النظام العالمي للرواية

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 11
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

د.سيد إسماعيل ضيف الله

إن جوهر العولمة الثقافي هو الانتشار والتدفق الثقافي المذهل للثقافات المختلفة بعد تسليعها وتوزيعها  على مستوى العالم، ورغم وجود تفاوتات واضحة في أسهم كل منطقة من مناطق العالم في المطروح في السوق الثقافي العولمي، فإن المعترضين على هذه التفاوتات لا يمكن أن يقفوا عقبة أمام روابط الاتصال القوية بين كل ما هو محلي وكل ما هو عالمي. لقد أصبح التداخل بين ما هو محلي وما هو عالمي حتميًا من منظور مؤسسات العولمة وشبكاتها التسويقية ومنصاتها الالكترونية “فما يحدث على المستوى الاجتماعي المحلي لا يستطيع أن يتخلص من تأثيرات العالمي وضغوطه، وما يحدث على المستوى العالمي لا يكاد يخلو من آثار المحلي”[2].وحماية هذا الانتشار والتدفق والارتباط الوثيق بين المحلي و العالمي أصبحت تكفلها مواثيق واتفاقات ومعاهدات صدَّقت عليها الدول، كما أن الانتشار والتدفق للمنتجات الثقافية أو للثقافات بعد تسليعها تكفله تكنولوجيا الاتصال المتطورة التي لا تملك الكثير من الدول غير الغربية القدرة على منافستها أو الحد من توغلها في أذهان مواطنيها والتأثير على عملية تشكيل الهوية الثقافية. الأمر الذي يعني أن الدولة الوطنية أصبحت مسئولة عن مساعدة مؤسسات العولمة وشركاتها وشبكاتها في أداء مهمتها على المستوى الاقتصادي والثقافي، وأن وجودها الفيزيقي قد يكون مرهونًا في كثير من الحالات بمدى استجابتها لأداء هذا الدور من خلال ما تقدمه من قوانين تشجيع الاستثمار الأجنبي بالصيغة التي تحقق مصالح المستثمرين العابرين للحدود، و دون وجود أية ضمانة للخروج من دائرة التبعية الاقتصادية والثقافية في المستقبل، فضلا عن إمكانية الحلم بتحقيق تنمية متوازنة على المستوى الاقتصادي ونظام وطني لتشكيل الهويات الثقافية بشكلٍ عادلٍ بين مواطنين.

فالدولة الوطنية المتكيفة وظيفيًا مع دورها الجديد في نظام العولمة تمثل بعدًا أساسيًا من أبعاد العولمة الأساسية، والتي هي: ” نظام الدولة الوطنية، ونظام التقسيم الدولي للعمل، ونظام الاقتصاد الرأسمالي الدولي، والنظام العسكري العالمي. وتتمثل المهمة الأساسية لأنصار العولمة في البحث في كيفيات خلق الانسجام بين هذه الأبعاد الأربعة، من خلال توحيد معالم الدولة الوطنية، وإخضاعها لمعايير وقيم وحتى لمنظومة قانونية مشتركة وموحدة، عن طريق دفع الدولة الوطنية إلى المصادقة على الاتفاقات الدولية[3]“.

يمكن القول إن الفرد في العالم العربي والذي أوضحت دراسات ميدانية كثيرة أن ثمة تهديدًا قد طال نظام القيم الأصيل من قبل نظام قيم غربي معولم، هو فرد يواجه التدفق الثقافي العولمي بمفرده دون نظام حماية تكفله الدولة الوطنية بعد التحول الذي طرأ على دورها في النظام مابعد الحداثي/ العولمي، ومن ثم تتضاءل سلطة المجتمع في الضيط الاجتماعي للأفراد كلما أوغلت الدولة الوطنية في الولاء لمؤسسات العولمة، وكلما أوغلت الدولة الوطنية في هذا الولاء زادت عزلة الفرد العربي اجتماعيًا وتفاوض على هويته الثقافية في سياق عولمي يحفز الأفراد على التحرر من ولاءاتهم القومية والوطنية لصالح هوية عالمية متجانسة بفعل ما يتم في السوق العولمي الثقافي من عمليات تجانس للرغبات، وتحكم ليس في الأسعار فحسب، بل وتحكم في الأفكار. ولعل الفارق المذهل بين الدول المالكة لوسائل الإعلام والتواصل في الغرب والدول العربية المستهلكة لهذه المنتجات والثقافات بعد تسليعها وتحفيز الفرد العربي لاستهلاكها بنهمٍ، يكشف عن المسار الأرجح الذي تسير نحوه عملية التفاوض على الهوية الثقافية الجارية في العالم العربي. ومن هنا فإنه إذا ما عرفنا أن ما ما يستقبله العالم من مواد إعلامية بشكل يومي تتحكم الولايات المتحدة في نسبة 65% منه، فإن من الطبيعي أن تكون المنظومة القيمية الأمريكية هي المرجعية الأساسية للتغيير في بلدان العالم[4].

إن امتلاك القدرات الهائلة في مجال الإعلام والاتصالات والتكنولوجية هو أمر حاسم في سوق العولمة، وعلى أساسه تتحدد أسهم كل منتجٍ من منتجي السلع والثقافات، لكن ليس ثمة فرصة أمام جمهور المستهلكين سوى طاعة أوامر السوق العولمي والتشكل وفقًا لما يقدمه من حوافز للتجانس في الرغبات تيسيرًا على منتجي السلع وموزعيها من أجل الوصول لمواطن متحرر من ولاءاته القومية  ومنحاز لرغباته الفردية.إن النظر في التدفق الثقافي والاعلامي على مستوى العالم يكشف عن أن الاحتكار هو الملمح الأساسي للسوق الثقافي والاعلامي العولمي، وأن صناعة العقول وصياغة الرأي العام العالمي وخلق المعتقدات لدى الأفراد بل وخلق جمهور متعصب لفكرة أو لعقيدة صارت مهمة محتكري هذا السوق دون غيرهم، “فهناك 4 وكالات أنباء عالمية معروفة باسم الأربعة الكبار تحتكر80% من فيض المعلومات”[5]، وعلى شبكة الانترنت “يستولي مائة موقع على 80% من إجمالي الزوار، بينما تتنافس ملايين المواقع على الخُمس الباقي”[6].

