أنا الملاك النجس الذي أَحبَّ

بيير باولو بازوليني
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

بيير باولو بازوليني (1922-1975)

التقديم والترجمة: جمانة حدّاد

بيير باولو بازولينيطعناً على يد شاب في السابعة عشرة من العمر، في ثاني أيام شهر تشرين الثاني عام 1975. وُجِد مرميا على شاطئ اوستيا في حال دمار عبثي لا يليق سوى بعبثيته المدمِّرة. “أحبُّ الحياة بشراهةٍ ويأس مفرطين الى حدّ يستحيل معه أن أجني منها أي خير”، كان يردّد لي دائما: ترى أي خير كان يقصد هذا “الشهيد الطوعي” الذي رأى موته وناداه، والذي استبق نهايته المأسوية ووصفها بكل تفاصيلها بنبويّة أذهلت الكثيرين؟ ترى أي خير كان يعرف هذا الفارس المختلف، هذا الفضائحي الخفر، أنه لن يجني من حياةٍ “التهمها والتهمها والتهمها” على قوله، حتى التهمته؟ هل توفي حقا نتيجة مؤامرة سياسية حيكت ضدّه بسبب هجومه الشرس والعنيد على الحكومة؟ أم أنه قرّر الاستسلام بنشوة لموت تراءى له تعبيرا أقصى عن الحياة؟ أرجّح الاحتمال الثاني، فأنا لطالما شككتُ أنه كان يعشق موته، وينتظره بلهفه ويستعدّ له كصفعة أخيرة يوجهها الى رماة الحجارة العميان. ولطالما شعرت أنه صنع لنفسه موتا “ثقافيا” يشبهه، يناقض كل أشكال الخلاص التي ينبذها، ويشكّل ابوكاليبسا جحيمية تكتمل بها شهوته النرجسية.

لنقتله ثانية إذا، وثالثة ورابعة وعاشرة: لنقتله كي يحيا، بازوليني السينمائي، ذلك المستعري الدائم البحث عن جمهور. وبازوليني الشاعر، ذلك المنتحر الدائم البحث عن هاوية. وبازوليني الإنسان، ذلك الملاك الدائم البحث عن سقطة.

***

مختارات

ها أنا إذاً
في جلسة بوحٍ سامية
مع ذاتي
ذاك الملاك النجس الذي أحبّ.
كم من اليباس الآن
في ملمس هذا الجسد
الذي كنتُ أعشقه شاباً
لأني كنتُ مؤمناً بالحبّ.
لكني لن أخاف
ولن أستسلم
بل سأطلب من الله الذي لا يعطي حياةً
ألا يدعني أموت.

***

كان يكفي أن يعرفوا لونكِ فحسب
أيتها الراية الحمراء
ليتيقّنوا من وجودكِ بحمرتِه
لكنّ ذاك الذي كان مغطّى بالقشور
استبدل قشوره بالجروح
صار المزارع طبيباً
وابن نابولي الكالابري
وابن كالابريا الأفريقي
وكلّ أميّ
جاموسةً أو كلباً.
وذاك الذي كان بالكاد يعرف لونكِ
أيتها الراية الحمراء
قريباً لن يعود يعرفكِ
ولا حتى بحواسه
فأنتِ التي تتباهين بأمجادٍ بورجوازية وعمّالية
سوف ترجعين خرقةً
يلوّح بها الفقراء.

***

كان دمكَ أيها المسيح
قطرة ندى عارية
على وردة عذابكَ
وكنتَ ترانا
يا شاعراً مطمئناً
يا أخاً جريحاً
بأجسادنا البهيّة
في أعشاش الخلود!
ثم متنا.
فهل كانت قبضاتنا
ومساميركَ السوداء
لتلمع
لو لم يكن غفرانكَ ينزل علينا
من نهار رأفتكَ اللا نهائي ؟

***

كم يصعب أن أعبّر بلغة الأبناء
عمّا يعتمل في قلبي ولا يشبهني
أنتِ الوحيدة في العالم التي تعرفين
حقيقة هذا القلب، قبل أي حبيب آخر
ولذا يجب أن أقول لكِ ما هو فظيع معرفته:
من لدن نعمتكِ يا أمّي تولد مخاوفي
لا بديل منكِ
وملعونةٌ هي الحياة التي أعطيتنيها
محكومٌ عليها بالوحدة.
لكني لا أريد أن أكون وحيداً
جائعٌ الى الحبّ أنا
الى حبّ أجسادٍ من دون أرواح
وجوعي بلا حدود
أما الروح فهي فيكِ، الروح أنت
وحبّكِ عبوديتي.
لقد أمضيتُ طفولتي عبداً
لهذا الحبّ الهائل، العالي، الذي لا شفاء منه
تلك كانت طريقي الوحيدة الى الحياة
ولونها وشكلها الوحيدين
كل هذا انتهى الآن
وبتنا نكتفي بالصمود في فوضى حياةٍ
ستولد من جديد خارج حدود العقل
أرجوكِ ، آه، أرجوكِ : لا تنشدي الموت
بل دعيني أكون هنا، وحدي معكِ، في نيسانٍ آتٍ…

***

لن يكون للذكاء يوماً أي قيمةٍ
في حكم هذا الرأي العام
ولا دماء معسكرات الاعتقال
يمكنها أن تستفزّ روحاً واحدة
من أرواح الملايين في هذه الأمة
لكي تصرخ سخطها بلا لبس.
وهمٌ هي كلّ فكرة، وهم كلّ شغف
لدى شعبٍ انقسم منذ قرون
وبات يستخدم حكمته
ليعيش فحسب، لا ليربح الحرية.
لم يعد ثمة أي جدوى
من أن أكشف وجهي وهزالي
من ان ارفع صوتي الأعزل الطفولي
فالجبن مرّننا على رؤية موت الآخرين
بلا مبالاة فظيعة
لذا أموت بدوري
وهذا يؤلمني أيضا.

مقالات من نفس القسم