إبراهيم عبد المجيد
خرجت أنا الذي كنت أريد أن أسمع حكايات عن البلد وما فيها، بالإضافة إلى ما فزت به من جنس، أن أرى شيئًا ممّا أقرؤه على صفحات الإنترنت في الطرقات. ما هذه الحكايات المسحورة التي تُلقى في طريقي؟! هذه هي الحقيقة وما أقرؤه هو الوهم. أخشى الآن أن أصعد أيّ مركبة فأجد كلّ الجالسين صامتين. ثمّ يتحوّلون إلى عجائز يجلسون القرفصاء فوق المقاعد!
تصوّرت أنّ كلّ الطرقات امتلأت بالعجائز من الرجال والنساء، يجلسون القرفصاء وأنا أمشي في بلد العجائب. أخذني الحنين إلى السينما لأرى فيلمًا من أفلام الخيال العلميّ أو الخيال فقط، «آلة الزمن» لرود تايلور أو «حول العالم في ثمانين يومًا» لديفيد نيفن وشيرلي ماكلين، أو»مليون سنة قبل الميلاد» لراكيل والش، أو فيلم «كوكب القرود» لشارلتون هيستون. لا شكّ في أنّ موجة هذه الأفلام ازدادت في هذا العالم المجنون. فأنا أرى على مواقع الأخبار واليوتيوب حفاوة كبيرة بأفلام مثل «جودزيلا» و»الخاتم» و»حرب العوالم» و»فرانكشتاين» و»دراكيولا» وغيرها. الأمر يبدو كأنّه هو الطبيعيّ الآن وما الحياة إلّا فيلم رعب كبير.
من الممكن جدًّا أن أذهب إلى الأوبرا الجديدة التي بُنيت بعد انتهاء روايتنا في منطقة الجزيرة. الأوبرا القديمة احترقت في زماننا. لا أنسى ذلك. احترق بعدها أكثر من مسرح. قيل آنذاك إنّ سبب تكرار الحرائق هو سرقة تراث المسارح المحفوظ من نصوص قديمة وملابس، فما بالك بما كان في الأوبرا القديمة، بل قيل إنّ مجهولين يذهبون إلى شارع محمّد علي ليشتروا من سكّانه القدامى من الموسيقيين اسطوانات الأغاني القديمة ثمّ يذهبون بها في سفينة ليلقوا بها في البحر الأحمر. وكنت قد مشيت مسافة طويلة على ضفاف النيل. وبدون أن أشعر بالتعب وجدتني عند كوبري أمبابة الكبير. كلّ شيء قديم هنا يستحقّ كتابًا، لكنني ما جئت لأرثي الماضي. جئت أتفرّج وأكتب رواية. وتذكّرت سعديّة وهي تقول إنّ رجال الحيّ صاروا يجلسون تحت كوبري أمبابة يبكون، وإنّه لم يبقَ منهم غير ثلاثة. أخذني الشوق إلى أن أقترب من أسفل الكوبري، لكنني رأيت زحامًا من الشباب والرجال وسيّارة بوليس وعددًا من رجال الشرطة. هل ثمّة غريق؟ اقتربتُ فوجدت على الشاطئ تحت طرف الكوبري أكوامًا من الهياكل العظميّة ورؤوس الحمير والجميع يضربون كفًّا بكفّ. واحد يضحك ويقول: «لم تبقَ في البلد حمير لنأكلها. سنذهب الآن إلى الكلاب».
وقفت أهزّ رأسي غير قادر على التصديق. كلّ هذه الأعداد من الحمير حقًّا! وتذكّرت أسطورة من وسط إفريقيا تروي أنّ الحمير ضاقت من أفعال الإنسان بها، ففكّرت في التخلّص منه، لكنّها أدركت أنّه أكثر ذكاء وقوّة فقرّرت أن ترسل أحدها إلى الله الذي خلق الجميع كي تشتكي له من أفعال الإنسان. أسطورة منذ آلاف السنين تقول إنّ الحمار الذي أُرسل لم يعد حتّى الآن، وهذا سبب أنّك ترى الحمار إذا لقي حمارًا آخر في الطريق اقترب منه برأسه ثمّ مضى في طريقه. إنّه يسأله هل عاد الذي أرسلناه فيجيبه أن لا. عذاب أبديّ مكتوب على الحمير والبشر. هل أذكّركم بأسطورة سيزيف؟
لم أشأ أن أرهق مشاعري. تركت المكان ومشيت أتذكّر السينما والأوبرا والموسيقى. فأنا من وهم. شخصية في رواية قديمة لسامح وأعادني إلى الحياة فيجب أن لا أرهق نفسي. لابحث عن أسباب للفرح. لكن قد يكون جميلًا أن يوقف الله قدرة الكتَّاب على استعادة شخوصهم. أجل.. قد يتطوّر الأمر ويستطيع القرّاء أن يفعلوا ذلك. تصوّر أن يعيدني إلى الحياة كلّ من قرأ روايتي. وما أكثر الأشرار الذين قد يعبثون بنا. قد يعيدني إلى الحياة عشرة قرّاء في لحظة واحدة فأكون كما أنا الآن على الرصيف، لكن عشرة أشخاص يقفون وهم ينظرون إلى الناس! الناس يروننا متشابهين فيجرون مرعوبين. ههههههه للأمر طرافته حقًّا. لكن ماذا يحدث لو زُجّ بنا في السجن نحن العشرة في وقت واحد بتهمة أنّنا توائم لا يُعرَف أصلهم. يا إلهي. نحن نضحك الآن و»العنبر» في السجن صار خاليًا إلّا منَّا. لقد استعادنا في وقت واحد عشرون قارئًا وليس عشرة.