إن التجانس الثقافي المزعوم كهدف لمؤسسات العولمة وشبكاتها للوصول لمواطن عالمي مُخلص لرغباته الاستهلاكية، ليس في جوهره سوى عملية تجنيس ثقافي يتم فيها خلق متعصبين بشدة لأفكار وسلع مطلوب ترويجها على مستوى عالمي ودون إعمالٍ للعقل بشكل نقدي في مدى جدواها أو مدى الحاجة لها. ويستلزم لنجاح عملية التجنيس الثقافي تلك أن تكون محاطة بفوضى ثقافية تشتت انتباه الأفراد عما يتم لهم من تجنيس ثقافي وهم يتفاوضون على هويته الثقافية بصدق وجدية وببطولة فردية بعد أن تخلت الدولة الوطنية الحداثية عن دورها التقليدي، وبعد أن صارت الأسر والجماعات ذات وشائج واهية لا تحمي أفرادها من العزلة الاجتماعية والاغتراب. فالعولمة من خلال التدفق الثقافي الهائل تسعى “لإفراز تجانس ثقافي وفوضى ثقافية في آن، حيث ردود أفعال دائمة للقوميات، وإفراز ثقافات عابرة للقوميات، وفي هذا تتشكل ثقافة تتجه إلى ما وراء الحدود القومية”[7].

وفي المقابل، لم يعد متاحًا أمام الفرد العربي المدعو للتفاوض على هويته الثقافية بشكل يومي سوى أن يخلص لرغباته الاستهلاكية كي تتحول لأوامر شراء فعلية، ومن ثم لم يعد يرى سبيلا لتحقيق ذلك سوى بتكريس حل النجاح الفردي أو الخلاص الفردي، مما يزيد من العزلة والاغتراب في المجتمع، وبالتالي بناء الهوية بشكل مشوه لأنها عملية بناء تفتقر للحد الأدني من الإحساس بالآخر في المجتمع، فضلا عن بناء مشاعر سياسية متبادلة معه تكفل لهم بناء هوية سياسية مشتركة يخلصون لها ويحمونها  لتكفل لهم سبيلاً آمنا لبناء هويات ثقافية متنوعة في مجتمع متماسك ينعم بولاء أبنائه له ويتمتع بقدرته على ممارسة سلطة الضبط الاجتماعي عليهم برضا متبادل بين الفرد والجماعة. فالمجتمعات الليبرالية التي تطمح إلى العدالة وتكافؤ الفرص تحرص على تربية المشاعر السياسية بين المواطنين حتى يمكنها ان  تحررهم من مشاريعهم الشخصية النرجسية ليلتزموا بالمهام التي تستحق جهدًا كبيرًا مثل مهمة إدماج المجموعات المهمشة والدفاع عن الوطن، والأهم من ذلك أن تجعلهم يحمون أنفسهم من أن يصبحوا ذواتًا هشَّة لا تستطيع أن تحمي نفسها إلا بتشويه الآخر.[8]

إن مثل هذه المجتمعات – في الغالب- تعلن أنها لا تعادي التنوع داخلها ولا تفرض التجنيس الثقافي على مواطنيها، وأنها تعرف كيف تتعامل معه بحكمة وإنسانية فتفرض التجانس في الهوية السياسية التي هي هوية الدولة الليبرالية، وتربى في نفوس مواطنيها المشاعر السياسية التي تمكنها من ذلك، لكن العولمة تعادي التنوع وتفرض التجنيس الثقافي وإن ادعى أنصارها أن غايتها تشكيل هوية إنسانية عالمية عابرة للحدود والقوميات، لأنها تتعصب للعالمية كهوية لمؤسساتها وكهوية مرغوبة لزبائنها، بينما يصيبها الذعر من أي طرح أممي أو عالمي آخر لهوية إنسانية، وفي الوقت نفسه تسوّق لزبائنها انتهاء عصر الإيمان بالهويات القومية والوطنية.

 إن الطرح الأممي أو العالمي لصيق الصلة بالأديان لأن الألوهية إن لم تكن عالمية فهي منقوصة، والألوهية المنقوصة لم يقدمها دينٌ يستهدف أن يكون دينًا عالميًا للإنسانية، ومن هنا تسمح العولمة أو ما بعد الحداثة بوجود الأديان لكن لا تسمح لأيٍ منها بمنافستها في  طرح الهوية العالمية الإنسانية من على أرضية غير أرضيتها الاقتصادية. إن الذعر من الهويات القومية المتماسكة والزعم في الوقت نفسه بانتهاء عصر السرديات الكبرى واحدة من تناقضات العولمة بحسب ما يلاحظ تيري إيجلتون.” فما بعد الحداثة، مع ذلك، يصيبها الذعر إلى حد بعيد من كل الأمميين، بالرغم أن ادعائها أن السرديات الكبرى قد اختفت من على وجه الأرض، أو أنه أينما ينظر المرء لن  يجد هويات مستقرة.”[9]

وفي الوقت نفسه، تدعم العولمة ومؤسساتها وشبكاتها بصوتٍ عالٍ الولاءات العرقية والانتماءات الطائفية للاقليات داخل الدول القومية والوطنية ليس حبًا في الهوية المحلية الطائفية أو العرقية، وإنما كراهيةُ في وجود إمكانية لكيان سياسي قومي أو وطني مستند لسردية من السرديات الكبرى ولم يتم إخضاعه بعد ليكون جنديًا ملحَقًا بمؤسسات العولمة. ومن ثم فدعم الأقليات العرقية والدينية مشروطٌ بأن يكون مضادًا لمشروع يحمل طرحًا مخالفًا للهوية العالمية التي تستهدفها مؤسسات العولمة، ومشروط كذلك بألا تتحول واحدةٌ من أقليات اليوم العرقية أو الدينية إلى كيان سياسي مستند لسردية كبرى تحمي أفرادها من الاستغراق في سرديات العولمة الصغري والمتمثلة في نزعات الاستهلاك اللامحدودة كمشتركٍ وحيدٍ بين مستهلكين ومواطنين في آن للهوية العالمية بعد تجنيسهم ثقافيًا.

ويمكننا أن نكشف عن أثر هذا التناقض الجوهري على الأيديولوجات الجمالية للرواية، وذلك بالوقوف على مفهوم مرتبط بسياق العولمة وما بعد الحداثة وهو “أممية الرواية” أو “أدب العالم”، وكيف يتم تقديمه بشكل مغلوط لترسيخ ثنائية “المركز والهامش”، وهي الثنائية التي تتناقض مع ادعاء العولمة ومؤسساتها وشبكاتها أن غايتها هوية عالمية.هذا المفهوم تأسست عليه الأيديولوجيات الجمالية للرواية على اختلافها تاريخيًا متأثرة بالعلاقة بين ثقافة المركز وثقافات الأطراف  وتغيرها من نظام اقتصادي اشتراكي نجح لفترة في بلورة أيديولوجية جمالية للرواية ذات طابع أممي يحضر فيها الفقراء المهمشون بقوة، إلى نظام آخر جديد ينجح في إزاحة النظام الاقتصادي القديم وما صاحبه من ايديولوجية جمالية للرواية ليقدم أيديولوجية جمالية للرواية تحضر فيها الأقليات وهوياتها الثقافية بقوة، وعلى أساسها يتحدد تصور عالمي جديد للرواية.

