إيمان مرسال ميلاد شاعرة جديدة

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 82
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

د. صبري حافظ

أوشكت استفتاءات نهاية العام الماضي الأدبية في مصر على الإجماع بأن أهم ظاهرة شعرية في العام الماضي هي ميلاد شاعرتين واعدتين بعطاء شعري جديد ومثير هما فاطمة قنديل صاحبة ديوان “صمت قطنه مبتلة” وإيمان مرسال الذي فرض ديوانها الثاني “ممر معتم يصلح لتعلم الرقص” اسمها باقتدار وتمكن على الواقع الأدبي، وكان صدور الديوانين معاً عن دار شرقيات في العام الماضي هو الذي لفت الأنظار لهما لأن الديوانين الجديدين يؤسسان بداية جديدة لكل منهما، حيث يمثل ديوان فاطمة قنديل انعطافه شعرية من العامية إلى الفصحى، بينما يشكل ديوان إيمان مرسال حلقة جديدة ومغايرة لسابقتها، في مسيرة كتابتها الشعر بالفصحى، وربما كانت البداية الجديدة في كل من الديوانين هي التي أشعرت القراء والنقاد معا بأننا بإزاء ظاهرة شعرية جديدة أو بإزاء ميلاد شاعرتين جديدتين.

وقبل  الحديث عن ديوان إيمان مرسال الجديد بعنوانه الشيق والغريب “ممر معتم يصلح لتعلم الرقص” لابد من إلقاء نظرة سريعة على ديوانها الأول “اتصافات تخرج من كاف التكوين” لأن هذا الديوان الأول يقدم للقاريء بعض المفاتيح أو المداخل التي تتيح له التعرف على تحولات تجربة الشاعرة، وعلى منهجها في التعامل مع الشعر معاً، فالديوان مبنى بطريقة توفر له نوعاً من الوحدة المنطقية أو حتى العضوية، وترسي في الوقت نفسه دعائم رؤيته للعالم وتعامله معه، حيث تقسم الشاعرة ديوانها إلى ثلاثة أقسام هي ” في النزوع” و” في الخروج” و “الاتصاف” وهى أقسام تمثل مراحل الكينونة الشعرية والوجودية الثلاث عندها لأن “الاتصافات” كما يقول لنا العنوان “تخرج من كاف التكوين” وهي كاف فعل “كن” الذي تتأسس به كينونة التجربة الفردية في هذا الشعر، ويتم تأسيسها فيه من الحرف، لأننا هنا في عالم الشعر الذي يصوغ العالم لا من الكلمات، ولكن من مفرداتها الأولى وهي الحروف.

لذلك نجد أن انبثاق الاتصاف عن حروف فعل الكينونة الشعرية لابد له من المرور بـ “النزوع” ثم

 “الخروج” فـ “النزوع” كما تشهد بذلك قصائد القسم الأول من الديوان هو تخلق الرغبة والحلم الذى “تشعب في الخلايا” أو انسرب فيها. بالصورة التي تتماهى فيها الرغبة في الراغب ويتحدان في نوع من الاندماج الكامل. وينطوي النزوع لديها على شوق عارم “للقصيّ” وبحث شعري جاد ومضن عنه، تنضم الشاعرة من أجله طائعه إلى قوافل الباحثين عن المستحيل والتي لا ينشد دوماً إليه، إلا الساعون إلى التحقق في “الاتصاف” أو الماهية، وهو الذي يبرر لديها الخروج “ضد البداوة والكهانة والعشيرة” وهوخروج يتأسس على الولع بالأسئلة، فحرقه الأسئلة لديها هي التي تولد في النفس نزوعاتها إلى الحلم والأمل المستحيل. وهو أيضاً سر رفضها الذي ينطوي هنا على أحد ملامح الشعرية النسوية في هذا الديوان. لأن الرفض فيه هو رفض المر أة للعب الدور التقليدي المرسوم لها. والذي ينطوي في بعد منه على تزييفها لذاتها، ولاتصافاتها، فالتعميد بالرفض وبالألم  هو السبيل إلى مواجهة الذات على حقيقتها للتعرف على “اتصافاتها” ولاكتشاف حقيقة الشعر العصية في آن.

