د. مصطفى الضبع
عشرة دواوين تشكل تجربة عاطف عبد العزيز على المستوى الكمي، وتفرد مساحة شعريته عبر الدواوين في دلالتها على تجربة صاحبها:
- ذاكرة الظل – كتاب إيقاعات – القاهرة 1993.
- حيطان بيضاء – الهيئة العامة لقصور الثقافة – القاهرة 1996.
- كائنات تتهيأ للنوم – ميريت للنشر والتوزيع – القاهرة 2001.
- مخيال الأمكنة – منشورات هامش – القاهرة 2005.
- سياسة النسيان – الهيئة العامة لقصور الثقافة – القاهرة 2007.
- الفجوة في شكلها الأخير – الدار للنشر – القاهرة 2008.
- سيرة الحب – هيفن للنشر – القاهرة 2009.
- ما تنتظره لن يمر من هنا – ميريت للنشر والتوزيع – القاهرة 2011.
- ترجمان الروائح – الهيئة المصرية العامة للكتاب – القاهرة 2013.
- برهان على لا شيء – روافد للنشر – القاهرة 2016.
تجربة ثرية كما وكيفا، وشاعر يبدع في صمت، في هدوء ينسج تفاصيل لوحته الشعرية كحكيم يقف هناك في سوق مزدحم وقد وجد نقطة الهدوء المركزي في العاصفة فراح يمرر العالم عبر رؤيته مفلترا كل مايزخر به الوجود الإنساني، وراسما نموذجه الخاص في سياق تجربة شعرية مغايرة، لا ينشغل بغير نصه، ولا يعزف إلا لحنه الخاص، ممارسا هدوء نصه، ومتجنبا ضجيج اللغة، وزحام الصور.
ما بين “ذاكرة الظل” ديوانه الأول (1993) و “برهان على لا شيء” ديوانه الأخير (2016) مساحة زمنية مقدارها قرابة ربع القرن، مساحة شاهدة على أحداث نهاية الألفية السابقة وبداية الألفية اللاحقة، وأحداث لاهثة في ذاتها قبل أن يلهث الشعر في متابعتها ممسكا أو محاولا الإمساك بلحظتها الساخنة، مساحة نجح فيها عاطف عبد العزيز أن يفرض تجربته المبثوثة في الدواوين من الأول حتى العاشر ” برهان على لا شيء ” في عنوانه المخادع بقدر ما من أنواع الخداع ، فالمتلقي الذي يستنيم إلى ظاهر التركيب فيما يطرحه من دلالة الخواء ينخدع بما هو كائن في التركيب ، خفي في الصيغة المشكلة من أربع كلمات : اسمين (برهان – شيء ) ، وحرفين (على – لا ) شبه الجملة في محل صفة تسوخ للمفردة الأولى (برهان ) أن تكون مبتدأ وهو ما يسوغ لنصوص الديوان أن تكون أخبارا متعددة ، وهو ما يجعل من البرهان دالا على الكثير ، يتأكد هذا إذا استدعينا المحذوف من صيغة العنوان ( خبر لا النافية للجنس) : برهان على لا شيء (معروف) أو شيء (مجهول) أو شيء (محدد)، والحذف في حد ذاته يفتح بابا الاحتمالات ومن ثم يفتح باب التأويلات المتعددة غير المنغلقة على دال بعينه ، وهو ما يجعل من النصوص مساحة من حركة منفتحة على وعي المتلقي ، وتعمل على تفعيل وعيه في التقائه مع وعي الشاعر الذي يكون قادرا عبر نصه على إضاءة العالم ومن ثم تشغيل وعي المتلقي المتجدد مع كل نص ينفتح على مجموعة العلامات المطروحة، تلك العلامات المحددة حركتين دالتين :
- حركة الوعي / النص (من الداخل إلى الخارج)
- حركة العالم من الخارج إلى داخل النص محققة وجودها فيه وكاشفة عن علاقة الشاعر بواقعه بوصفه مصدرا للعفن بكل ماتحمله الكلمة من معان دالة على ما آل إليه الواقع:
” بعدها، سرت على خطى أستاذتي: أخرج رأسي من بركة الواقع – مرة بعد مرة – لآخذ شهيقا، فقط لآخذ شهيقا عميقا، ثم أعاود النزول في العفن ” (ص 20)
إن ثنائية العتبة النصية، يعتمدها الشاعر لتحفيز متلقيه إلى التفكير في العلاقة بين ثلاثة نصوص: عنوان القصيدة الأول (الرئيسي)، العنوان الثاني (الفرعي)، النص بوصفه عنصرا ثالثا في منظومة ثلاثية تمثل سبيكة نصية ثلاثية العناصر.
