عبد الرحمن أقريش
الأصيل، يوم من أيام ديسمبر الباردة.
جلسا على السور الحجري للمقبرة، مكان عال، بانوراما مفتوحة، مكان يهيمن على الأفق وزرقة البحر، يطل على الميناء، الكورنيش، والأجزاء الخلفية لأسوار المدينة القديمة، إلى اليسار (حديقة الغضبانات)، حديقة صغيرة بسور حجري واطي وبضعة كراسي إسمنتية، تأوي إليها النساء أصيل كل يوم، بعد صلاة العصر وكأنه موعد مقدس.
هناك تجلس النساء بملاحفهن البيضاء والسوداء، وينخرطن في أحاديث لا تنتهي عن الصحة والمرض، وهموم الحياة، وقسوة الأزواج، وجحود الأبناء، وقصص الدراما والمسلسلات…
البحر هائج، يسمع هديره من بعيد، تلعب الأمواج لعبة الموت والحياة، ترتفع، تمتد، تنكسر، تتلاشى، ثم تعود من جديد، تتلألأ، تلمع عندما تخترقها أشعة الشمس…
جمعتهما الصدفة وسياقات البؤس وقسوة الحياة، تقاطعت حياتهما بشكل غريب، أصبحا صديقين، نسجا واقتسما مشاعر مشتركة، تواطؤ عاطفي حقيقي، شيء يشبه الأبوة.
(المامون)، طالب في الجامعة، نجيب، ألمعي، أنهى دراسته منذ سنوات، ولم ينجح في الحصول على عمل، انخرط في جمعيات العاطلين، تظاهر أمام المؤسسات الكبرى للدولة، وعندما هده التعب، وبح صوته من الصياح والشعارات، استسلم، وعاد إلى مدينته الصغيرة، وانتهى به الأمر حفارا للقبور…
كان ينبغي أن يكون أستاذا جامعيا، أو محاميا، أو رجل أعمال، أو حتى موظفا صغيرا في البلدية…كان طموحه كبيرا، كبيرا جدا، بشكل أتعبه، وأتعب أسرته الفقيرة، وكان والده ينبهه دائما إلى أهمية الصلاة، والتواضع، والقناعة، والرضا بالقسمة والقدر.
لم يفقد (المامون) أبدا إيمانه الديني، رغم جرثومة الكتب وأفكار اليسار والثورة، ولكنه بالمقابل، يشعر أنه غير محظوظ، وأن القدر والرضا بالقسمة مجرد أكذوبة، وهم وعزاء للذات.
تألم كثيرا بفعل عطالته المزمنة، أحيانا يشعر بالتفاهة واللاجدوى. أحيانا كثيرة يتأسف على الفرص التي ضيعها، فمدينته مشهورة بالزواجات البيضاء، زواجات المصلحة، تحج إليها المئات من الروميات العجائز، بحثا عن شباب يبيع وسامته وفحولته مقابل أوراق الهجرة ومأوى وفرصة عمل…
(با العربي)، جندي سابق في صفوف الجيش الفرنسي أيام زمان، شارك في حرب الفيتنام، متقاعد، يعمل بشكل موسمي ومتقطع، يحرس المقبرة منذ أن هجرته زوجته وتخلى عنه أبنائه، بعد سنوات من الاغتراب الطويلة في بلاد التيه والغربة…
المكان هادئ وجميل، بدت المقبرة مثل حديقة غناء، أغراس ونباتات برية من كل لون، أمامهما تبدو الجزيرة عالما غامضا، ساحرا ومغريا، وفي الأفق بعيدا ترتسم تفاصيل جميلة، بقايا سحب، مراكب صيد، نوارس…
أشعل (المامون) سيجارته السوداء الأولى، امتص منها نفسا عميقا، دفع الدخان بعيدا على شكل أعمدة قوية ومستقيمة، وراح يتأمل القبور، استحضر بداخله فكرة الموت، تذكر المعري، فكر في صمت.
– إنهم هادئون، مسالمون…الأموات ليسوا أمواتا، هم نيام فقط، يستريحون، من يدري؟ ربما كانوا سعداء…ليت الأحياء يستوعبون الدرس!!
