عين سحرية لمي التلمساني: مدينةٌ تطرق باب البيت

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 42
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

طارق إمام

تعرف صناعة الأفلام السينمائية عملية توثيقية موازية تُعرف باسم Making-of، وهي باختصار، كواليس عملية التصوير نفسها أثناء تنفيذها لتوثيق “الكيفية”. لا يظهر الـ Making- of للمشاهد، (فالأخير مُستهدف فقط بخدعة الإيهام)، وغالباً يذهب أدراج الرياح فور ظهور الشريط السينمائي للنور باعتباره مادة فائضة، ليبقى فقط في ذاكرة الصناع الذين صنعوا “الكذبة” وليسوا بحاجة لإعادة تلقي طريقة صنعها. غير أن هذه المادة الفائضة، إذا ما صارت موضوعاً للفرجة تحت ضوء التلقي، لا تعود توثيقاً، بل إنها تؤدي الوظيفة العكسية بالضبط: تصبح أداة “محو”، تطيح بالنص التخييلي من حيث أرادت أن تحفظه. هذه العملية، ترد الواقع الافتراضي الذي تمثله الصورة الفيلمية، للواقع التجريبي، الذي يفتقر لسلاح الفن الأمضى: إسباغ الدلالة. وإذا ما افترضنا أن متلقياً ما تسنى له التعرض لذلك المنتَج المهمل أو الفائض عن الحاجة، فسيجد نفسه أمام عري الكذبة، أو الكيفية التي صارت بها هذه الكذبة حقيقة موازية يمثلها نصٌ مغلق على شروطه. إنها صدمة الإيهام وهو يتجرد ليس فقط من قداسته، لكن بالأساس، من التسامح الأخلاقي الذي يجمع كلا المنتج والمتلقي حول “الكذب” كقيمة أخلاقية لصالح الكذب بوصفه قريناً جمالياً للمخيلة، ما يُخرج المتلقي المفترض من العملية الأخطر التي تجمع الكائن بالنص: التوحد، ذلك أن التوحد، بتحققه، يزيح النص في لا وعي متلقيه من قيمته الأخلاقية إلى القيمة الجمالية.

تمارس مي التلمساني شيئاً من هذه الإزاحة في مجموعتها القصصية الأحدث “عين سحرية”، الصادرة مؤخراً عن الدار المصرية اللبنانية بالقاهرة. في قصص المجموعة السبع تقشر “التلمساني” عملية صناعة النص لتكشف، في كل مرة أو مع كل قصة، عن نصين في الحقيقة وليس عن نص واحد: النص التخييلي “المكتمل” كدائرة  إيهامية مغلقة على شرطها الجمالي ومقبوليتها الفنية، والنص الموازي أو المصاحب، الذي تمثله عملية “التعرية” التي صحبت صناعته أو أحاطت بها. من ذلك اللقاء الدائم بين نصين، أو بالأدق وجهين لنصٍ واحد، يجد المتلقي نفسه، هكذا أخمّن، ذاهباً لخلق نصه الثالث المؤلف من الحقيقة والوهم معاً، وكأن “عين سحرية” بنصوصها السبعة تمارس عملية خلخلة لفعل القراءة نفسه، بغية خلق واقع افتراضي البطل فيه الصورة، هو في ظني الواقع الوحيد الذي يمكن العثور عليه في هذه المجموعة، حتى وإن اقتربت في مناطق ما من نص السيرة، بما يحققه من “رتق” بين الحقيقي والمتخيَّل.. لكن الذاكرة تتكفل برده سريعاً للأفق الرؤيوي بالمجموعة.

إعادة تفريغ المشهد

من هنا ليست صدفة أن يمثِّل النصان الأولان في المجموعة على التوالي اشتغالاً على مشهدين سينمائيين قارّين في الذاكرة الجمعية لمشاهدي السينما المصرية: عبد الحليم حافظ، مطرب يوليو لحظة أفوله في مشهد نهائي ملوّن لا يلائم فيه المرح المفتعل تجاعيد غروبه، و”هنادي” و”آمنة” في “دعاء الكروان”. في النصين ثمة زمنان يجري “التوليف” بينهما بمونتاج السارد: مشهدان للمطرب نفسه، واحد بالأبيض والأسود (رغم ارتباطه بشروقه) والثاني بالألوان (رغم أنه قرين أفوله)، وإمعاناً في المفارقة، فأغنية الشباب مرثية للعمر بينما أغنية الكهولة استقبال زائف للحياة. يجمعهما الشاطئ نفسه لكن يفرق بينهما كل شيء آخر. في النص الثاني أيضاً ثمة مشهدان مرآويان: هنادي وآمنة، أو فاتن حمامة وزهرة العلا، في تقاطعهما الكثيف على شرف ضحية هي ذاتها الجلاد، وبحضور “بركات” لحظة تنفيذ الفيلم. لماذا يأتي السارد بشخصيات فيلمية “صريحة” ليعريها لحظة “التمثيل”؟ لماذا يزيح ورقة التوت تلك عن عورة “التصديق”؟ إن مرجعية الخطاب القصصي تغدو في الحالتين “نصوصاً” قادمة من وسيط مختلف، وبالتالي فما ندعوه “الواقع” كمرجعية لا وجود له، وكأن الواقع ليس سوى التصور الجمالي الذي يقاربه، والذي يحل محل الواقع ليصبح هو المرجع لنصٍ آتٍ.