عبر نصوصه يقف عاطف عبد العزيز موقف مصور يصنع منمنمة جدارية لا تقف عند نص بعينه بقدر ما يكون قوامها النصوص جميعها، أو النصوص في مجمل ما تنتجه من دلالات، فالمشاهد لا تتكرر والنصوص لا تكرر ما تطرحه، والإيقاع الظاهري لنبرة النص الهادئ بوصفه سمة لصوت الشاعر هي نبرة تشي بنظام يتكرر من الإيقاع.
أنظمة التشكيل
وفق نظام هندسي صارم تتشكل قصائد الديوان، نظام يقوم على رباعية العناصر:
- عتبة العنوان بعنصريها: عنوان أول وعنوان فرعي.
- النص بعنصريه: المتن والهامش.
يتصدر كل نص عنوانان متواليان في الموقع، متوازيان في الدلالة (اثنان وثلاثون عنوانا لستة عشر نصا)، يطرح العنوان الأول نفسه بوصفه دالا (مبتدأ خبره النص) فيما يكون لنا أن نرى العنوان الثاني مبتدأ جديدا ثانيا للنص يمثل منطقة عبور افتراضية تصل بين العتبة الأولى والنص مما يجعل من العنوان الثاني مساعدا للأول ومشاركا في إنتاج سبيكة منهما معا، ولنا أن نراه موازيا له، منافسا في الارتباط بالنص ، منفردا في إنتاج علاقته الخاصة بالنص محيلا متلقيه إلى منطقة عمل مغايرة ، والعناوين ينتظمها طريقتان : أولاهما تتشكل من عنوانين متواليين يحيلان معا إلى النص ، وهي الطريقة التي تنتظم معظم عناوين الديوان على هذا النحو :
- لبلابة على وشك السقوط / الوجه الآخر لمنتصف الليل.
- ثغرة للمراثي /منظر غائم لشط بعيد.
- طرف من مكائد الخيال / عطايا الطوفان.
في القصيدة الأولى يرتبط العنوانان بالنص عبر علامتين لغويتين:
- (اللبلابة) تلك الموشكة على السقوط بكل ما تحمله من رمزية وما تطرحه من علاقات لها تأثيرها في إنتاج دلالة النص، اللبلابة التي يمتلكها الولد تؤسس لوعيه بالعالم وبما يمتلكه فيه، وتمثل في الوقت نفسه مساحة علاقته بالعالم الذي يتابعه دون أن يمتلك فيه شيئا (عبر ضمير الغائب في إحالته إلى الطفل يشير النص مرتين فقط إلى الطفل بوصفه ممتلكا شيئين (أصابعه – لبلابته)، تتكرر الأولى مرتين، وترد الثانية مرة واحدة في المتن إضافة إلى تصدرها عنوان النص فارضة نفسها على تفاصيله بوصفها العتبة الرئيسية للنص:
” بينما طفلها، يقف على أطراف أصابعه ليرى باب حديقة الجيران، الباب الكالح الذي اعتاد أن ينام وراءه الليل ” (ص 9).