عندما عاد إلى نفسه، بدا حزينا، تساءل بداخله، أهو يكره الموت أم يخافه؟
لا يدري، ابتسم، بدا وكأنه وجد الجواب، هو فقط لم يعش حياته بعد!!
مد يده إلى قفة الدوم الصغيرة بجانبه، أخرج كأسا صغيرة (كأس حياتي) وزجاجة الروج، سكب لنفسه كأسا، ومد كأسا ثانية ل(با العربي)، تجرعها العجوز دفعة واحدة، تجرعها بمرارة، تقلصت عضلات وجهه، مضت لحظات، ثم عندما تلاشت المرارة استرجع الرجل ملامحه الطبيعية.
– الساقي من راسو؟ زدني!!
تبادلا نظرة ذات معنى، ثم تمايلا معا بإيقاع منتظم.
– وداوني بالتي كانت هي الداء… !!
(با العربي) يكره طعم المرارة في الكأس الأولى.
ناوله (المامون) كأسا ثانية، ابتسم، خاطبه وهو ينظر للأفق.
– قل لي (أبا العربي)، لم لم تتزوج بعد كل هذه السنوات؟
ابتسم الرجل العجوز، ابتسامة حزينة.
– عمر (داوود) مايعاود…لا، لن أفرط في حريتي ثانية!!
– والحب (أبا العربي)؟…أنت رجل وسيم، والنساء أكيد…
انمحت إبتسامة الرجل، تلاشت، وقاطعه.
– الحب والزواج يا بني لا يجتمعان…الزواج يقتل الحب، الحب ينتهي مع مجيء الأبناء، والقفة، والمصاريف…بعدها، تفقد الحياة حلاوتها…الزواج يا ولدي سجن رهيب!!
– أنا، كنت دوما أظن أن المتزوجين ناس سعداء!!
– شوف يا بني، أنت إنسان ذكي، مثقف، لكن الحياة مختلفة عما قرأته في الكتب، الحياة يا ولدي أوسع من الكتب…ولكن دعك من هذا الموضوع، فأنت أصغر من تستوعب عمقه…قل لي، من الفتاة التي دعوتها للخروج أمس؟
– إنها فتاتي الجديدة (أبا العربي)، تلميذة في الليسي…مسكينة مريضة بالقلب!!
– إنها جميلة فعلا، كم عمرها؟
– 17سنة…أبوها صحفي في وكالة المغرب العربي للأنباء…
– شفتي الربيع وما شفتي الحافة، ينبغي أن تكون حذرا، لقد اجتمعت فيها كل الشروط المؤدية إلى السجن…!!
بدا أن (المامون) لم يستوعب تلميحات الرجل العجوز.
– كيفاش زعما؟ (ماذا يعني ذلك؟)
– إوا، هي تلميذة، جميلة، قاصر، مريضة بالقلب، وأبوها صحفي…ما بانش لك الحبس؟
ابتسم (المامون)، بدا سعيدا رغم ابتسامته الحزينة.
(با العربي) رجل بسيط، نصف أمي، ولكنه يمتلك رؤية عميقة للحياة، وخلفية فلسفية تعوز الكثير من المتمدرسين…
أشعل (المامون) سيجارته الثانية، وناول الشيخ كأسا أخرى، أفرغها في جوفه دفعة واحدة، وشيئا فشيئا دبت الخمرة في عروقه مثل ترياق سحري، أشرق وجهه، استعاد نضارته، استعاد هدوءه تدريجيا، واستعاد معه جزءا من صفاءه الذهني.
– قل لي (أبا العربي) أيام زمان، أشنو كانت مقاييس الزين؟
ابتسم الرجل العجوز، ابتسامة مشرقة، بدا سعيدا بالسؤال، لاذ بالصمت للحظات، بدا وكأنه يفكر، أو يسترجع ذكريات بعيدة.