الصدق الجارح

فالشعر عند إيمان مرسال هو ابن الصدق الجارح مع النفس، وهو أيضاً ابن “الإسراء” بها إلى مدارج الشفافيه والبوح، فالشاعرة هنا تقيم مسراها على الأعراف الفاصلة بين الصوفي والحسي، بين التجريدي والعضوي، وتتأكد للقاريء طبيعة هذه الأعراف في آخر قصائد هذا القسم الثاني الذى تخرج فيه من كاف التكوين، حيث يتعرى الجسد وتتعرى الروح معه، ويتكشف بعريهما من أي زيف ألق الحقيقة وألق الشعر معاً. فالكينونة لديها ليست كينونة تحقق المرأة فحسب، ولكنها كينونة انكشاف حقيقة الحرف والنور لها في آن. المرأة هنا امرأة بالغة الخصوصية نجد أن تحققها الشعري شرط تحققها الأنثوي وقرينه معاً، وهذا التحقق الكلى هو الذى يدلف بها إلى القسم الثالث من الديوان حيث نتعرف على الاتصافات أو الخصائص التي تجعل المرأة امرأة وشاعرة معاً، تتمتع بقدرة الكشف عن الأشياء والأشخاص والمواقف واللحظات والنفاذ إلى جوهرها، وهذا ما تسفر عنه قصائد هذا القسم السبع المليئة بأسئلة امرأة تحاكم تاريخاً طويلاً تجاهل المرأة وهمشها وأسقطها من متونه. ولكنها في الوقت نفسة أسئلة شاعرة مشغولة بالهم العام، بطريقة انشغال الشعر التسعينى به. تطرح منهجاً جديداً في التعامل مع الواقع والشعر والتاريخ، يشاركها فيه جل جيل شعراء الثمانينات والتسعينات في مصر، فهو جيل يكتب تاريخ مصر في غيبته، ويشكل خروجه على النواميس، ومعاندته للتقاليد، احتجاجه البالغ الخصوصية على هذا التغييب. فأسئلة إيمان مرسال التي تنطلق من انشغالها بهاجس المرأة وشروط وضعها لا تغفل الهموم العامة للوطن. لأنها تدرك أن الذى تجاهل المرأه وأسقطها من متون التورايخ تجاهل معها كذلك كل المنحنين فوق سيف العزة والإباء، وكل من استرخص الدم فداء لتراب الوطن، وهى بهذه الطريقة تفتح الهم النسائي على الهم الوطني وتساويه به.

ويعد ديوان إيمان مرسال الجديد ” ممر معتم يصلح لتعلم الرقص” نقلة شعرية واضحة بعد ديوانها الأول “اتصافات” وهى نقله تعبيرية واتجاهية معاً، تطرح فيها الشاعرة عن ديوانها الوزن العروضي كلية، بعد أن التزمت في الديوان الأول كله بوحدة التفعيلة بشكل أساسي، فديوانها الثاني نثرى كله، أو ينتمي إلى ما يدعى عادة بـ “قصيدة النثر” وهى تسمية إشكالية أود هنا أن أطرح بدلا منها تسمية الشعر غير العروضي أوالشعر الذى لا يلتزم بالعروض، فتسمية “قصيدة النثر” فضلاً عن تناقضها الضمني الذى يجمع النقيضين : القصيدة والنثر، وعن إخراجها الجزئي للأعمال الجديدة من مجال الشعر، تسمية متناقضة وإشكالية معا تعود إلى مرحلة الستينات، وقد كان لها ما يبررها في هذه المرحلة التي ساد فيها شعر التفعيلة وأصبحت غنائيته المنسابة هي القالب التعبيري الأثير لانطلاق الأمل العربي بعد الاستقلال، وللتغني بالمشروع العربي الوليد.