” فيقف طفل في الشرفة على أطراف أصابعه، لا لكي يرى باب حديقة الجيران، بل ليكتشف المشهد الذي انبثق في الفضاء فجأة ” (ص 11)
- (منتصف الليل)، علامة تبدو زمنية في الظاهر غير أنها تفرض دلالتها الحضارية في سياق وعي الطفل بالعالم واستكشافه لمساحة حضور الآخر فيه، تتكرر العلامة أربع مرات:
- الليل: ” الباب الكالح الذي اعتاد أن ينام وراءه الليل” (ص9).
- منتصف الليل:” على جانب آخر من منتصف الليل يظل عبد الحليم سر مصر الكامل، لكنها، – وفي ساعة حظ- ستبوح به وتستريح“(ص10).
- الليل:” ثم كان أن نبتت على طرف كل فراش في الليل وسادة خالية ” (ص 11).
- منتصف الليل:” المعضلة في حقيقتها كانت تكمن على الجانب الآخر من منتصف الليل، كان عبد الحليم الفخ الذي وقع فيه عشاقنا المحدثون ” (ص 13).
تتبادل العلامتان ( الليل – منتصف الليل ) الحضور عبر سياقات تحدد وظيفتها الدلالية (فاعل – مكان له طابعه الحضاري – زمن – مكان له طابعه الحضاري) ، طارحا نسقين حضاريين : النسق الشرقي بكل مايحمله من تفاصيل ، والنسق الغربي بكل مايحمله من تفاصيل ، والنسقان يتبلوران في شخصيتي : ألفيس بريسلي الذي كان كلمة السر على حد تعبير الشاعر ، وعبد الحليم حافظ الذي كان السر ذاته، الأول بوصفه أكثر فاعلية وتأثيرا في مجتمعه:”بريسلي – ودون أن يدري- كان أيضا هو الجسر الذي عبر عليه السود فيما بعد ، إلى المكتب البيضاوي ، بل كان الجسر الذي عبر عليه البيض إلى الهواء الطلق بعد أن حرر الــ (روك أند رول) من حظائر الماشية ، ومن أدخنة التبغ الردئ، المعقودة في سماء هارلم” (ص12، 13) ، والثاني بوصفه محصلة لثقافة تؤسس للزيف ، والخواء مما يفضي إلى انتشار الوسائد الخالية بكل ما تشير إليه من معاني الزيف .
ينمو وعي الطفل بفعل الفن ربما، ولتتغير زاوية رؤية الطفل من شرفته كاشفة عن تغير العالم لطريق مغاير يتجلى فيه فعل التضليل أو غياب الطريق وافتقاد معالم الوطن:”
“تبدلت أحوال العائدين من الحقول، وطالت سكك الذاهبين إلى المصانع، وتغيرت زاوية الظلال على أسوار البيوت في مصر الجديدة، حتى تاهت العصافير، وحطت في أعشاش آخرين، ثم كان أن نبتت على طرف كل فراش في الليل، وسادة خالية” (ص 11)، لك أن ترى العصافير رمزا للمصريين، أو لهذه الطيور المهاجرة إلى الجانب الآخر من العالم، ولك أن تكتفي بكونها أجيالا مضللة، ضللتها أفعال السابقين التي أفضت إلى تبدل الأحوال، ليس أحوال العائدين من الحقول وإنما الكادحين عملا في الحقول أو عملا في المصانع.
ولتكون المحصلة النهائية للمشهد الأخير في القصيدة:
” بريسلي الآن متحف،
حليم الآن … وسادة ” (ص15).
