السوريون الجميلون، يَرْحلون مَثْناواتْ

جوان حمى
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

جوان حمي
وُرِيَتْ الثرى في الرابع من تشرين الثاني، في مكانين مختلفين من الجغرافيا السورية، قامتان سوريتان جميلتان. الأولى، رثاها السوريون أجمع موالاة، ومعارضة و(البَيْنَ بَيْن) ورثاها كذلك الوسط الثقافي، العربي والعالمي الفنان صباح فخري أبو قوس: حامل عراقة القدود،الطرب البديع،و الموشحات ابتداءً من الاندلس و ابن زيدونها وانتهاءً بالعراق وناظمه الغزالي، لن اتحدث عنه فهو غني عن التعريف.

امّا القامة الثانية الفنان “الكردي”صلاح ر سول أبو روجين فقد حمل عراقة إمارة (بوطان الكوردية) و(خلفي شوڤي xelefê şovî) و (زمبيل فروش وبدرخانها.)..إلى تراث الكوچرات…وللأسف فقد رثاه الكرد فقط دوناً عن بقية السوريين،
فالسوريون لم يسمعوا به، ولمّا تسمح لهم “ديمقراطية” البعث يوماً بالتعرف على الثقافة او الشعر او الغناء الكوردي، كذلك قَمَعَ البعثيون بعنف أي محاولة إثبات وجود للكوردي او تواصله مع أخيه السوري القريب جدأ والغريب جداً، والأصوب من هذا وذاك كان كل ما يَمُتُّ للكورد بِصِلة ممنوعاً إن لم يكن محظوراً، لقد غرس البعث في عقول السوريين خوفاً مزمناً من الكورد، لذلك بقي تقرير الملازم الاول محمد طلب هلال ضابط المخابرات منذ الستينات و مزاجية “الكبل الرباعي المخلد في ذاكرة السوريين “لمساعد المخابرات ابورامز (نظير المساعد جميل في ذاكرة للسوريين)هما المحددان للعلاقة بين الكورد وباقي”السوريين”،حيث أصبحت كعلاقة بين مواطنيّ بلدين مختلفين لقد باتوا غرباء عن بعضهم البعض. تهمة الكوردي كانت ،ولا زالت بعد كل ما جرى: إضعاف الشعور القومي والانفصال.

آهٍ لو أتقن إخوتي السوريون يوماً ما اللغة الكردية-المحرمة على ضفتي دجلة- لتمايلوا على وقع (الپايزوكات الكوچرية ) وثملوا من الشرب من (الأربعين نبعاً العذبة المياه من صدرها). أو من تقبيل (صفار الجدائل) كقمح أواخر أيار، أو( من عينيها اللواتي، يخجل سواد الكحل منهما).كانوا انتشوا من تصوفات(سيداي جزيري) وغزليات(سيداي جكرخوين).