لذلك فاننى لا أريد هنا أن أربط النماذج الجيدة مما يطلق علية الآن “قصيدة النثر” بتلك التسمية القديمة، فالنماذج الجديدة من هذا الشعر ليست نثراً بالمعنى المألوف. ولكنها شعر له موسيقاه الداخلية الخاصة التي لا نجدها في النثر العادي، وهى موسيقى غيرنغمية وغير هارمونية، كأغلب صيغ الموسيقى الحديثة التي تخلت عن النغمية منذ سترافينسكى دون أن تفقد موسيقيتها، وموسيقى هذا الشعرالجديد، بالرغم من لا عروضيتها ولا نغميتها موسيقى قبل كل شىء، صحيح أنها لا تعتمد على النبر، ولا تلجأ للتكرارات المحفوظة التي ينهض عليها العروض الشعري عامة، ولكن لها بنيتها الموسيقية التي تحتاج إلى “خليلها” الجديد لينظر لها ويرسى قواعدها، ولا أقول عروضها كما فعل الخليل بن احمد بالنسبة للعروض الشعري القديم.

وبالإضافة إلى هذه النقلة من شعر التفعيلة إلى الشعر غير العروضي هناك نقلة أخرى على صعيد اللغة لا تلحظها إلا العين الخبيرة فهي نقلة من التراكيب اللغوية الشعرية ذات المذاق الفصيح إلى تراكيب شعرية فصيحة ذات مذاق عامي، أوهي صيغ شعرية تخضع الفصحى لأجرومية اللغة العامية ولقواعد تركيب الجملة فيها، ويبدو هذا جلياً منذ عنوان الديوان نفسه الذى كان يمكن لوالتزم التركيب الفصيح أن يكون “ممر معتم لتعلّم الرقص” وألا يستخدم الفعل “يصلح” بعد الاسم والصفة، باعتباره نوعاً من الصفة أو في محل صفة كما يقول النحاة، وهو أمر من خصائص التراكيب العامية، أما النقلة الثالثة فهي نقلة بنائية وموقفية معاً، لأن الديوان الجديد لا يتعامل مع التجربة الشعرية باعتبارها اكتشافاً متراكب المراحل، يبدأ بالنزوع وينتهي بالاتصاف مروراً بالخروج كما كانت الحال في الديوان الأول، و إنما باعتبارها إضاءة مباغتة لجوهر الأشياء، وكشف باهر لآليات تناقضاتها الخبيثة، فالديوان من هذه الناحية إبن لمرحلة حلول الوعي بالمفارقة في كل شىء في النزوع والخروج والاتصاف ودمجها جميعاً في صيغة جدلية فاعلة. وبالإضافة إلى هذه المفارقة أو بسببها يتأسس الشعر في هذا الديوان على حافة الأشياء، وحافة المشاعر الحادة الباترة كشفرة حامية أوعلى الحدود التي لا توطأ إلا بالشروح كما تقول فاطمة قنديل … ولهذا كله تكتسب الجزئيات فيه دلالة أساسية، لأنها تتحرك من كونها مجرد جزئيات في كل أكبر إلى أن تصبح هي المحور والمدار.