– العينين كبار، الشعر كحل وطويل، العمارة، (يقصد الجسم الممتلئ)، الصدر قليل، واقف (يقصد نهدين صغيرين)، ما طايح، ما داير الظل، بحال غلاقة البراد…
ينظر إليه (المامون) صامتا، يتأمله للحظات، ثم عندما استوعب الصورة، انفلتت منه قهقهة سعيدة ومجلجلة.
– واااو، إوا زوينة هاذي (أبا العربي) !!
كان يضحكان…
ثم فجأة، تهب ريح تيار الكناري الباردة، جمع (المامون) أطراف معطفه، شد إليه ياقة قميصه، أما الرجل العجوز فغاب جسمه الصغير وسط جلبابه الصوفي، استشعر مغصا قاسيا يشد معدته، تقلصت أسارير وجهه، فهو يعاني من روماتيزم مزمن، استوطن عظامه أيام كان عاملا في مناجم الفحم الحجري في أوروبا.
ca va pas tiglay gh-lkhencht!! –
جملة مركبة يستعملها (با العربي) للإشارة إلى أن الأمور لا تسير بشكل جيد.
يسأله (المامون).
– مالك (أباالعربي)، ياك كل شيء مزيان (جميل)؟
– كل شيء ماشي مزيان!!
– واه، كل شيء ماشي مزيان!!
ضحكا للمفارقة التي تسكن العبارة، فهي تعني أن الأمور كلها تسير بشكل جيد، وتعني أيضا عكس ذلك!!
– قل لي (أبا العربي) أشنو الفرق بين المرأة النصرانية والمرأة البلدية؟
– الفرق كبير في كل شيء، في الحلاوة، السر، والملحة…
– ذقت الروميات (أبا العربي)؟
– واه (نعم)…نظيفات، وفنانات، ولكن ما عليهم سر!!
ينتصر (باالعربي) دوما للجمال البلدي، فهو يعتقد مثل الكثير من أبناء جيله أن نساء البلد يمتلكن سحرا خاصا وجاذبية لا تقاوم…
أحسا بالدفء، أشعل (المامون) سيجارة أخرى، لاذا بالصمت للحظات، وراحا ينظران للأفق بهدوء صوفي عجيب.
تميل الشمس نحو المغيب، تغرق، تتوارى تدريجيا خلف الجزيرة، ترسم خيوطها الصفراء ألوانا وضلالا لغسق جميل وهادئ، تنزل النوارس استعدادا للمبيت، تحط على السقالة وأسوار المدينة القديمة.
في الطريق السيار الممتد على طول الكورنيش، يمشي رجل عجوز، أعمى، يقطع الطريق بصعوبة، تخفف السيارات سرعتها، تتفاداه، ابتسم (المامون)، تذكر النكتة…
غير بعيد يمشي (العوينة)، بجانب عربته المتهالكة، تتبعه عصابة من الكلاب والقطط المشردة، تدور العجلات الصدئة، يسمع أزيزها، يتناغم مع وقع حوافر الحمار على الأرضية الإسفلتية…
عند حدود الكأس العاشرة توقف (با العربي) عن الشرب، فهو يريد أن يحتفظ ببعض صفاءه الذهني، ليحضر أولى ليالي المديح والسماع بمناسبة إحياء ليلة (شعبانة).
بحركة بطيئة، ينزل الرجل العجوز من فوق السور الحجري، مضى، يمشى ببطء في اتجاه (الزاوية التيجانية)
– إوا تصبح على خير، عواشرك مبروكة!!
– وأنت من أهل الخير (أبا العربي)!!
تابعه (المامون) بنظره حتى اختفى.
تساءل بداخله.
– من أين يستمد هذا الرجل كل هذا الهدوء والاطمئنان؟!
أضاءت المدينة فجأة، بدت مشرقة، جميلة، بهية، تلاشى إحساسه بالزمان والمكان، لسبب ما يجهله استعاد بداخله روحه المتفائلة، إحساس بطعم الهدوء والسعادة واللامبالاة، يبتسم، ينظر بفرح طفولي إلى خيوط الضوء وهي ترتسم على صفحة البحر، ثم قرر أن يمدد سهرته…
في الخلفية يرتفع صوت المآذن…