أيمن مصطفى الأسمر
(1)
يصحو في كل يوم طفلا صغيرا عاجزا ينتظر أمه لكي تعينه على النهوض والاغتسال ثم تناول الفطور، بعد ساعات قليلة يصبح صبيا يلعب مع أقرانه بالمدرسة ويشاغب مدرسيه، أما بعد الظهيرة فإذا به شابا قويا قد فرغ من تناول وجبة الغذاء مبكرا وخرج مسرعا يسعى على رزقه ورزق زوجته وطفله الوليد، بعد مغيب الشمس يبدو كرجل يقترب من الشيخوخة يسير بتؤدة عائدا إلى منزله، وقبل انتصاف الليل بساعة أو اثنتين يتكوم على فراشه هرما لا حول له ولا قوة آملا أن يأتيه الصباح بحياة جديدة.
(2)
يجلس وحيدا كعادته في أغلب أيامه الأخيرة لتناول الإفطار مبكرا جدا ، يحرص على أن يستمتع بقدر الإمكان بوجبة إفطاره فهي المفضلة والأساسية بالنسبة إليه، تتكون وجبته في الغالب من أرغفة الخبز الأسمر الذي يحبه بجانب أنواع مختلفة من الجبن وأحيانا المربى أو العسل والحلاوة الطحينية، وفي حالات أقل عددا يكون طبق الفول المدمس بالزيت والملح والليمون هو الرفيق الأوحد لأرغفة الخبز الأسمر، يتواجد دائما كوب كبير من الشاي يتبعه في الغالب بكوب آخر، وهكذا في خلال ربع ساعة أو أكثر قليلا تنتهي متعته الصباحية الوحيدة التي يبدأ بها يومه الشاق المضجر الطويل.
(3)
تداهمك وقائع ورؤى، تمتص حياتك فلا تترك لك حيزا للتنفس، تختلط عليك الأمور فلا تعرف أهي وقائع أو رؤى أم الاثنين معا؟ يتصاعد ضغطها عليك فتفقدك القدرة على التعامل بصورة طبيعية مع نفسك ومع الآخرين، تحاول أن تخفف من وطأتها على نفسك فتقرر أن تبدأ في تسجيل ما تتذكره منها، آملا أن يساعدك ذلك في اكتشاف حقيقة ما ينتابك ويكاد يقضى بصورة كاملة على حياتك.
(4)
تنسكب الحروف والكلمات من قلمي على الورق مضرجة بالدماء، تقتطع أجزاء من روحي ونفسي مع كل حرف أو كلمة، فتولد معها حياة وتموت.
(5)
لأنك تعيش حياتك في أحلامك .. تعيشها حقيقة لا مجازا، فالنهار ليس إلا رحلة شقاء لا تعني لك شيئا على الإطلاق، أما الليل ففيه تحيا، ترى من ترغب في رؤيتهم، فتسعد بهم ومعهم، وينفتح أمامك الكون فتذهب إلى بقاع تحفها البهجة ولا يكتنفها السأم، ترى فيها حبيبتك التي اخترتها واختارتك دون غيرك، تنصهران معا في جسد واحد وروح واحدة، لا تعرفان شقاقا أو نفورا، تقودك هي لتكتشفان معا تلك البقاع السحرية على مهل، تستمتعان بكل لحظة وتشربان منها حتى الثمالة، وفي كل حلم جديد تنتقلان إلى بقعة أخرى وتكتشفان كائنات جديدة، وتعرفان معنى الحياة .. ومعنى الحب.
(6)
عندما تلاقت عيناك بعينيه .. انجذبت إليه رغما عنك، رأيت فيه مستقبلك البعيد أو القريب، حالك بعد سنة أو سنتين، شهر أو شهرين، يوم أو يومين، كائنا ممسوخا لا ملامح واضحة له، كومة من القذارة والعشوائية، لم تستطع أن تخفض بصرك عنه، ورغم رثائك لحاله إلا أنك تري فيه نفسك، تشيح بوجهك بعيدا عنه آملا أن يخيب ظنك فلا تكون هو.
(7)
لا تعرف بالتحديد هل تلك المشاهد التي تمر بك أهي واقع تعيشه أو أنها حلم تراه في منامك، تختلط عليك الأمور فلا تدرك تماما الفرق بين الحقيقة والخيال، تمر بأماكن تظن أنك تعرفها لكنها تبدو مقفرة لا أثر بها لحياة، وترى أناسا تظن أنك تعرفهم لكن وجوههم تبدو غريبة ومختلفة، تجري بينك وبينهم وقائع كثيرة، فلا تدري أهم يلعبون معك أو يتلاعبون بك، تتابع المشاهد وتتراكب وتتحول إلى كابوس متصل في يقظتك ومنامك، تبحث عن قلب دافئ تستقر بداخله وتتخلص من همومك وآلامك فلا تجد إلا وهما لا يمكنك الارتكان إليه.
(8)
في اللحظات الأخيرة .. تذكرتهم الآن جميعا، تذكرتهم ولم أنس منهم فردا واحدا، مروا عليَّ كلهم وكنت أظنهم قد عبروا في حياتي ومضوا، الآن فقط في تلك اللحظات الأخيرة أكتشف أنهم كانوا هم حياتي بكل تفاصيلها الصغيرة والكبيرة، إما حينها فقد كنت أتعامل معهم على أنهم عابرون، مجرد عابرون، صادفتهم في حياتي ثم تركوها ومضوا، أدركت الآن فقط أنني لم أتمسك بأحد منهم .. ولم أتمسك بحياتي.
(9)
لأنك في رقدتك الأخيرة، الرقدة التي لا قيام بعدها إلا قيام الآخرة، تتذكر الآن كل شيء، وتسمع وترى كل شيء، في ساعاتك الأخيرة .. تتذكرهم جميعا، تسمعهم وتراهم، تعيش الحياة كما عشتها من قبل، وكأحسن مما عشتها من قبل، سبعين سنة أو يزيد تمر عليك سريعا في تلك الساعات القليلة، تراهم وترى غيرهم، يمدون إليك أياديهم وينادون عليك مبتسمين، تبدو هيئتهم غريبة لكنها توحي بالثقة والطمأنينة، فتستسلم لهم سريعا، وتلبي النداء.