**

“أدب العالم”-باعتباره نموذجا لكيفية احتلال المركز في نظام الأدب:

من الملحوظ أن التطور التكنولوجي بوصفه أحد ملامح العولمة لم تصحبه محاولات نظرية عالمية دؤوبة لدراسة السرد فحسب، وإنما صحبه أيضًا انتشارٌ واسعٌ وترسيخٌ نقديٌ لتصنيف السرد ذاته على أساس ثنائية (العالمية) و (المحلية). وهذه الثنائية (عالمي/محلي) ،وللمفارقة، هي جوهر التصنيف النقدي الحداثي وما بعد الحداثي في أكاديميات أوربا وأمريكا عند انتقاء نص روائي ليكون ضمن قوائم مجموعات “أدب العالم”.

إذا كان حلم كل كاتب أن يكون له نص ضمن هذه المجموعات التي يًشار لها بأنها “أدب العالم” لتكون هويته “الكاتب العالمي”، فإن الاختلافات بين القوائم أو الاعتراض على عدم وجود نص ضمن كل القوائم ليس سوى تعبير آخر عن الإيمان العميق بالفكرة نفسها المستندة ليقين بوجود مشروع ومطلق لثنائية “عالمي/محلي”. هذا ما جعلنا نتساءل عن المعايير النقدية التي يمكن الإجماع عليها للتصنيف وفق هذه الثنائية، وبالتالي التفكير في الجماليات العابرة للقوميات وللثقافات وللأزمنة التاريخية. وعلى هذا لم يكن من الممكن الاكتفاء بالكشف عن المغالطات التي انبنى بها مفهوم “أدب العالم”  في سعى المجموعة المهيمنة على مؤسسات النقد العالمية لبناء هوية آخرها المحلي من النصوص، وهو ما نفعله بالتناول النقدي للمفهوم، إذ الأكثر أهمية من وجهة نظري كشف المغالطات التي تبني بها جماعة هوية نصوصها من منطلق أنها النصوص المحلية.

 في ضوء هذا كله، نحاول أن نلقي الضوء على الجدل الدائر حول تصنيف مجموعة من الروايات على أنها “أدب العالم” لتبقى المحلية علامة على هوية غيرها من النصوص، والتفكير بالتالي في الحيثيات التي جعلت من التصنيف الروائي وفق ثنائية (العالمية) و(المحلية) تقييمًا لسرود شعوب العالم، فرضه عليهم المركز الرأسمالي للنقد الأدبي في أثناء عملية تفاوض عنيف على الهوية الثقافية ليس للنصوص الأدبية فحسب، وإنما لشعوب العالم غير الغربي في علاقتهم بمفهوم العالم الإنساني بحسب ما يطرحه المركز الرأسمالي للنقد الأبي في الغرب. ومن المهم أن ندرك مدى ما ينطوي عليه هذا التصنيف للجماليات الأدبية من تقييم ذي طابع تراتبي يتجسد في صيغ المفاضلة بين أيديولوجية جمالية وأيديولوجية جمالية أخرى، أو بين فهم لماهية السرد وجمالياته لدى أمة وفهم آخر للسرد عند أمة لديها موروث سردي مؤثر على تطور تاريخ السرد لديها.

لقد تركّز مجال عمل المركز النقدي الرأسمالي الغربي الداعم لمفهوم “أدب العالم” على “الأدب الحديث”، ,وتحديدًا في الرواية،  ليقطع الصلة بذلك بين التراث السردي لدى الأمم غير الغربية وبين الشكل الحديث للسرد الروائي السائد في المجتمع الأدبي الغربي باعتباره نموذجًا على الأدباء في بقية أرجاء العالم أن يتنافسوا ليحذوا حذوه ويبدعوا في إقناع نقاد ومنظري المركز النقدي في الغرب أنهم قد برعوا في مهمة التبعية الجمالية الموكولة لهم، ومن ثم يستحقون أن يُمنحوا شهادة الجودة الأدبية[10]. وهذا منحى مختلف سلكه منظرو الأدب ونقاده في المركز الرأسمالي العولمي بطرحهم وترسيخهم لمفهوم “أدب العالم”، عما كان أسلافهم يفعلونه بطرحهم مفهوم “الأدب المقارن” لدراسة جوانب التأثير والتأثر بين الأدب الذي ينتجونه في الغرب في الزمن الحاضر أو الماضي، وبين الأدب الذي أنتجته الأمم غير الغربية في ماضيها، حيث كان الحديث عن تأثر كاتب بريطاني أو فرنسي بألف ليلة وليلة أو رسالة الغفران أو بمعلقة عنترة ابن الشداد…إلخ. ومن ثم يدور الحديث حول كيفية وصول التأثير إليهم ومدى هذا التأثير وجوانب الاختلاف بين النصين. لاشك أن مفهوم “الأدب المقارن” صاحبه عملية اختزال للآخر وأدبه نتج عنها صورة نمطية للعالم العربي وللشرق رسخها كثير من المستشرقين، إذ ارتسم في مخيلة القارئ الغربي المنبهر بألف ليلة وليلة أن العالم العربي والإسلامي عبارة عن ساحة كبيرة للخليفة هارون الرشيد وحوله الجواري يغنين ويرقصن!

