د. مصطفى الضبع
الرواية الجدارية هو الوصف الأقرب لرواية “الساقي المغني” للروائية سهير عيد، والدكتورة سهير عيد كاتبة فلسطينية مقيمة في المملكة العربية السعودية، تعمل طبيبة أسنان، تنتمي بجدارة لسردية الألفية الثالثة، صدر لها أربعة أعمال سردية تجمع بين القصة القصيرة والرواية:
- العزف على الوتر الحساس (مجموعة قصصية ) – دمشق 2006.
- قلب ما ….يحترق (رواية ) – الدار العربية للعلوم،ناشرون – بيروت 2007.
- لمن يجرؤ على (مجموعة قصصية ) – دار شمس – القاهرة 2009.
- الساقي المغني (رواية ) – الدار العربية للعلوم ناشرون – بيروت 2013.
في روايتها “الساقي المغني” تقف في منطقة غير مأهولة، منطقة الدبلوماسية العربية عبر مساحة استكشاف لعالم ما وراء الأضواء الدبلوماسية، عالم تستكشف ملامحه بدقة الطبيب الذي يترصد موضع الألم وراء الأسنان التي تبدو لامعة غير أن التسوس يضرب جذوره فيها بقوة وليس غير الطبيب ومن امتلك خبرته قادرا على استكشاف مواطن الألم ومدى صلابة الجدار ليخفي ألما قد لا يتحمله صاحبه، ولكن يتحمله المجتمع الذي لا يشكو إلا من خلال الأفراد .
“الساقي المغني” لوحة للفنان الاسكتلندي جاك فيتريانو( 1999)، والكاتبة تنص على استيحائها عنوان الرواية من لوحته الشهيرة :”عنوان الرواية مستوحى من لوحة (الساقي المغني ) للرسام الاسكتلندي (جاك فيتريانو) (الرواية ص 5)، واللوحة تصور عاشقين يرتديان ملابس سهرة أنيقة يرقصان في حميمية على شاطئ البحر فيما يحمل نادل وخادمة مظلتين لحمايتهما من رذاذ المطر، اللوحة تضم أربعة أشخاص يجمعون بين الذكورة والأنوثة غير أنهما يمثلان طبقتين اجتماعيتين: طبقة عليا يمثلها الراقصان وطبقة دنيا يمثلها النادلان، الجميع يتصدران مشهدا يتأسس على خلفية البحر الذي يبدو حلما أو مشهدا أسطوريا، الطبقة العليا تعيش الحلم وتمارس المتعة والطبقة الدنيا تحميه وتؤطره (الراقصان يتوسطان النادلين اللذين يحيطان بهما) والطبقة الدنيا تمارس العمل، ولكن التفسير الطبقي لا ينفي تفسيرا آخر أوسع: أن الحلم ملك للجميع وأن البحر بوصفه علامة على أسطورة يعيشها الناس جميعهم، وهو ما يؤيده علامتان :المكان الجامع للكل والألوان بوصفها علامة جامعة، حيث يتفوق اللون الأسود (ملابس ثلاثة أشخاص من أصل أربعة: الراقص – النادل – النادلة، فيما ترتدي المرأة الراقصة فستانا أحمر يمثل علامة على اختلافها الظاهري فقط دون أن يخرجها من بشريتها أو يضعها خارج دائرة الإنسانية.
الرواية لا تبتعد عن هذا الطرح الذي تستلهمه الكاتبة طارحة إياه على مجموعة الأشخاص الذين يمثلون مدار حركتها السردية، ويكفي الإشارة إلى الثنائية التي تبدا من ثنائية الرجل والمرأة، ثنائية الشرق والغرب، التقدم والتخلف، الغنى و الفقر وجميعها لا تمثل حالة من التضاد بقدر ما تتجمع في إطار خلفية واحدة أو تضمها حياة واحدة دون أن تتضارب أو ينفي بعضها الآخر.
ولا يتوقف الأمر عند استيحاء العنوان أو عند مجموعة التفاصيل الداخلية في تماسها مع مضمون اللوحة وإنما يتجاوزه إلى الشكل الذي جاءت عليه الرواية آخذة شكل اللوحة متعددة التفاصيل، فالرواية لا تعتمد طريقة الفصول التقليدية أو نظام الفواصل السردية وإنما تأتي دفقة سردية تستلزم تركيزا في التلقي تماما كاللوحة التي تقف أمامها مرة واحدة لتتواصل مع تفاصيلها، تختزن سابقها لتضيفه إلى لاحقها ورابطا بين التفاصيل لتكتمل لديك في النهاية لوحة سردية بكامل نظامها، الرواية بهذه الصورة جدارية سردية تتعدد تفاصيلها، وألوانها ومساحات حضور التفاصيل وتكرارها في إطارها، جدارية تمتد بين حضارتين وثقافتين وزمنين مختلفين للوعي الإنساني، تستغرق متلقيها التفاصيل السردية التي يكون عليه اكتنازها للوصول إلى غاية السارد أو إلى ما تهدف إليه الكتابة نفسها من منظور الكاتبة.
على مدار الرواية يطرح السارد اللوحة بوصفها عنصرا يعمل في الخلفية، ويظهر في مواضع محددة يتأسس عليها عملها:
- العنوان ولوحة الغلاف.