في النصين يرد السارد المشهد البصري لأصله اللغوي، كأنه يعيد تفريغه من الشاشة للورق (في استعادة عكسية للعملية الأصلية التي تتحول بموجبها اللغة الوصفية لصورة متجسدة) هنا تُردُّ الصورة إلى كلمات وليس العكس. إنها عملية تشبه فعل الذاكرة نفسه: تعيد تفريغ ما حدث لتجعل من “الواقعة” نصاً، وتُحيل السابق في خطية الزمن الكرونولوجي، إن أرادت، لاحقاً. غير أن هذه العملية أيضاً تبدو بالضبط  تمثيلاً لشخوص هذه المجموعة: عمليةNarrative  Reverse أو سرد عكسي  وكأن الشخصيات تتحرك بظهورها للوراء، بحيث يصبح ماضي الذوات هو مستقبل السرد. لكن السارد لا يكتفي بذلك، بل يقدم المشهد في سياق تنفيذه كأنه يمنحه طريقتين في التحرك في الزمن في اللحظة ذاتها: واحدة تتقدم للأمام وثانية تعود للخلف.

فور التأسيس للمشهد الافتراضي، يبدأ السارد التفتيش عن الواقع “المحتمل” خلفه، ذلك الواقع الذي جرت إزاحته لتبتلعه “الصورة” بحيث لا توازيه فقط، بل تنوب عنه وتحل محله بالكامل. هذا الـ Making- Of يتيح أيضاً إمكانية هائلة للإيهام بالمضارع، بينما النص نفسه كمنتج مكتمل يمثل إشارة مغلقة للماضي. وهنا أيضاً تكمن واحدة من المقولات الفنية الأصيلة لهذه المجموعة: الإتيان بزمنين لا يلتقيان على شرف جذر دلالي واحد. أليست قصة مثل “بيت يبحث عن سكن” تمثيلاً مثالياً لهذا الطرح؟

يفعل الواقع الافتراضي شيئاً أبعد من تحويل الواقع لنسخة مقلدة، هو قدرته على تجميد الزمن في لحظة صفرية. تجسد “بيت يبحث عن سكن” هذه الخصيصة خير تجسيد. لم يعد النص هو المشهد المقتطع من شريط سينمائي، بل الحلم المقتلع من منام. الساردة (بالضمير الأول هذه المرة) تنسج قصة تتقاطع بنيوياً مع بنية الحكاية الخرافية: حيث رحلة أفقية بين عدة اختيارات عليها أن تحسم أحدها، الذي يمثل “الصواب” فيما يمثل الآخرون “الخطأ”. موضوع الذات هنا ثلاثة بيوت، على الساردة أن تختار واحداً منها كمسكن. تنقسم القصة لنصفين: نصف يمثله الحلم والثاني يمثله الواقع. لكن المثير في هذه القصة أن عالم الحلم لا يتبخر بعبوره للواقع، بل نجد البيوت الثلاثة نفسها والساردة نفسها، الحلم هو المشهد المكتمل والواقع هو عملية صناعته كمتخيل. هما إذن ليسا متناقضين (وكتابة مي التلمساني إجمالاً هي كتابة إذابة الثنائيات).