لقد ظهر مفهوم “أدب العالم” بعدما أدى مفهوم “الأدب المقارن” دوره المطلوب منه في ترسيخ صورة ذهنية عن الآخر غير الغربي لا غنى عنها لتأكيد مركزية الذات الغربية القادرة على التمدد لتحتوي الآخر المختلف عنها لتضفي عليه من أسباب التحضر الذي حازته في الحاضر وعجز الآخر عنه. ومن ثم كان ثمة دور جديد في انتظار مفهوم “أدب العالم”، وهو ترسيخ أنه لم يعد هناك أطراف، لأنه لم يعد هناك عوالم متعددة يمكن المقارنة بين آدابها، وإنما أصبح هنا المركز وأصبح هناك عالم واحد، وبالتالي أصبح العالم الواحد الباقي هو المركز بعد اختفاء الأطراف باختفاء العوالم الثلاثة التي كانت تستمد مشروعية وجودها في عملية مقارنة أدبية من واقع تتعدد فيه العوالم (الشرق- الغرب- الجنوب).”فخطاب العولمة، هو إلى حد كبير، تفكرٌ بموروثات المرحلة التي يبدو الآن، أنها استمرت من 1945 إلى 1989، وهي مرحلة سيطر عليها تخيل معين للكوكب في صورة العوالم الثلاثة. وقد ظهر حديث العوالم الثلاثة -الأول الرأسمالي، والثاني الشيوعي، والثالث الناشئ عن تصفية الكولونيولية – في أوائل الخمسينيات من القرن الماضي، ورغم ما قوبل به من تحدٍ من كل الأطراف، فقد بقى مسيطرًا على تلك المرحلة”[11]. لقد أخذ التنازع بين هذه العوالم كافة الأشكال الممكنة لمعنى التنازع فكان التنازع عسكريًا واقتصاديا وسياسيًا وثقافيًا، الأمر الذي تجسد في وجود تنازع على الأيديولوجية الجمالية التي يُحتكم إليها في النظر إلى آداب الأمم والشعوب وحث أدبائها على إبداع سرودهم على منوالها، ومن ثم يكافؤون بالاندراج ضمن تصنيف أممي للرواية، عابرٍ للدولة الوطنية والقوميات. والأحرى أن نقول إن تطور أشكال العالم الرأسمالي منذ الحرب العالمية الثانية وحتى سقوط حائط برلين في 9 نوفمبر 1989،  وما ترتب على هذا التطور من أشكال مختلفة من العلاقات بين الغرب والشرق والجنوب على مدى نصف قرن،  قد قدم تصورات مختلفة لماهية الرواية ولكيفية كتابة رواية تناسب اللحظة الثقافية التي كان يعيشها العالم الإنساني سواء كان منتجًا أو مستهلكًا في سوق الرأسمالية المادي والثقافي. فـ “عند انتصاف عصر العوالم الثلاثة (1989-1945) بدت الرواية ميتة، مستنفدة. ففي العالم الرأسمالي الأول اختزلت إلى شكلانيات متفاقمة الإمحال، بجوار صناعة قامت على جنس من الحكايا الشكلية. وفي العالم الشيوعي الثاني جرى تحويل التقاليد الرسمية للواقعية الاشتراكية إلى شكل من أشكال الأدب التعليمي الشعبي. وفي جليد هذه الحرب الأدبية الباردة تفجرت [مائة عام من العزلة] 1967 لغارثيا ماركيز، أول رواية من الروايات الأكثير مبيعًا في العالم تأتي من أمريكا اللاتينية (…) وفي إثرها ظهر مفهوم جديد للرواية العالمية”[12].

في ظل ازدهار العالم الشيوعي كانت الواقعية الاشتراكية بمثابة محاولة لبلورة أممية جمالية تحدد ماهية للرواية وكيفية كتابتها وجمالياتها تتسق مع السياق الثقافي الذي يعيشه العالم وقتئذ، ولعل فوز ثلاثية ميغويل آنجيل آستورباس Miguel Angel Astreurias  بجائزة لينين وجائزة نوبل[13] معًا يشير إلى روح الحرب الباردة وانعكاسها على مفهوم الأممية الجمالية المطلوب بلورته وترسيخه بالجوائز الأدبية، لكن إذا كان مايكل دينينغ Michael Denning قد لاحظ ارتباط  الواقعية الاشتراكية بوصفها الأيديولوجية الجمالية الأممية في ظل ازدهار العالم الثاني الشيوعي، بشكل رواية الأجيال أو الثلاثية على مستوى عابر للقوميات، فإن تفسير منح جائزة نوبل لنجيب محفوظ استنادًا لثلاثيته كنموذج على الواقعية كأيديولوجية جمالية أممية، هو تفسير جزئي لأنه لا يلتفت إلى أن جائزة نوبل تمنح لمُجمل أعمال الكاتب وليس لعملٍ بعينه، وتنوع الأيديولوجيات الجمالية الكامنة في نصوص محفوظ عبر رحلته الإبداعية الطويلة يحول دون الاقتناع بتفسير منحه الجائزة بالظرف الثقافي للحرب الباردة وأممية الواقعية الاشتراكية كأيديولوجية جمالية. ومع ذلك نذهب مع دينينغ إلى القول بأن كتّاب الرواية الواقعية على اختلاف أشكال الواقعية قد اعتنقوا ” على نحو معلن، أيديولوجية جمالية أممية، وكانوا يسعون إلى إقامة الروابط العابرة للقارات، ونشطوا في الترجمة، بعضهم لبعض”[14]. وأنه مع وصول الرواية الواقعية لطريق مسدود وبعد أن تشبع من جمالياتها القراء، كانت “مائة عام من العزلة” تدشن للواقعية السحرية باعتبارها خط الإنتاج الجديد لمفهوم الرواية العالمية.

 يتضح مما سبق أن السعى لبلورة جمالية عابرة للقوميات سعىٌ قديمٌ ومرتبطٌ  بأشكال الرأسمالية وتطورها وبالعلاقات الدولية، ولهذا فإنّ من المهم الالتفات إلى تغير الجماليات الروائية زمنيُا والتفاوت الطبيعي بين الثقافات في مدى الاستجابة لجمالية دون أخرى بحسب موقعها من الصراع بين العوالم أو بحسب مدى تواصل تاريخها الأدبي وعدم انقطاعه، وقدرته على المساهمة الفعالة في تقديم أيديولوجية جمالية محلية تستجيب للاحتياجات الجمالية للإنسان المعاصر عبر القارات. إن تغير الأيديولوجيات الجمالية للرواية لا يعني أنه لاتوجد قيمة جمالية ذات طابع عالمي في الإبداع الروائي، وإنما يعني أن تطور الفن الروائي هو نتيجة لتفاعل الحاضر مع الماضي، وأن هذا التفاعل لابد أن ينتج عنه تغيرٌ في شكل الأيديولوجية الجمالية الكامنة في الإنتاج الروائي، وأن هيمنة أيديولوجية جمالية في لحظة تاريخية يعني أن ثمة استجابة بين مستهلكٍ عالمي للرواية ومنتجٍ وفر السلعة المطابقة للمواصفات الرأسمالية للاستهلاك الروائي التي وضعها المركز الرأسمالي للنقد الأدبي بنفوذه التكنولوجي والاقتصادي في سياق العولمة. وللحقيقة فإن المركز الرأسمالي للنقد الأدبي في الغرب أو ما يمكن أن نطلق عليه مؤسسة النقد الأدبي ذات الذخيرة التنظيرية والسلطة الرمزية وذات القدرة على التحكم في الجوائز الأدبية العالمية، بل والقادرة على التحكم بشكل مباشر أو غير مباشر فيما يمكن تقديمه لطلاب الأدب في الجامعات الأمريكية والأوربية من نصوص أدبية باعتبارها النماذج الأدبية الجديرة بالتحليل وتطبيق النظريات النقدية الأدبية الحديثة عليها، أقول، إن هذه المؤسسة – إن جاز التعبير- ليست مسئولة عن تغير الأيديولوجيات الجمالية ، بل ولا يعيب مفهوم العالمية في ذاتها أن يكون متغيرًا بتغير الأيديولوجيات الجمالية للفن الروائي، لأن في هذا التغير ذاته ” تكمن أهمية عالمية القيمة الجمالية ودلالتها بالنسبة لتطور الفن، ولكي يتكشف هذا لنا فلابد أن نهجر التصور الاستاتيكي للقيمة العالمية وندرك أن لهذه القيمة العالمية خاصية الطاقة الحيوية والتي تتجدد باستمرار”[15].