– إلحقني ياحضرة الضابط.
الجنديّ العجوز يجري مرعوبًا ونحن نضحك.
أسمع حركة أقدام خارج «العنبر» ثمّ ينفتح الباب لأرى أمامي مأمور السجن. عرفته من النجوم الكثيرة التي على كتفيه ومن جسمه العريض ووجهه الأحمر من فرط الغذاء الطيّب وحوله ثلاثة ضبّاط صغار نحاف جدًّا وأمينا شرطة والجنديّ العجوز يصرخ:
– شف يا حضرة المأمور. شوفوا يا حضرات الضباط. المساجين كلّهم النهاردة صاروا شبه بعض. أنا مرعوب.
بدا الارتباك على وجهَي الضابطين الصغيرين لكنّ المأمور الذي اندهش للحظة قال وهو يبتسم في سخرية:
– قديمة. فيهم واحد ساحر استطاع يعمل كدا. نحن مش أغبياء. هاتوا لي هذا.
وأشار إليّ أنا فجرى نحوي أمينا الشرطة يمسكان بي وقال المأمور:
– هو الساحر. أريده أن يعترف.
رأيت بقيّة العشرين يضحكون وهم يلتفتون بوجوههم إلى الوراء. لقد خانوني رغم أنّنا في الأصل واحد. تذكّرت أحد مشاهد فيلم سبارتاكوس، والقائد الرومانيّ لورانس أوليفييه في الفيلم يسأل العبيد بعد هزيمتهم في ثورتهم من هو سبارتاكوس؟ ويقوم شخص غير كيرك دوجلاس يُعلن أنّه سبارتاكوس ثمّ يقوم توني كيرتس الجميل يعلن أيضًا أنّه هو سبارتاكوس، ثمّ يتوالى قيام العبيد يعلنون أنّهم سبارتاكوس، لكن في النهاية عرف القائد الرومانيّ سبارتاكوس الحقيقيّ وصلبه. يا إلهي. أين ذهبت الآن جين سيمونز التي أحببتها كثيرًا حتّى إنني كنت كلّما شاهدتُ لها فيلمًا أكاد أقفز إلى الشاشة لأقطف من عنب شفتيها. لقد قرأت الرواية، رواية هوارد فاست. مازلت أذكر. سأعرف من الإنترنت مَن ظلّ حيًّا ومَن مات من الذين أحببت من أبطال السينما. لا. الأفضل أن يظلّ كلّ شيء في مكانه. لست بحاجة إلى إثقال روحي بحزن جديد. تذكّرت ذلك ثمّ عدت إلى ما كنت بصدد تخيُّله وضحكت لأنني أعرف أنّ أشباهي الذين خذلوني سيشعرون بكلّ ما يسلَّط عليّ من عذاب! سيصرخون كما أصرخ في «العنبر» الكبير وسيتقافزون بين الأرض والسقف بسبب ما يقع عليّ من ضرب بالعصيّ أو بالكرباج أو المسّ بالكهرباء. هم أنا وأنا هم لكن هل تفهم إدارة السجن أنّ ما يحدث ليس إلّا رواية؟
يا إلهي. كيف فزت يا سامح بما كتبت من روايات؟ كلّ هذه المتعة توفّرت لك مع كلّ رواية! ويتحدّث الكتَّاب عن معاناة الكاتب، أنتم دجّالون أيّها السحرة. لقد عرفت الآن لماذا تسجنكم الدول الديكتاتوريّة. ليس بسبب آرائكم السياسيّة إطلاقًا ولا آرائكم في النظام الحاكم، لكن بسبب المتعة التي تحصلون عليها بالمجّان ولا يحصل عليها الحكّام. الحكّام يمشون في مواكب من الشرطة وأنتم أحرار طلقاء.
…………..
فصل من رواية السايكلوب تصدر قريبا عن دار مسكيلياني في تونس