لكن أهم التغييرات التي ينطوي عليها هذا الديوان أنه ينتمي إلى الكتابة النسائية بحق، ويستخدم ببراعة واضحة استراتيجيات القلب والإبدال التي تلجأ إليها الكتابة النسائية لتدمير بنية التفكير الأبوي من الداخل، دون أن يبدو عليها ظاهريا أنها تتحداه ناهيك عن أن تعصف به كلية، ففي هذا الديوان، على العكس من الديوان السابق، قدر أعمق من الوعي بالكتابة وتقصدها، ومقدار أكبر من العناية ببنية القصيدة وحذف أي تزيد فيها أواستطرادات، لأن بنية القصيدة فيه تعتمد على المفارقة كما ذكرت، وهى أداه لا تقبل التزيد أو الترهل الفضفاض، ومن هنا يميل هذا الديوان إلى القصيدة القصيرة المركزة، وتتحول أبياته إلى شظايا شعرية من نوع خاص، تعي دلالاتها وتهتم بإثراء إيحاءاتها، وتحرص بنية هذا الديوان اللغوية على بلورة علاقات تجاور جديدة وشيقة بين مفرداتها ترهف طاقتها التعبيرية، وتولد بالتجاور ذاته معانى جديدة وتطرح كل هذه التغيرات الجديدة التي ينطوى عليها الديوان على قارئه أهمية تأمل استراتيجياته التعبيرية من حيث قدرتها على إضاءة جماليات شعر التسعينيات في مصر، وبلورة تحولات الخطاب الشعري الجديد فيها.

وأولى هذه الاستراتيجيات التعبيرية التي يستخدمها الديوان هي استراتيجية العنوان والتي تبدأ من عنوان الديوان ذاته، وعلاقته بتجربة العمل ككل و بعالمه الشعري، وتستمر عبر العلاقة المماثلة بين عناوين القصائد بعضها ببعض، وعلاقة عنوان قصيدة بتجربتها الخاصة، فعنوان الديوان مغاير لتلك العناوين التي اعتدناها لدوواين الشعر، فهو ليس عنوان قصيدة من قصائده كما هى الحال في “الناس في بلادى” لصلاح عبد الصبور أو “أنشودة المطر” لبدر شاكر السياب، أو عنواناً تلخيصياً يشير إلى عالم الديوان ككل كما هى الحال في “مدينه بلا قلب” لأحمد حجازى أو “أوراق الغرفة 8” لأمل دنقل، وهو ليس عنواناً تجنيسياً يلفت الانتباه لبنيه الديوان كما في “رباعية الفرح” لمحمد عفيفي مطر أو “آية جيم” لحسن طلب، كما أنه ليس عنواناً ترميزياً كما في “سيرة البنفسج” و”زمان الزبرجد” لحسن طلب، ولكنه عنوان أقل ما يمكن قوله فيه أنه عنوان تسعيني، لأن فيه شىء من غموض التسعينات وطموحها وركاكتها الجمالية معاً، بمفرداته عن الممر والعتمة، و ملاءمة هذا الممر المعتم لممارسة جديدة، هى تعلم الرقص، ولعله الشعر أيضاً – فقد كان الرقص من أول الفنون ظهوراً مع الموسيقى وقبل الشعر، لكن المهم أن هذا الممر المعتم والذي يزداد ضيقه “إحكاماً بالعتمة” هو آخر مكان يمكن أن يتوقع الانسان صلاحيته لتعلم الرقص، لأن الرقص يحتاج إلى مكان أوسع من مجرد “ممرمعتم” ولكن الديوان يصر على أنه يصلح لتعلم هذا الفن، في نوع من لفت الانتباه إلى المفارقة كأداة بنائية فيه منذ لحظة مواجهة القارىء الأولى معه من ناحية، والى انحسار رقعه التجربة الشعرية من ناحية أخرى.

 