ولكي ندرك أهمية هذا التغير في الأيديولوجيات الجمالية للرواية يمكن أن نلقي نظرة على جدول أعددته استنادًا لتصور قدمه الباحث شكري عزيز الماضي في كتابه “أنماط الرواية العربية الجديدة” على خلفية مقارنته بين مفاهيم ثلاثة يستدعي كل منها الآخر (الرواية التقليدية- الرواية الحديثة- الرواية الجديدة)[16] باعتبارها ثلاثة أشكال تمثل تطور الرواية العربية دون الوقوع في فخاخ التحقيب الزمني، لكنها تعكس من وجهة نظري تطور التاريخ الثقافي والفكري للرأسمالية الغربية، وهو تطور تباينت أنصبة الأمم من إنجازه بقدر ما أوغلت في التشكل بهوية الغرب الراسمالي اقتصاديًا وثقافيًا. ومن ثم تعكس هذه الأنماط الثلاثة للتطور الروائي التطور من عصر ما قبل الحداثة إلى زمن الحداثة إلى زمن ما بعد الحداثة، مع ضرورة فهم العلاقة على أنها علاقة بين أنساق ثقافية متحركة وليست ثابتة أو جامدة، ويمكن أن نجد ثلاثة أشخاص في غرفة واحدة ينتمون ثقافيًا للأزمنة الثقافية الثلاثة مثلما يمكن أن نجد كاتبًا واحدًا أنتج رواية واحدة بها ملامح من الجماليات الثلاث لهذه الأنساق الثقافية.

الرواية التقليدية

(نسق ما قبل الحداثة)

الرواية الحديثة

(نسق الحداثة)

الرواية الجديدة

(نسق ما بعد الحداثة)

*تصميم يعيد إنتاج الوعي السائد  تصميم يجسد رؤية وثوقية للعالم. تجسيد لرؤية لا يقينية للعالم.
-وظيفتها متمثلة بالتعليم والوعظ والإرشاد مهمتها تقديم تفسير فني للعالم يعكس الإحساس بالقدرة على التفسير والتعليل لظواهر العالم،من خلال التغلغل لجوهر الظواهر وتصوير العلاقات من الداخل. هي جديدة لأنها ضد التحديد والتصنيف بدليل كثرة المسميات التي تحاول الإمساك بها:   (روايةاللارواية-الرواية التجريبية- رواية الحساسية الجديدة- الرواية الطليعية – الرواية الشيئية)
ظهرت في مرحلة النشأة والبدايات بصفة اساسية.لكنها مازالت موجودة. ذات بناء متماسك ومترابط ومتدرج فنيًا(بداية -ذروة –نهاية) الذات المبدعة تحس غموضًا يعتري حركة الواقع، كما تشعر انها مهددة بالتلاشي.
من صفاتها النوعية أنها ذات أفكار جاهزة تسقط داخل الشكل الروائي. يختفي الكاتب من أجل الموضوعية الفنية/ الإيهام بالواقعية بغرض إقناع القارئ. تسعى لتأسيس ذائقة جمالية جديدة أو وعي جمالي جديد.
هناك حرص على التوثيق والتسجيل باسم الواقعية مرة وباسم الإيهام مرة تهدف لأن يحل التناغم مكان الخلل، حتى لو كانت ذات رؤية عبثية تعكس تصور الخلل في العلاقات بين الإنسان و محيطه. تستند لجماليات التفكك بدلاً من جماليات الوحدة والتناغم. لذلك تقوم بتفجير منطق الحبكة والتسلسل.
الاهتمام بالوقائع أكبر من الاهتمام بالشخصيات من أجل تحطيم مبدأ”الإيهام بالواقعية” يتدخل الروائي الجديد بصورة مباشرة وغير مباشرة،بل ويخاطب القارئ ويحاوره، ويعلق ويشرح.
وسائل الربط بين الأحداث القضاء والقدر أو تدخلات السارد المباشرة يتعمد الروائي الجديد الانحرافات السردية المتكررة والانتقال من حدث لآخر ومن زمن لزمن، وإخفاء الزمن أو المكان أحيانًا .
ينهض بمهمة السرد راوٍ عليم بكل شئ موضوع الرواية لا يتصف بالتناغم او الوحدة، والشخصيات مجرد أطياف أو حروف أو أصوات
الشخصيات تتكلم لغة الكاتب هناك مستويات لغوية متعددة

إن هذه الأنماط الروائية علامات رئيسية في تاريخ تطور النوع الروائي في الغرب وبالتبعية في دول الأطراف التابعة له جماليًا مثلما هي تابعة له اقتصاديًا وسياسيًا. إن هيمنة نمط من هذه الأنماط لا يكون بقرار تصدره مؤسسة النقد الرأسمالية لتابعيها، كما أنها لا تنتج بنفسها الروايات التي تتنافس لتحظى بشهادة الجودة الأدبية العالمية، وإنما لا يمنع ذلك من القول بأن دورها رئيسي في تحديد مواصفات السلعة الأدبية المناسبة لمصالحها ولترسيخ مركزيتها كشرط لأن تقوم بتسويقها عالميًا بصفتها السلعة العالمية، حتى لو كان منتجو هذه السلع من الأطراف، بل كون بعضهم من الأطراف دليل أوضح على ترسيخ مركزيتها وتحقيق مصالحها من وراء تعميم أيديولوجية جمالية على مستوى العالم. فالعالمية – خلافًا لما يذهب إليه ماكارفسكي- لا تتحقق لنص أدبي بفضل قدرته، كوسيط بين المبدع وجمهوره، على إنتاج محصلة دلالية تستطيع أن تصمد “أمام التغير في المكان والوسط الاجتماعي والزمان”[17]، من خلال تقديم الجوهر الأنثربولوجي للإنسان، ذلك أن المبدعين والمتلقين والنص الأدبي لا يوجدون في الفراغ! فالسياق الثقافي والاجتماعي وطبيعة المجتمع الأدبي والسوق الرقمية ومتطلبات سوق الترجمة الأدبية أصبحت أكثر فاعلية في زيادة انتشار نص ما وتتويج صاحبه ليكون من ضمن قائمة الكتاب الأكثر مبيعًا في العالم.