يمر الوقت وتتوالى الأزمنة، وتتبدل أحوال العالم ، ليقف الشاعر على عتبة الآن المنزلقة ، الآن ليس هو زمن الكتابة ولكنه زمن القراءة المتجددة مع كل قراءة تكرر صوت الشاعر ، جاعلة منه (الآن) مساحة ممتدة إلى مالا نهاية ، الآن لحظة واحدة على مستوى الزمن غير أنها مغايرة على مستوى الحضارة بين عالمين : عالم بريسلي المتبدل إلى رمز حضاري ، وعالم حليم المتبدل إلى وهم ، إنها المسافة الفارقة بين معنى المتحف وما يطرحه ، ودلالة الوسادة وما تحيل إليها من دلالات تمنحها قوتها التأويلية ، وتجعل منها رمزا قادرا على مواجهة نظيره أو قادرا على تأكيد المعضلة الحقيقية من وجهة نظر الشاعر :” المعضلة في حقيقتها ، كانت تكمن على الجانب الآخر من منتصف الليل .
صار عبد الحليم الفخ الذي وقع فيه، عشاقنا المحدثون، حين ظنوا أن الوسائد التي تركوها خلفهم، سوف تبقى خالية إلى الأبد تفكر في أصحابها ” (ص 13-14).
وهكذا تستمر العناوين في تواليها عبر الديوان ، وثانيتهما : تتشكل من عنوان وإهداء ، يحيل العنوان إلى المتن فيما يحيل الإهداء إلى الهامش (الشهيق / إلى سيد الوكيل (بدون حرف الجر ” إلى” كان من المنطقي أن يكون المهدى إليه عنوانا ثانيا، وهو احتمال قائم لتشابه وجوده مع مواقع العناوين الفرعية المكررة في كل النصوص، غير أن الحرف حول العنوان على إهداء يفسره الهامش، ويكشف عن مساحة من التعالق مع سيد الوكيل بوصفه قاصا ، والتعالق مقصود إلى تجاوزنا الجانب الإنساني الداعي تقليديا للإهداء حيث يصبح التعالق وسيلة للربط بين نص الشاعر ونص السارد ، وهو ما يجعل من اسم سيد الوكيل بمثابة الرابط التشعبي الذي يأخذنا إلى النص السردي).
المتن والهامش/ النهر والخليج
من عنوانين تتشكل العتبات ، من المتن والهامش يتشكل النص ، لك أن تراهما متنا وهامشا ولك أن تراهما نهرا وخليجا ، تتقدم النصوص بوصفها نهرا لا يتوقف وتتقدم الهوامش بوصفها خلجانا، بقوة يتجلى ذلك تماما في ديوانه العاشر ، غير أن تقنية الخليج تفرض نفسها ، الخليج بوصفه نظاما لسرد متصل منفصل بالنص ، سرد على هامش النص يتفاعل معه ، ويفرض نظامه في التفاعل على المتلقي ، هكذا يقيم كل نص خليجه / خلجانه الخاصة ، بحيث تقيم النصوص شبكة من الخلجان مؤسسة على شبكة من النصوص ، ويقوم العالم الشعري على وحدات تقوم كل منها على عنصرين : النص وخليجه الرابط بالعالم الخارجي ، باليابسة ( الخليج يتصل بالنهر من جانب واحد فيما تحيط به اليابسة من ثلاث جهات ، هكذا يكون الخليج النصي ( إن صح التعبير) يتصل بالنص من جهة فيما هو محاط بالواقع من ثلاث جهات ، تضغط عليه بصورة تبدو خانقة ولا ينقذه منها إلا ارتباطه بالنص بوصفه مانحه الحياة وممده بأسبابها ، والشاعر يحيل متلقيه إلى مجموعة من الخلجان ممثلة فيما يربطه بالنصوص من أشخاص أو وقائع خارج النص ، وترتبط به ويكون على المتلقي الانتقال بين النهر ( النص) والخليج ( الذات الواقعة ) خارج النص ، النص هو المتن الشعري ، والخليج هو العلامة اللغوية ذات الطبيعة النثرية التي يحيل إليها النص خارجه ، يحتفظ كل منهما بطبيعته السردية أو نظامه السردي الخاص به ، فالنص يعتمد نظامه السردي القائم على القطع ، فليس ثمة عناصر مكتملة سرديا ، فقط هناك مشاهد وصور موزعة بطريقة تجعل منها نصا يليق به أن يكون دلالته ، والخليج يعتمد سردية لها طابعها التقليدي ، السرد بطريقة الحكاية التقليدية ، وكما يحيل الخليج إلى النص الشعري ، فإنه ينفلت منه ليحيل إلى جذره الواقعي أو جذره السردي الخالص ، فالشخصيات أو الوقائع التي يحيل إليها النص هي ابنة واقعها أو ابنة نصوصها المنتمية لها قبل أن يوظفها النص الشعري مانحها سياقا جديدا ، ونظاما جديدا من الدلالات .