انحسار رقعه التجربة

وانحسار رقعه التجربة من أهم ملامح هذا الشعر التسعينى الذى ولد في فترة انكسار الحلم العربي، وانتصار الهزيمة، فقد كانت المساحة المتاحة للتغني بالنضال والتحرر والمقاومة، كبيرة وشاسعة، أتاحت للشاعر الحديث في الخمسينيات والستينيات وحتى بداية السبعينيات التغني بالثورة والمقاومة ووسعت تجربته الشعرية ولكن هذا كله تحطم وانكسر، ودخلت المنطقة العربية كلها مأزق التبعية والتنكر لأحلامها والتسليم بكل ما كانت تقاومه في الماضي. فانزاح الهم العام كله، بعدما تحول إلى غم عام، من ساحة التجربة الشعرية ولم يبق أمام الشعر إلا تلك المساحة المضيئة التي يتيحها ممر معتم وتحاصر فيه العتمة الشعر، و يجالد الشاعر أو الشاعرة لتعلم الفن وممارسته فيها في زمن الضيق والعتمة ذاك، وتتضح مسألة انحسار رقعه التجربة إذا ما قارنا تجارب هذا الديوان بتجربة ديوان صلاح عبد الصبور “الناس في بلادى” مثلا، حيث نجد أن تجربته الشعرية كانت بنت مرحلة الخروج من الذات إلى العالم، تمتد جغرافياً من بورسعيد حتى دنشواى، وتاريخياً من مطلع القرن حتى العدوان الثلاثى. أما ديوان إيمان مرسال فإنه إبن مرحلة مغايرة هى مرحلة العودة من العالم إلى الذات المثخنة بالجراح، حيث لم يبق للشاعر إلا تلك المساحة المحاصرة بالعتمة وهى مساحة المشاعر الذاتية والتجربة الخاصة واكتشاف تلك القارة المجهولة المسماة بالنفس البشرية، بعد أن تكاثرت عليه النصال وردت كل محاولات الإنسان العربي للخروج من الذات إلى العالم، ولعب دور فيه على أعقابها وحاصرته بالأعداء من الخارج ومن الداخل أيضاً، فمن رموز هذا الزمن التسعينى القوية، والتي لا يمكننا تجاهلها رمز الحصار الذى بدأ في التخلق في حصارات الحرب الأهلية اللبنانية المتعددة من حصار المخيمات، إلى حصار بيروت إبان الاجتياح الصهيوني الدامي لها، وامتد بعدها  حتى ضرب بالفعل الحصار على أكثر من بلد عربي من العراق وحتى ليبيا والسودان.

وبعد أن كانت تجارب صلاح عبد الصبور هى مقاومه الاستعمار، أو بعث تواريخه القديمة في دنشواي، وبعد أن كانت تجربة محمد عفيفي مطر هى البحث عن العناصر التي تجمع الأمة وبلورة رؤية شاملة لهذه الوحدة في “أنت واحدها وهى أعضاؤك انتثرت” انحسرت رقعه التجربة الشعرية؛ واقتصرت على التعرف على الذات وإعادة تأسيس مفردات العالم من حولها، بدءاً من التغني بموسيقية اسمها إلى التعرف على أشباها و”الصالحين لصداقتها” إلى تمحيص علاقتها الإشكالية الحميمة بأبيها حينما يتعرض لـ”جلطة” في الشريان التاجي في واحدة من أجمل قصائد الديوان وأكثرها تركيباً، إلى رسم صورة دالة لصديقتها “أمينة” شبيهتها ونقيضتها معاً، إلى تمحيص علاقتها بذاتها وبأصدقائها، بما يجمعها بهم  ويفرقها عنهم، إلى حالة الصداع النصفي التي تعانى منها، إلى همها الأساسي، وهو هم كتابة الشعر الذى صار نوعا من “تمارين الوحدة” لأن الوحدة والوحشة هى حاله شعر التجربة الذاتية الأساسية.

وللتعرف على طريقة هذا الديوان الجديد في التعامل مع الشعر سأكتفي هنا بتحليل قصيدة واحدة أكشف عبرها للقاريء عن قواعد تلقيه، وأفك معه شفرات التعبير فيها، ولتكن قصيدة المفتتح “أتلفت” فهي قصيدة دالة على عالمه وعلى منهجه التعبيري معاً بصيغه عنوانها الفعلية التي تكسب القصيدة حضوراً ساطعاً حاداً:

في يقظة كائن ينتظر التفاتاً ما

عادة ما أتلفّت حولي

ربما لهذا

لعنقي قوة لا تناسب جسدي

والمدهش

أنني لا أتوقع رصاصاً حياً

من الشوارع الجانبية الخالية

ولا مقصّات

كوسيلة صامتة للقتل

بل انتباه خاطف

على عيون أكاد أعرفها

ولكنها قادرة على القيام بالمهمة.