إن النص القادر على الصمود أمام تغير الزمان والمكان والوسط الاجتماعي والوصول للإنسان في بقاع مختلفة وأزمنة مختلفة لاشتماله على معانٍ وقيم ذات طبيعة إنسانية مشتركة، قد يكون نصًا عالميًا ويندرج ضمن الخوالد الأدبية أو ضمن عيون التراث الأدبي الإنساني، لكنه لن يكون ضمن مجموعات “أدب العالم”، التي تتحكم مؤسسة النقد الأدبي في سياق العولمة في قصرها على الرواية الحديثة، ووفق مواصفات إنتاج أيديولوجية جمالية معينة تتفق والرغبات التي تم خلقها لدى القارئ في السوق الرقمية بشكل متجانس على مستوى العالم.

لقد كان الوصول لمواصفات جمالية تصلح لقراء الأدب عبر القارات من أحلام النقاد، بل إن علم الجمال التجريبي الذي وضع أسسه فيشر Fecher كان يُستهدف من ورائه إلى الوصول لقواعد تمكّن الكتاب من إنتاج أدب لكل قراء العالم. ورغم فشل فيشر في تحقيق هدفه، فإن الحلم ظل يراود ذهن ماكروفسكي متسائلاً:
“هل لنا أن نأمل في يوم من الأيام إلى صياغة مجموعة من الوصايا تؤدي إلى خلق أعمال ذات قيمة جمالية عالمية؟”[18].

لم يصل ماكاروفسكي لوصايا محددة ، بل دعا للتخلي عن التصور الاستاتيكي عند التعامل مع مفهوم القيمة الجمالية العالمية واعتبار تغيرها ضرورة  لتطور الأدب والفن بشكل عام، وهذا صحيح، لكن مؤسسة النقد الأدبي في سياق العولمة، وللمفارقة، حققت حلم فيشر القديم بالوصول لقواعد مطلقة تصلح لكتابة أدب مناسب لكل قراء العالم، لكن بالطريقة التي يتطلَّبها نظام السوق، وذلك من خلال الاستفادة من التدفق الثقافي العالمي عبر النوافذ الالكترونية والوسائط الإعلامية واتباع استراتيجيات خلق الرغبات لدى المستخدمين والعمل على تجنيسهم ثقافيًا بثقافة المركز الأمريكي، باعتبارها ثقافة العالم.

إن وجود مشترك جمالي وثقافي بين الشعوب والأمم لا ينكره أحد، ولا يقاومه إنسان يسعى لوجود جسور للتواصل بين الثقافات، بل إن وجود قراء من أمم شتى تستدعي من تراث الأدب الإنساني ما يشبع حاجات الإنسان المعاصر الجمالية في بقاع مختلفة من العالم دليل على أن المشترك الجمالي الإنساني له جذور قوية، وأنه يمكنه لو تم البناء عليه بطريقة عادلة أن يكون لغة تواصل لتجسير الفجوات العديدة بين الشعوب. لكن ما قدمته مؤسسة النقد من خلال مفهوم “أدب العالم” في سياق العولمة ليس سوى ممارسات كولونيالية متسترة بمفهوم العالمية لتأكيد أن ما بقى هو المركز الأمريكي/الغربي، وأنه ما زال من الوجود هم كل الأطراف بعد تجنيسهم ثقافيًا وجماليًا. ولهذا كان مفهوم “أدب العالم” منذ نشأته مفهومًا يتسم بالزيف، فإقصاء التراث السردي الشفاهي وقطع الصلة بينه وبين السرد المعاصر للتركيز على الرواية الغربية يجعل من مفهوم “أدب العالم” منافسة بين التابعين لإثبات كفاءتهم – من خلال الجوائز الأدبية الكبرى-في إنتاج رواية المركز أو الرواية التي يرضى عنها المركز بحسب الأيديولوجية الجمالية التى حددها- ليتمركزوا وليعولموا فينتعش سوق الرواية العالمية. ومع ذلك، فإن التفوق في المنافسة لن يغير من هوية التابع بوصفه ابن الأطراف اللاجيء للمركز لنيل الاعتراف النقدي بأدبه. ثمة أمر آخر يطعن في الأسس التي تدير بها مؤسسة النقد في سياق العولمة عملية التصنيف على أساس ثنائية “عالمي/محلي”، وهو الانحياز الكمي الواضح لنصوص العالم الغربي في مجموعات أدب العالم على حساب نصوص بقية الأمم غير الغربية. فإذا كان من المفهوم أن نشأة الرواية في الغرب يكفل لأدباء الغرب أن يكونوا بلا منافسة حقيقية من شعوب بدأت تستورد وتتعرف على شكل الرواية الغربية، فإن القرن العشرين قد شهد تطورًا في إنتاج الرواية الغربية في بلاد غير غربية يجعل المرء يتشكك في أن يكون الغرب هو الراعي لأعراف الرواية في القرن العشرين، بعد تفوق أدباء العالم غير الغربي على آباء الرواية في الغرب، لكن عدم قبول مؤسسة النقد الاعتراف بذلك جعلها تنحاز في تصنيفها لمجموعات “أدب العالم” بشكل واضح ضد الآداب غير الغربية.”فالغرب، أعني أمريكا الشمالية وأوربا، الذي يمثل أقل من 20% من سكان العالم، وأقل من 10% من نسبة لغات العالم وثقافاته، لديه 75% من مساحة مصنفات مجموعة أدب العالم، بينما بقية شعوب العالم محشورة في نسبة الـ 25% الباقية”[19].  

ومن هنا يتضح زيف ادعاء أن ممارسات المركز الرأسمالي للنقد الأدبي في سياق العولمة يمكن أن تنتج مجموعات تعكس بصدق إسهامات شعوب العالم في إثراء النوع الروائي فضلًا عن التراث الحكائي الإنساني. “إن القول برواية عالمية، كالقول بموسيقى عالمية، أمر تحوطه الشكوك؛ فهي وإن كانت تشير، على نحوٍ لا زيفَ فيه، إلى الجغرافيا المتحولة للرواية، فإنها تبقى وسيلة تسويقية تسطح تراثات إقليمية ولغوية متباينة لتدخلها في لحنٍ عالمي كوزمبوليتاني واحدٍ، بحيث تؤدي الواقعية السحرية دور جماليات العولمة، وغالبًا ما تكون صفة العالمية عنوانًا فارغًا ومفتعلاً مثل الحداثة والواقعية الاشتراكية اللتين حلت محلهما”.[20]

في عالمنا العربي، ثمة آثار سلبية عديدة لمؤسسة النقد الأدبي في المركز الرأسمالي الغربي على المجال الأدبي العربي، وفي مقدمة هذه الآثار الانشغال بانبهار مفرط  بمتابعة التدفق الثقافي العولمي ومسوغات النظريات الأدبية للأيديولوجيات الجمالية الأممية وصولاً لأدب العالم وواقعيته السحرية كأيديولوجية جمالية للعولمة، وقد ترتب على هذا عدم الاهتمام الكافي بوصل ما انقطع في تاريخ الأدب العربي وأنواعه وأعرافه وجمالياته[21]. ورغم التبعية بإخلاص للمركز وأيديولوجياته الجمالية، لم يسفر ذلك كله عن لفت انتباه دارسي الأدب ونقاده في صفوف الأدب  بالجامعات الأمريكية لدراسة “الأدب العربي  في مرحلة ما بعد الاستعمار، [كما أنه] لا يتعرض تدريس الأدب المقارن في الجامعات الأمريكية لدراسة سياقية للأدب العربي الحديث”[22].