النصوص عددها ستة عشر نصا، والخلجان عددها ثنتان وعشرون خليجا نصيا، يستأثر النص الأول منها بستة خلجان، فالنص الذي يستهل بالسؤال: ” أين تذهب الأيام يا أمي؟” يطرح إجابة غير تقليدية وغير مباشرة ينقلنا من ضمير الخطاب المستفهم إلى ضمير الغائب السارد:
” سعاد الحسيني تنقي أرزا في الشرفة،
بينما طفلها،
يقف على أطراف أصابعه ليرى باب حديقة الجيران،
الباب الكالح الذي اعتاد أن ينام وراءه الليل ” (ص 9).
جامعا بين فاعلين (الأم + طفلها) والمكان (الشرفة التي ستكون مكانا يتكرر في الخليج الطارح واقعة انتحار سعاد حسني، مع ملاحظة التجانس بين اسم الأم والفنانة المنتحرة)، بعدها يطرح الشاعر الخليج الأول الذي يكون على المتلقي الابتعاد زمنيا لإدراكه (ألفيس بريسلي):
“ أيامها كان ألفيس بريسلي كلمة السر.
فبالفتى اليافع هذا،
تمكن الأمريكيون من ترتيب أوضاعهم بعد الحرب ، في مرابع أوروبا الجريحة ” (ص 9) ، يتدرج النص لما هو أبعد من توقع المتلقي ، ويضع النص متلقيه في موقف من الموقفين : موقف العارف لما يطرح والممتلك للحد الأدنى من المعرفة بالأشخاص والوقائع ، وموقف غير العارف وفي الموقفين يكون على المتلقي الانطلاق من منطقة ما وصولا إلى مرامي النص وما يستهدفه من رسالة ، في الأولى ينطلق من منطقة المعرفة وصولا لمنطقة الدلالة عبر الاستفسار عن السبب في الوظيفة وما يتغياه النص الشعري من استقطاب الشخصية أو محيطها التاريخي، وفي الثانية ننطلق من منطقة عدم المعرفة محملين بتساؤل عن الماهية ، ماهية الشخصية ، من تكون وما سبب استقطاب النص إياها ثم دلالتها ، وما تنتجه من دلالات نصية ، وهي أسئلة غير مباشرة تنضاف إلى الأسئلة القليلة المباشرة في توجيهها إلى ذات محددة داخل النص :
- أين تذهب الأيام يا أمي؟ (سؤال يتكرر مرتين) موجها للأم يأتي في مستهل القصيدة.
- ” متى نفع الحب في بلادنا أصحابه ” ص 20 سؤال يأتي في خاتمة النص موجها لسيد الوكيل على مستوى الخطاب النصي، موجها للمتلقي على مستوى الخطاب الواقعي.
الجملة الشعر سردية
معتمدة نظامين أساسيين تؤسس الجملة الشعرية لنظامها الدلالي:
- النظام الشعري: ويتشكل من مجموعة الدوال الشعرية التي تجعل من النص نظاما شعريا من مثل: تلقي الصورة – الإيقاع – المجاز – الأصوات المتعددة – التناص مع العالم المحيط.