هذه هى القصيدة كاملة، تبدأ بهذا السطر الاستهلالى المترع بمشاعر الريبة والتربص ولكنها ريبة ممتزجة بنوع من التسليم اليقيني الذى يكشف عنه فعل “ينتظر”. وهو فعل ينطوي على قدر من التسليم بما سيقع. ويجاور الانتظار الموحى بالتسليم فيه حس اليقظة المناقض له، وحتى يبلغ هذا التناقض غايته فإن القصيدة تعمد إلى نوع من الالتباس الواضح الناجم عن استخدام كلمه “كائن” الإبهامية، وهى كلمه مرتبطة بالكينونة والهوية ولكنها في الوقت نفسه عارية من التشخيص أو الشخصانية إذا ما أردنا مواصلة إيقاظ الدلالات أو الاستعارات الفلسفية فيها. وما يقوم به هذا الكائن اليقظ المنتظر بتسليم معاً، لا يعدو أن يكون مجرد فعل “أتلفّت” الذى يجذب معه الأنا الفاعلة في القصيدة – وهى غير أنا الشاعرة بالطبع، بالرغم من تماهيها معاً من خلال الصوت المسيطر، وهى “أنا” تتلفّت بيقظة كائن ينتظر انهياراً ما، فلم تعد اللحظة الحاضرة في التسعينيات حبلى بأي شىء غير توقع الانهيار. هذا ما تسعى القصيدة إلى الكشف عنه منذ الكلمات الأولى، ولكن دون أي خطابة أو زعيق، ودون زعم بأنها تكشف عن أي شيء غير جزئية بالغة البساطة من جزئيات الواقع المتعددة، وكأنها تبحث عن الكون في حبة رمل كما يقول الشاعر وليام بليك.

ويوشك الانهيار أن يكون هو العنصر الثابت أو المحور المركزي في القصيدة بالرغم من أنه لم يرد فيها لفظياً إلا مرة واحدة، فكائن القصيدة ينتظر هذا الانهيار، ثم تكشف لنا بقية أبيات القصيدة معالم هذا الانتظار وطبيعته، وتؤكد لنا بمنطقها الشعري الخاص أن الانهيار قد سرى في كل تفاصيل العالم التسعينى، فهذه هى حال العالم الذى يصدر عنه هذا الشعر ويتوجه بالتالي إليه، لذلك تبدأ القصيدة لغويا بجملة حال  تحدد لنا طبيعة تلك الحالة العامة التي تعيشها “الأنا” لحظة انتظار انهيار متوقع … جمعي وشخصي معاً، ولا تطمح القصيدة إلى أكثر من بلورة هذه الحالة بشكل حسي مؤثر، فالقصيدة الجديدة تجسد “حالة” بقدر ما كانت القصيدة القديمة تعبيراً عن “موقف” أو”تعليقاً على ما حدث” كما يقول عنوان دال لأحد دواوين أمل دنقل، وهى حالة لم تفقد الشاعرة بعد السيطرة عليها، ولذلك فإنها لا تزال قادرة وسط توقع الخراب على استقطار نوع من السخرية التهكمية السوداء، حينما تشير بابتسامة مُرة ماكرة إلى أن كثرة التلفت قد قوّت عضلات رقبتها. وهى في تلفتها ذاك لا تتوقع رصاصات حية من شوارع جانبية، وهو سطر تتخلق عبره ذاكرة القصيدة الداخلية، وإحالتها إلى أحد متغيرات السياق السياسي الذى تكتب فيه حيث تنطلق رصاصات “الإرهاب” الحية من الشوارع لتردي أحدهم بغتة، وهو سطر ما كان ممكنا أن نجدة في قصائد السبعينيات، ناهيك عن الستينيات، التي كانت عامرة هى الأخرى بالمخاوف، لكن مخاوفها كانت من نوع آخر.