لاشك أن فوز نجيب محفوظ بجائزة نوبل في عام 1988كان نقطة فارقة في تاريخ العلاقة بين المركز الأدبي والهامش، إذ أصبح الأدب العربي موضع اهتمام المترجمين فتضاعفت حركة الترجمة الأدبية عدة أضعاف منذ هذا الاعتراف العالمي برواية محفوظ رواية عالمية وبمحفوظ روائيًا عالميًا، لكن هذا الحدث الذي مرّ عليه ربع قرن من الزمان، أحدث تشوهًا في المجتمع الأدبي العربي -بحسب ما يؤكد صبري حافظ – حيث “أصبح لدينا العديد من النصوص المكتوب بالعربية من قِبل كتّاب عرب لا يعرفون لغة أوربية واحدة، ونصوصهم تستهدف بشكل ضمني القاريء الغربي. وقد أخذ هذا الأمر ثلاثة أشكال. الأول هو شرح المرجعية الثقافية المحلية التي يعرفها القاريء العربي جيدًا.وهذا بالأحرى قاده للنظر فيما هو مشروح. والثاني تغريب العالم الروائي واختيار موضوعات يعتقد الكاتب أنها يمكن أن تجذب القارئ الغربي. والثالث تزييف الواقع  ولى عنق تقاصيل معينة لتناسب أو تبرر التصور المقبول في الغرب عن الشرق”[23].

لقد انشغل كثير من الروائيين العرب- حقًا -في العقدين الماضيين بترجمة رواياتهم واتبعوا الإرشادات اللازمة لتحقيق ذلك بسهولة، لكن الحديث عن أثر ذلك فيما قدموه من سرود تتمثل في استفاضتهم في  المرجعية الثقافية المحلية في الروايات العربية على اعتبار أنها روايات موجهة للقارئ الغربي وليس العربي، بل وتمثيل الواقع سرديًا بشكل مزيف ليوافق تصورات المركز الغربي عن الشرق.

وفي المقابل، نجد ثمة احتفاء في سوق الجوائز الأدبية الكبرى وترجمة الآداب غير الغربية بالنصوص التي تشتغل على انثربولوجيا المجتمعات غير الغربية، وقضايا الهويات الثقافية وأوضاع الأقليات والفئات المهمَّشة كمكافأة على اقتفاء أثر أيديولوجية جمالية للرواية تجعل من واقع الثقافات الطرفية واقعية سحرية مدهشة لقاريء يتم تصويره على أنه منتمٍ لمجتمعات متقدمة “أكثر إنسانية” ولا تعرف هذا الواقع إلا عبر الرواية التي تصبح وسيلة للتعرف على أبناء هذه الثقافات من الوافدين الطامحين للانتماء للمركز عبر اللجوء أو الهجرة.

 فعلى سبيل المثال، يمكن بالنظر لروايات النوبيين في مصر الكشف عن ملمح مهم من ملامح الأيديولوجية الجمالية للرواية حيث يُنظر للهويات الثقافية وقضاياها على أنها عنصر أساسي في بلورة هذه الأيديولوجية الجمالية، فمنذ رواية الشمندورة لخليل قاسم المنشورة في عام 1968، لم تستطع عين المترجم الغربي  التقاط أي من روايات النوبيين وقصصهم البانية لهويتهم القومية، إلا في عام 2005 حين تتم ترجمة[24] مجموعة “ليالي المسك العتيقة” القصصية لحجاج أدول عام 2005 أي بعد صدورها بسبع سنوات عن الهيئة المصرية العامة  للكتاب، وبعد حصولها على جائزة الدولة التشجيعية في عام 1990 بخمس سنوات، ومع ذلك لم يتم الاهتمام النقدي في الغرب بها مثلما يتم الاحتفاء برواية إدريس علي “دنقلة” المنشورة عام 1993 في الهيئة المصرية العامة للكتاب والتي ستتم ترجمتها[25] في عام 1998، وتستمر طبعاتها ليتم تقديمها للقارئ الغربي باعتبارها رواية أقلية عرقية منشقة عن الدولة القومية العروبية في مصر من أجل استعادة الهوية النوبية ذات الكيان السياسي المستقل، ومن ثم يرسخ الخطاب النقدي[26] الاستشراقي لهذا التصور بمفاهيم ليبرالية تتعلق بالحقوق الثقافية للجماعات والأقليات المهمشة. وفي العام التالي لترجمة دنقلة تتم ترجمة أضعف روايات إدريس علي فنيًا وهي رواية “تحت خط الفقر[27]“، لتأكيد هذا التصور المطلوب تثبيته لدى القارئ الغربي عن النوبة وسردها القومي.

أما فيما يتعلق بالجوائز الأدبية الكبرى، فالشكوك التي تحوم حول جائزة نوبل -في الأوساط العربية على الأقل- والتي تكشف بجلاء عن الدوافع السياسية التي تحرّك في كثير من الأحيان بوصلة جماليات الرواية، جعلت الفوز الوحيد في العالم العربي بهذه، وهو فوز نجيب محفوظ في 13 أكتوبر عام 1988، موضوعًا يحتاج – على مدى ثلاثة عقود- للبحث عن أسباب غير أدبية تبرر سبب توجيه بوصلة الدوافع السياسية ناحية جماليات الرواية عند نجيب محفوظ في هذا التوقيت، ولهذا ظهرت محاولات التفسير في شكل اتهامات للفائز الوحيد بالموقف من التطبيع مع إسرائيل مرة، وبالموقف النقدي من الدين مرة أخرى.

صفوة القول إن جماليات الرواية تتشكل في سياق سياسي واقتصادي مرهون بطبيعة العلاقات الدولية وتغيراتها الكبرى، ومن هنا يمكن الحديث عن نظام عالمي للرواية تتغير ملامحه بحسب تغير هذه العلاقات ودورها في سوق الجوائز الأدبية وحركات الترجمة والقدرة على المشاركة في خلق رغبات جمالية أممية متجانسة.

………………………….

المراجع

أولا المراجع العربية:

– شريف محمد عوض: صناعة الثقافة في عصر العولمة وأثرها في تغيير ملامح الهوية الثقافية. مجلة هرمس. إصدار 1، مجلد 2 .مركز جامعة القاهرة للغات والترجمة. القاهرة 2013.

– شكري عزيز الماضي: أنماط الرواية العربية الجديدة، عالم المعرفة، ،ع355،الكويت،سبتمبر 2008.