- النظام السردي: ويتشكل من مجموعة الدوال الفاعلة سرديا، من مثل: الشخصيات وشبكة العلاقات بينها – الوقائع التاريخية – الأحداث الراهنة – الأمكنة – الأزمنة – العلاقات القائمة بين النصوص.
في النظام الأول: تتسيد الصورة الكلية الموقف مكتنزة بمجموعة من الصور الداخلية التي تكون بمثابة الخلايا الشعرية (أصغر وحدة لغوية مجازية تنتج تصورا ذهنيا في سياق النص الشعري) تلك الخلايا التي يمكنها تشغيل التخييل الشعري: ستارة الكلام – البيوت العابرة – كعكة الماضي- خليل القمر، وغيرها من المفردات التي تمثل الحد الأدنى من المجاز، وتتشابك مع غيرها لتشكل صورة كاملة عبر النصوص جميعها مفصحة عن قدرة الشاعر على طرحه الجمالي للغة.
وفي النظام الثاني: يكون للصورة السردية سطوتها من خلال أصغر مكوناتها (اسم الشخصية المستعارة من الواقع) حيث الشخصية لا تدخل النص متخلصة من مجالها الحيوي السردي بالأساس، وإنما تؤدي وظيفتها السردية الجديدة محملة بسرديتها خارج النص، بريسلي، وعبد الحليم حافظ، وميرفت أمين وغيرهم ماهم إلا شخصيات لها مجالها السردي المتخيل الذي يتأسس على حركة المتلقي في اتجاهين: اتجاه نحو المعرفة حال عدم معرفته بالشخصية، واتجاه معرفة الوظيفة التخييلية حال معرفة المتلقي بالشخصية المطروحة شعريا.
الشخصية الاستعارية
الشخصية الاستعارية: شخصية ليست مقصودة لذاتها، وإنما هي مقصودة لغيرها، يستعيرها الشاعر من الواقع، لأداء وظيفتين: وظيفة في سياقها التاريخي بوصفها شخصية لها حضورها الوجودي خارج النص الذي يستعيرها لتكون علامة على وجودها التاريخي أولا ولتؤدي وظيفتها المجازية في النص ثانيا، وهي تؤدي وظيفتها الفنية من خلال وجودها في موضعين نصيين:
- داخل النص الشعري: وهي مجموعة الشخصيات الجاهزة الموجودة سلفا ويستعيدها الكاتب لخدمة الدلالة، تلك الشخصيات المعروفة والمتحققة تاريخيا: ألفيس بريسلي – عبد الحليم حافظ – سيد الوكيل – حسن محسب – إسماعيل ولي الدين – محمود عبد الرازق عفيفي- موفق بهجت – فاسيلي كاندينسكي – سعاد حسني – ندى منزلجي – أفلاطون….. إلخ. وجميعهم يمثلون نصوصا تتوزع بين أزمنة وثقافات وأيديولوجيات وجغرافيات مختلفة من شأنها تغذية التنوع البشري، والكشف عن مساحة حركة الشاعر بوصفه يكتنز رؤيته للعالم بهذا التنوع الخلاق، والشاعر حين يفعل ذلك يجعل من نصه منطقة تصالح بين هذه الثقافات المتباينة أولا، كما يجعل من هذه الشخصيات نوافذ لرؤية التفاصيل الدالة في سياق النصوص.