أما السطر التالي له، بكلمته الملتبسة “مقصات” التي تشير في مستوى ما إلى خناجر القتلى ومقصاتهم وتتشح في آخر برداء من العامية المصرية تستحيل معه إلى شراك، فإنه يكشف عن بعض جماليات هذا الشعر الجديد؛ وهى جماليات تعتمد على الالتباس وازدواج الدلالة من ناحية، وعلى الاقتراب باللغة من حس العامية، والكشف عن التوتر الكامن بين الإيحاءات العامية والفصحى للفظة الواحدة. أما الخاصية الجمالية الثالثة فهي اقتلاع الكلمة من معناها المباشر وإكسابها دلالات جديدة داخل القصيدة، لأن السطر التالي، يلحق بكلمة “مقصات” التي حرصت القصيدة على إبرازها بتركها في سطر وحدها، تلك الجملة الاعتراضية التوضيحية “كوسيلة صامتة للقتل”. إذن نحن هنا بإزاء نوع مغاير من المقصات التي ترتبط بلعب الصبية أو بكرة القدم، لأنها وسيلة قتل، لكن القصيدة قد سبقت هذا كله بالتعبير عن دهشتها للامبالاة “الأنا” الفاعلة فيها. التي تنتظر الانهيار ولكنها لا تتوقع رصاصاً ولا مقصات. لأن “الأنا” الفاعلة في القصيدة هي “الأنا” الإنسان العادي اللامبالى بما يدور بين مطلقي الرصاص الحي، أو ناصبي أحابيل “المقصات” القاتلة، لأن هذا الإنسان أو لعله مجرد كائن، مشغول بشراك من نوع آخر مصدرها العيون التي “يكاد” يعرفها فليس ثمة معرفة يقينية في قصيدة التسعينيات، وإنما ولع بإراقة الشك الدائم حتى ضمن بنية القصيدة الواحدة التي تريق أجزاؤها الشك على بعضها البعض، لأننا في عالم تجاوز المتناقضات. وإذا ما كانت لفظة “أكاد” تريق قدراً من الشك على مدى معرفته للعيون المتربصة به. فإن لكن الاستدراكية سرعان ما تؤكد في السطر التالي بيقين قطعي قدرة هذه العيون على القيام بالمهمة.

هنا يكتسب الانهيار المنتظر في القصيدة بعده الأخلاقي، بعدما رسمت لنا الإشارات الواقعية وذاكرة القصيدة الداخلية بعده السياسي، فالالتفات يتوقع غدراً متربصاً خطراً، لا من الغرباء وإنما من العيون الأليفة ومن أقرب الناس إلى الأنا الشعرية، فالغدر الذى تنتظره “الأنا” هو الوجه الأخلاقي للانهيار الذى تعرفنا على بعده السياسي، لا في اندلاع رصاصات الإرهاب والإرهاب المضاد فحسب، وإنما في تلك اللامبالاة التي تسم موقف الأنا منه. فقصيدة التسعينات ليست بأي حال من الأحوال منفصلة عما يدور في الواقع من حولها، ولكن تعبيرها عنه هو الذى يحتاج إلى مقترب جديد للتلقي يمكننا من فك شفرات هذا التعبير، والتعرف على قواعد إحالته الجديدة، وهذا هو ما عمدت إليه في هذا المقال _ بدلا من التحويم بالقرب من عالمه_  بطريقة تقدم للقاريء مفاتيح التلقي حتى يتمكن بنفسه من فك شفرات بقية القصائد والتعرف على ما ينطوي عليه الديوان من ثراء شعري ودلالي كبيرين.

ـــــــــــــــــــ

المصور، ع3727 في 15/3/1996

عودة إلى الملف

مقالات من نفس القسم