تحت سطح الحدث

مع قصة “الوجه الآخر” تتأسس متتالية جديدة تؤلفها ثلاثة نصوص، تضم أيضاً “في انتظار أن يموت أبي” و”سبعة عشر نوعاً من الألم”. إنها متتالية للثالوث الذي تمثل الساردة أحد أضلاعه، ويكتمل هنا بصورة الأب في النصين الأولين وصورة الأم في الثالث، الذي لن يغادر الأب إطاره. الحدث خافت، وعابر، يظهر فقط ليتيح للسارد تقريب عدسته من الذات القابعة تحت سطحه. زيارة للجامعة بصحبة الأب، صورة قديمة وفيلم سينما، انكسار زجاجة تحيل لرحيل أم. نصوص تؤلفها تفاصيل متجاورة، لا متعاقبة،  تلتم كمحكيات صغيرة تمنحها بنيتها الشعرية التي يغذيها تأمل يتوقف فيه الزمن أو يتجمد في لحظة صفرية كأن الذات أوقفت عرضاً لتتأمل أحد مشاهده في لحظة ثبات لا توفرها سيولة الزمن الكرونولوجي. وفي النهاية، هي “الصورة” أيضاً، الصورة التي تخلقها الذاكرة لترتق القفزات الزمنية حتى يغدو بإمكان قصة أن تعبر فيها الساردة عشر سنوات في لحظة تأمل توقف فيها زمن السرد. البطل هذه المرة لم يعد “شخصية” فيلمية بل “فرد” مقتلع من التاريخ الشخصي ليصبح شخصية فنية رغم أنفه (وكأننا أمام العملية الفنية وعكسها)، فرد بطولته الوحيدة هي انتماؤه لأفق السارد. في النصوص الثلاثة ينهض الرصد المشهدي، من جديد كأننا على أعتاب سيناريو يحدد أولاً المكان والزمان اللذين سيمسكان بتلابيب “الحدث”: “موقف الأتوبيس المتجه شمال الدلتا، في الصباح الباكر. الجيبة رمادية ضيقة تصل إلى منتصف الساق والحذاء نبيتي يرتفع عن الأرض مقدار سبعة سنتيمترات” ( الوجه الآخر)، “الباب مغلق والنور المتسرب بين ضلفتيه مصدر اليقين الوحيد بأن ثمة وجوداً خلف الكتلة الصماء. لا صوت لا حركة، فقط ذلك الوميض الواهن مبرر الانتظار وحافز الأمل الممضّ. غير بعيد عن الباب، رجل لا أتبين ملامحه، يلوِّح لي بذراع مشهرة” (في انتظار أن يموت أبي)، “الساعة الواحدة بعد منتصف الليل والمطعم يغلق بابه في الثانية صباحاً. دماغي ثقيل وحركتي أبطأ من المعتاد لكني جلست خلف الدركسيون كأي سائق جسور وقدت السيارة حتى مصر الجديدة” (سبعة عشر نوعاً من الألم). لا وجود لقصة عند مي التلمساني تخلو من ذلك الجدل الذي يشكل بصرية ذاهبة للاستبطان، وهي لذلك نصوص “ظاهراتية” إذا ما استعرنا الفلسفة للاقتراب من شعرية هذه الكتابة أو طريقتها في مقاربة الوجود.

باب تعوزه مرآة

“استعادة هليوبوليس” قصة ختامية، هي قصة طويلة أو ربما “نوفيلا” تحتل وحدها خمسين صفحة، أي نصف عدد صفحات الكتاب بالضبط، تشترك في عنوانها مع رواية سابقة للمؤلفة “هليوبوليس”، كأنها أيضاً الهامش الميتا سردي الذي يبحث خلف المتن التخييلي الذي تمثله الرواية. لا وجود في “استعادة هليوبوليس” لمحكية مركزية، بل تبذر عدداً من المحكيات الصغيرة لا يحكمها قانون التعاقب بل لحظات متجاورة بإرادة الذاكرة التي تستعيدها مؤلفةً، لذلك، نصاً ذا طبيعة شعرية. أفلتت الساردة في هذا النص من فخ “النوستالجيا” بانتقالها السريع من ضمير المتكلم الذي نهض عليه المقطع الأول للضمير الثالث الذي ساد الأحد عشر مقطعاً التالية. هذا الانفصام في الضمائر، رغم أن كلا الـ”أنا” والـ “هي” يمثلان الشخصية ذاتها، خلق المسافة بين ما يوهم بأنه “حقيقي” وما يوهم بأنه “تخييلي”، خاصة مع روح اليوميات التي كُتبت بها، وكأننا أمام نص يتحرك على ذلك الحبل الرهيف بين التخييل والتسجيل، رغم أن النص لا يمكن قراءته بهذه الحدية.

في هذا النص أيضاً يجري التأكيد على الأفق الدلالي الذي ينسحب على المجموعة كلها: المسافة بين الواقع والصورة، بين العين المجردة والعدسة، وصولاً للمفارقة بين ما وقع حقاً وما صار مادة لخيانة الذاكرة: “تدريجياً اختفت الشراعة وحلت محلها العين السحرية، تلك التي تكشف وجه من بالخارج وتُخفي هيئة وصورة من بالداخل. أحياناً كانت العين السحرية تفشل في الإتيان بأي سحر. كانت تبحث عن وجه السائل الواقف بالباب ولا تجده، خاصة لو كان يقف بعيداً عن مدارها تأدباً أو خجلاً أو لغرض آخر. بعد النظر في العين السحرية”. نحن أمام نص تحولات، يرصد بورجوازية مدينة آخذة في خيانة ذاكرتها، مكتفياً ببقاياها في وعي من لايزالون يملكون القدرة على التذكر. القاهرة هي مدينة هذا الكتاب، وبابه، هي المدينة التي تقف الذات خلف شراعتها أو عينها السحرية بادئة بأبطال السينما الافتراضيين، قبل أن تقترب من سيرة الأسرة، لتتجرأ على مقاربة المدينة ذاتها.. لكن الذات، أو هكذا خُيِّل لي، تبحث في الباب ليس فحسب عن “عين سحرية” أو شراعة، بل عن مرآة تتلصص فيها على نفسها، وقد صارت، هي ذاتها، آخر.. بحاجة لمن يراه قبل أن يسمح له بالدخول.

 

عودة إلى الملف

 

مقالات من نفس القسم