطالب قادرا في النهاية على اكتساب مهارات للتعلم الذاتي بوصفه نوعا من أنواع التعلم، ففي الوقت الذي يكتشف فيه العالم كله أنواعا من التعلم وتتنافس المؤسسات على الأخذ بأسباب العلم في اكتشاف طرائق أخرى للتعلم تصر المؤسسة التعليمية المصرية على الالتزام بنمط واحد تخلص منه العالم أعني طريقة التلقين
لقد تخلى العالم عن طرائق التعليم النمطية التي ظلت سائدة لقرون، كما تخلى المعلم وأستاذ الجامعة المعاصرين عن الشكل التقليدي للمعلم المنفرد بالمعرفة متحولا إلى دور ناقل الخبرة وفاتح أبواب التعلم والمرشد الأكاديمي والمقوم التربوي والمقيم الفكري وكلها أمور جعلت من المعلم فاتحا لأبواب المعرفة على اتساع العالم وليس ممتلكا مفاتيح خزانة قديمة تضم مجموعة من المعلومات التي تجاوزها الزمن بسرعته والعصر بإيقاعه.
الغريب أن المؤسسة رضيت لمعلميها القيام بهذا الدور الذي قبله المعلم راضيا قانعا، مطالبا ( أحيانا) طلابه السعي إلى تطوير مالم يدلهم عليه ولم يجتهد هو نفسه في تطوير ذاته وهو ما يتبلور في عدد من المظاهر منها :
- إذا كان المعلم في التعليم ماقبل الجامعة مقيدا بمنهج محدد صارم عليه الالتزام به (الخروج عنه يكون في ابتكار طرائق للتعلم) فإن أستاذ الجامعة أكثر حرية في وضع المقررات والمناهج التي يحددها هو بنفسه في إطار لوائح تمنحه الحرية أكثر مما تقيده، فالقسم العلمي في الجامعة يكون حرا في وضع مقرراته مستطلعا آراء أعضائه، على الرغم من ذلك كله يحبس الكثير من الأساتذة أنفسهم في قيود الأوراق الصفراء مصرين عليها.
- كثير من الأساتذة المصريين أعيروا لسنوات وسنوات في جامعات أكثر تقدما (بأنظمتها التعليمية المتقدمة نوعا ما والآخذة بأساليب العصر) مارسوا خلالها طرائق مختلفة في التعلم غير إنهم عندما يعودون لا يفكرون في نقل الخبرة ولا إفادة غيرهم بما تعلموه وتدربوا عليه وتعودو كأنهم لم يمروا يوما بما هو أفضل.
- في اجتماع كان عدد حاضريه (25) عضوا جميعهم باستثناء ثلاثة منهم عملوا في جامعات عربية وفي مناقشة لإحدى اللوائح كان تفكير الجميع تقليديا في تناول الموضوعات وفي مقدمتها زيادة أعداد المقبولين في الكلية في العام القادم وكان الجميع يتبارى في طرح أعداد للقبول تزيد عن الألفين، المفارقة أن الذين عملوا لسنوات في الجامعات العربية لم يكن عدد طلاب المحاضرة الواحدة لكل منهم يزيد عن أربعين طالبا !!!!
إن نوعا من خيانة المعرفة يمارسها الأساتذة حين يعملون خارج بلادهم وفق نظم تعليمية متطورة وحين يعودون يتناسون ذلك تاركين خبراتهم (الأكثر تطورا) على أعتاب المطارات التي خرجوا منها وهو ما يعني أن تظل الجامعات المصرية فاقدة لخبرات هي في أمس الحاجة لها، وفي ظل توقف (أو شبه توقف) عملية الابتعاث فإن البديل هو تلك الخبرات التي يكتسبها هؤلاء الأساتذة حال العمل في جامعات أكثر تطورا غير أن هذا البديل محكوم عليه بالضياع فلم تفكر جامعة مصرية في إلزام هؤلاء الأساتذة بكتابة تقرير علمي عما اكتسبوا من خبرات واكتنزوا من مهارات تكون نواة لما يمكن تسميته ببنك الخبرات الذي يمكن الاعتماد عليه في التطوير الذي لا يشغل بال أحد.