كنا أطفالا طوال القامة،حيث قدمنا من مدينتي الشمالية البعيدة عن كل شئ حتى عن رحمة الرب إلى عاصمة القدود و الطرب الى الشهباء حلب، للدراسة في جامعتها،كنا نستغرب من اتساعها،فساحة قلعتها،حديقتها العامة،جامعتها و… جشع تجارها،نتأفف من نمط الغناء أو الشدو عندهم :
(هيمتني،تيمتني،عن سواها أشغلتني)،(يا حادي العيس..)،(سكابا يا دموع العين)،(الله..الله ياجملو) كيف يُطْرَبوُنَ لهكذا فن،لا إيقاع صاخب فيه يناسب فورة(التستوسترون)في أعمارنا الغضة،لا نَظْمَ يتناسب مع رقصنا -الثوري-الكوردي.
..و ماهي إلا سنة واحدة حتى صرت أرقص بمنديلين في يديّ رقصة (القبا) الحلبية بحركة بطيئة رباعية العدد، تبدأ بالرجل اليمنى مع اليد اليسرى، وتنتهي بالرجل اليسرى مع اليد اليمنى، متمايلاً يسارا و يمينا، منتشياً دونما( منكر)على صوت(ابن أبو قوص): (قدك المياس)،(مالك يا حلوة مالك )، (إنْ تَجودي فَصِلِينْي.)و (خمرة الحب اسقينيها..) واكتشفت إنني اتمايل بالنشوة نفسها وبرقص قريب جداً من الشيخاني الكوردي على وقع اغاني صلاح رسول: (هي تڤ زه ري)،(أز خلفم خلفم)، (چوخي مه نو)،(هي چمو چمو) و(عليو لاوو از تا زه مه)
الفنان صلاح رسول خرج من قامشلو سنة ١٩٩١، هارباً من ديمقراطية دولة البعث،لاجئاً مستغيثاً ببلاد الالمان،نفذ بجسده من الإخوة البعثيين،لكن روحه لمّا تغادر قامشلو، اليوم عاد جسده في صندوق محكم الإغلاق.
لم تتح له الفرصة ليغني على خشبة مسرح ما في وطنه، فالما يشبه المسرح كان فقط في ال٢١من آذار، شهر أتراح الكرد قبل أفراحهم في عيد النوروز، أخشاب من ورشة نجار بناء تُنْصَبُ على عجلٍ قبل شروق الشمس، بمطارق و مسامير بما يشبه المنصة طبعا مع رفع علم الجمهورية و صور الاب القائد ومع كل ذلك تبقى تحت حاجز الخوف من قدوم احدى دوريات الأمن بقيادة المساعد ابو رامز، وهذا يحدث غالباً،اذ يُخَرَّبُ هذا”المسرح”و تصادر الاجهزة الصوتية و مولدة الكهرباء و الاخشاب كذلك، ويسجن كل من غنى او عزف من على سطحه.
بقية المسارح التي غنّى عليها إحياءً لحفلة عرس ما،كانت إمامصطبة ريفية من التراب، الَلِبَن و الطين او على سرير النوم الحديدي الكبير الذي يتسع لجميع افراد العائلة الصيفي المنصوب دوماً مع أرضيته الخشبية،و أحيانا يصعدون في العربة المقطورة الرباعية الدواليب المخصصة لنقل المواد الزراعية (التريللا)
في كل الحالات كانت يزين الجدار الطيني خلفه بطانية او حرام صوفٍ وَبَرِي من ماركة النمر بحيث يظهر نمر ضخم خلفه،وتوضع أمامه ما يشبه أصيص او مزهرية ورد على طاولة مُستَعارةً عادة من أحد الجيران…
لم يرتدْ صلاح رسول أي مدرسة لتلقي الموسيقا،لم يتلق أي عون موسيقي او مادي و مع كل ذاك القمع والاضطهاد البعثي ذلك فقد أبدع في حماية و تطوير الأغنية، التراث والموسيقا الكوردية،واَدْخَلَ الجاز،الاورغ،الاكورديون في الموسيقا الكوردية.
كانت فرقته الأولى من حيث ارتداء أعضائها اللباس الموحد،قد يستغرب البعض من الدهشة في ارتداء فرقة موسيقية لباساً موحداً.

نعم كلها أحداث عادية تحدث في كل مكان إلا عند الكرد و في حكم نظام البعث ستكلفك اشهراً من السجن،وكَمٍ من ضربات الأسلاك الكهربائية المجدولة الشهيرة ب”الكابلات الرباعية” الخالدة في ذاكرة السوريين،والتي إن زالت آثارها عن جسدك،فلن تزول بسهولة من وجدانك.
حلب أنجبت صباح فخري والذي لم يكن ميّاس القد، لم يركب الحمرا، و لم يَحْدْ أبدا مع العيس ،لكنه كان قامة باسقة رنانة في عالم الابداع، كل حجر في قلعتها اليوم بارد، ملتاع، متيم،هائم على رحيل صنّاجة حلب و العرب.
كل المصاطب الطينية،مسارح اعياد النوروز،أَسٌَرٌة النوم الصيفية كل حارات قامشلو تبكي فنانها أبو روجين
في سوريا خسرنا الكثير الكثير،الكبار يرحلون تباعاً،و نخسر قاماتهم والقادمون لا يعزفون إلا طبول الحرب،الحرب التي ستبيدنا جميعاً
لأرواحهم و ارواح السوريين الجميلين السلام و السكينة…
العزاء،كل العزاء في مصاباتنا لجميع السوريين
……
*من البقية العاشقة لسوريا

مقالات من نفس القسم