- خارج النص الشعري : وتضم مجموعتين :الأولى: مجموعة السوريين (26 شخصية ) جمعهم الإهداء ، وهم يمثلون اختزالا جماعيا للمأساة السورية من جهة كما يمثلون تعبيرا عن تجربة كل واحد منهم بوصفه ذاتا لها تجربتها الخاصة ، كما يمثلون شكلا من أشكال انفتاح الشاعر على واقعه ، وتحريكا لمتلقيه لاستكشاف علاقة هؤلاء بالعالم المرسوم بعناية في النصوص ، وسبب وجودهم في هذه المساحة من النص، والثانية: مجموعة الشخصيات السابقة المتضمنة في النصوص والتي يعاد ذكرها تعريفا بها أو ربطا لها بالنصوص عبر إشارات تحدد علاقتها بالنص ، فذكر شخصية سيد الوكيل على سبيل المثال ليس تعريفا به أو سرد جانب من حياته بقدر ما هو ذكر محدد الوظيفة يجعل من الشخصية مقصودة لغيرها أكثر مما هي مقصودة لذاتها، سيد الوكيل لأنه كتب قصة ” ننس ” التي تدور حول علاقة حب بين شاب مسلم وفتاة مسيحية في أعقاب حادث كنيسة القديسين ، والشاعر في إشارته إلى سيد الوكيل رابطا بين مجموعة العناصر المكونة للحدث : القاص – القصة – الحادثة الواقعية وما ترتب عليها فإنما هو يجعل من نصه حافزا لتشكيل نص آخر يقوم النص الشعري فيه بدور المثير للمتلقي لإنتاج نص جديد يقع في المسافة بين النص الشعري والحدث الواقعي .
الشخصيات في النهاية جميعها مستعارة من واقع ليس بعيدا عن واقع الشاعر ولا واقع المتلقي بما يجعل منها منطقة التقاء بين وعي الشاعر ومتلقيه، وعي الشاعر في تشغيل ما هو خامل بالنسبة لغيره، ووعي المتلقي في تحصيل رسالة الشاعر حين يتفاعل مع واقعه عبر نماذجه الإنسانية، والشاعر في وقوفه عليها فإنما هو يقف على الأطلال الجديدة أطلال الإنسانية ، و أطلال مجموعة القيم التي تنتمي إليها أو التي أنتجتها يوما ما و نقف مع الشاعر عليها نازفين مشاعرنا على أطلالها ، مما يجعل من رسالة الشاعر دافعا لاكتشاف أسباب الكارثة وقد تعددت الأطلال وتنوعت أسبابها ، كقيمة الحب :” نعم يا سيد ، الله محبة ، وننس محبة ، والنيل محبة ، والوراق محبة ، و الترامواي الذي كان يقطع دوران شبرا – ذات يوم – ملآن بالمحبة ، بل ..مصر كلها محبة ، لكن … متى نفع الحب في بلادنا أصحابه ” (ص21)، أو قيمة التاريخ الذي تناساه العالم:” قليلون، أولئك الذين يتذكرون الآن شيئا عن فريق هارلم لكرة السلة، الذي أبهر العالم إبان الستينيات بأدائه الإعجازي ليصير في وقت مبكر، أيقونة ترمز لتلك المقاومة العميقة التي تصدت في صمت لخرافة التفوق الأبيض“(ص 110)، لا يفتح النص السابق مجالا للوقوف على عدد من الوظائف التي يؤديها النص: تفسير النص المتعالق معه – طرح نص آخر بإشارته إلى فكرة المقاومة – طرح فكرة النسيان لمنظومة القيم السابقة – الإشارة الوحيدة للصمت تلك الشبيهة بما يفعله شاعر ينجز تجربته في صمت ويرسم عالمه بالصمت نفسه مقاوما انهيار العالم وقيمه .
ومن خلال الشخصيات هذه يقيم الشاعر شبكة من الروابط الشعرية، يقوم كل رابط فيها بدور النقطة المركزية التي يتحرك حولها وعي المتلقي في سياق الصورة المرسومة، الشاهدة بدورها على اكتساب تجربة عاطف عبد العزيز شعريتها، من عدة مصادر: وعيه بعالمه، وقدرته على التقاط ما يشغل به صوته الشعري، من تفاعله مع تفاصيل العالم، من استقطابه لما يمثل رؤيته للحياة، من قدرة نصه على التزام الهدوء، دون ضجيج، يمارس الصمت ولا يكتبه، وإنما يكتب به، ويعيش تجربة جيله ولا تستغرقه تفاصيلها السطحية.