-طيبي غماري: طيبي غماري:تصورات الدين والثقافة والعولمة:تبريرا للحوار أو القطيعة بين الشعوب.مجلة تبيين، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات. الدوحة، العدد 4، ربيع 2013. (ص-ص163-182.).

– محمد سلامة: أدب العالم بين المركزية والتهميش، قراءة في الأدب العربي ما بعد الاستعمار. مجلة ألف. العدد 34. الجامعة الأمريكية بالقاهرة. القاهرة 2014.

ثانيًا المراجع المترجمة:

  • مايكل دينيغ: الثقافة في عصر العوالم الثلاثة. سلسلة عالم المعرفة العدد 401، المجلس الوطني للثقافة والفنون ، الكويت يونيو 2013.
  • موكارفسكى, جان: هل تكون القيمة الجمالية عالمية؟ ترجمة سيزا قاسم، مجلة ألف. العدد3. الجامعة الأمريكية بالقاهرة. 1983.

ثالتًا المراجع الأجنبية:

  • Abbas, Fatin. “Egypt, Arab Nationalism, and Nubian Diasporic Identity in Idris Ali’s Dongola: A Novel of Nubia.”Research in African Literatures, vol. 45, no. 3, 2014, pp. 147-166.
  • ʻAlī, IdrīDongola : A Novel of Nubia. , United States, 1998.
  • -ʻAlī, Idrīs, Peter Theroux, and Anīs ManṣūDongola: A Novel of Nubia. The American University in Cairo Press, Cairo, 2006.
  • Boullata, Issa J. Dongola: A Novel of Nubia. vol. 73, University of Oklahoma, Norman, 1999
  • Eagleton, Terry. Eagleton, Terry. Culture and the Death of God. Yale University Press, New Haven, Connecticut, 2014.
  • Gilmore, Christine. “A Minor Literature in a Major Voice”: Narrating Nubian Identity in Contemporary Egypt.”Alif: Journal of Comparative Poetics, vol. 35, 2015.
  • Nussbaum, Martha C. Political Emotions: Why Love Matters for Justice. The Belknap Press of Harvard University Press, London; Cambridge, Massachusetts; 2013.
  • Sabry Hafez. “World Literature After Orientalism: The Enduring Lure of the Occident. Alif: Journal of Comparative Poetics, no. 34, 2014.
  • Uddūl, Ḥajjāj H., and Anthony Calder bank. Nights of Musk: Stories from Old Nubia. American University in Cairo, New York; Cairo,2005.

*******

[1] هذه الدراسة نشرت بمجلة هرمس العلمية المحكمة التي يصدرها مركز جامعة القاهرة  لللغات والترجمة  المتخصصة ، العدد23، المجلد السابع، العدد الأول، يناير 2018.

  • [2] طيبي غماري: طيبي غماري:تصورات الدين والثقافة والعولمة:تبريرا للحوار أو القطيعة بين الشعوب.مجلة تبيين، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات. الدوحة، العدد 4، ربيع 2013. (ص-ص163-182.). ص169.

[3] المرجع السابق.ص175.

[4] شريف محمد عوض: صناعة الثقافة في عصر العولمة وأثرها في تغيير ملامح الهوية الثقافية. مجلة هرمس. إصادار 1، مجلد 2 .مركز جامعة القاهرة للغات والترجمة. القاهرة 2013. ص108.

[5] المرجع السابق، ص108.

[6] المرجع نفسه، ص-ص108-109.

[7] المرجع نفسه، ص-ص105-106.

[8] Nussbaum, Martha C. Political Emotions: Why Love Matters for Justice. The Belknap Press of Harvard University Press, London; Cambridge, Massachusetts; 2013.p.3.

[9] Eagleton, Terry. Eagleton, Terry. Culture and the Death of God. Yale University Press, New Haven, Connecticut, 2014.p.188.

[10] , Sabry Hafez. “World Literature After Orientalism: The Enduring Lure of the Occident. Alif: Journal of Comparative Poetics, no. 34, 2014.12.

[11] مايكل دينيغ: الثقافة في عصر العوالم الثلاثة. سلسلة عالم المعرفة العدد 401، المجلس الوطني للثقافة والفنون ، الكويت يونيو 2013.ص44.

[12] المرجع السابق.ص75.

[13]  المرجع السابق ، ص91.

[14] المرجع السابق.ص92.

[15] موكارفسكى, جان: هل تكون القيمة الجمالية عالمية؟ ترجمة سيزا قاسم، مجلة ألف. العدد3. الجامعة الأمريكية بالقاهرة. 1983. ص73-74.

[16] شكري عزيز الماضي: أنماط الرواية العربية الجديدة، عالم المعرفة، ،ع355،الكويت،سبتمبر 2008،راجع التصدير،ص-ص8-16.

[17] موكارفسكي، جان: مرجع سابق. ص78.

[18] المرجع نفسه، ص79.

[19] Sabry Hafez. “World Literature After Orientalism: The Enduring Lure of the Occident.” Alif: Journal of Comparative Poetics, no. 34, 2014, p.31.

[20] مايكل دينيغ: مرجع سابق.ص76.

[21] Sabry Hafez.Ibid. p-p 23-26.

[22] محمد سلامة: أدب العالم بين المركزية والتهميش، قراءة في الأدب العربي ما بعد الاستعمار. مجلة ألف. العدد 34. الجامعة الأمريكية بالقاهرة. القاهرة 2014. ص 57.

[23] Sabri Hafez.Ibid. p.p.30-31.

[24] Uddūl, Ḥajjāj H., and Anthony Calderbank. Nights of Musk: Stories from Old Nubia. American University in Cairo, New York;Cairo;, 2005.

[25] ʻAlī, Idrīs. Dongola : A Novel of Nubia. , United States, 1998.

-ʻAlī, Idrīs, Peter Theroux, and Anīs Manṣūr. Dongola: A Novel of Nubia. The American University in Cairo Press, Cairo, 2006.

[26] Abbas, Fatin. “Egypt, Arab Nationalism, and Nubian Diasporic Identity in Idris Ali’s Dongola: A Novel of Nubia.” Research in African Literatures, vol. 45, no. 3, 2014, pp. 147-166.

– Boullata, Issa J. Dongola: A Novel of Nubia. vol. 73, University of Oklahoma, Norman, 1999.

– Gilmore, Christine. “A Minor Literature in a Major Voice”: Narrating Nubian Identity in Contemporary Egypt.” Alif: Journal of Comparative Poetics, vol. 35, 2015

[27] Alī, Idrīs,  Taḥta khaṭṭ al-faqr. English.;”Poor,  translated by Elliott Colla. vol. 3310/07., American University in Cairo Press, New York;Cairo;, 2007.

مقالات من نفس القسم