- الحديث المباشر عن اللوحة بوصفها مظهرا واقعيا يجد طريقه إلى الرواية عبر الحوار بين فؤاد ويارا ” قالت له :لا تراوغ أنت تعرف تماما أنني لا زلت ارسم من وقت لآخر آه كم أتمنى أن أقتني هذه اللوحة (الساقي المغني ) ؟، فؤاد : وبكم هذه اللوحة ؟، يارا : لقد تم بيعها العام الماضي في مزاد علني بمليون ونصف دولار ” (الرواية ص 26)، ويكشف الحوار عن خبرة البطلة وعلاقتها بالرسم وعالم الفن، كما يكشف عن طبيعة المجتمع الغربي في اهتمامه بالفن وتقديره مظاهره.
- النسخة الأخرى التي تكون بمثابة النسخة العربية المقلدة للوحة في إشارتها لمجتمع يجتهد في التقليد ” في صباح اليوم التالي أضاءت البسمة وجه فؤاد بعودة يارا والولدين، وقبل أن تلتقط زوجته أنفاسها، جذبها من يديها لتزيل الستار عن شيئ اتخذ مكانه على الجدار في بهو المنزل، فأزاحت يارا الستار فإذا بها تتفاجأ بلوحة الساقي المغني : أيها المجنون، لقد اشتريتها، من أين لك بالمال ؟ فؤاد: لم أفقد عقلي بعد لأشتري لوحة يزيد ثمنها على مليون دولار، كل مافي الأمر أنني بحثت عن رسام ماهر قام بنسخها مقابل ثمن معقول نوعا ما ” (الرواية ص 109) .
تستكشف الرواية عالم شخصيتها الأول الدبلوماسي الذي يكتشف إصابته بالإيدز نتيجة مغامراته غير المحسوبة، ربما تستنيم إلى هذا الطرح السطحي الذي يأخذك إلى فكرة الثواب والعقاب تلك الفكرة التي تريحك عندما ترتدي ثوب الفضيلة لتحاكم بطلا تراجيديا ألقت به أقداره في سياق تجربة تبادر لإصدار حكم افتقاده للفضيلة غير أنك حين تدقق النظر في بطل الرواية سيكون عليك أن تأخذ وجهة أخرى تتمثل في محاولتك توسيع مجال الإدانة دون إيقافه عند البطل المأزوم وإنما تتجاوزه إلى أزمة ثقافة تلعن فعل التحرر ظاهرا وتبيحه خفيا.
تقارب الرواية المرحلة الفاصلة التي يعيشها الدبلوماسي العربي بوصفها علامة على مرحلة فاصلة لمجتمع بكامله ولثقافة بكل تفاصيلها، هي تجربة ثقافة يكشفها الآخر المختلف، والبطل حين يمارس فعل تحرره في موقع آخر يأتي فعله تعبيرا عن طبيعة مجتمعه الذي يشبه النعامة حين تدفن رأسها في الرمال مع علمها التام أنها لا تفعل صوابا ، مؤكدة أن الشخصية الشرقية (خاصة ) لا تتخلى عن وعيها بالحياة والعالم مهما تبدلت بها الأمكنة وتغيرت الأزمنة.
تضعنا الرواية في منطقة المكاشفة لثقافة إدارة الأزمة بين الشرق والغرب ودون أن تذكر المشهدين متقابلين فإنها تضعنا أمام مشهد الأسرة الغربية حين تكتشف إصابة الأم بالإيدز بواسطة حقنة استخدمها مصاب (توسع الساردة من أفق متلقيها حين تضعه أمام أشكال أخرى وطأة من الأسباب الشائعة لنقل المرض وفي مقدمتها الاتصال الجنسي الذي يعد سببا مشينا في الثقافة العربية ) وهو الجانب الذي ينحو بالرواية نحو المعرفية بوصفها اتجاها حديثا يأخذ طريقه للرواية العربية منذ سنوات، الأسرة الغربية تلتف حول مريضها، معلنة تفاؤلها بالمستقبل :” انطلقت السيدة مارجريت بالحديث وجميع أفراد اسرتها ويارا مجتمعون حول مائدة العشاء : لولا أسرتي الصغيرة هذه لما استطعت اجتياز محنتي، كنت على وشك الانتحار والزوال، لكنهم جميعا وقفوا إلى جانبي ” (ص 64 من الرواية )، إنه المنطق الغربي لعلاج الأمور الأسرية والاجتماعية، وفي مقابل ذلك تسعى يارا (الشرقية) حين تشعر بالمشكلة نفسها أن تكتنز الحياة بأن تنفق المال في هدايا تدخل بها السعادة على القلوب لإحساسها بالنهاية جراء إصابة زوجها بالإيدز إنها تنشغل باللحظة متشائمة بالمستقبل :”بدت يارا منشغلة، تسابق الأيام وهي تتجول في أرقى شوارع لندن لتشتري هدايا من أشهر الماركات العالمية ” (ص 73 من الرواية )، وهو ما يتكشف عبر حالة الإيمان بالقدر التي تنحوها الأسرة الغربية بوصفها نموذجا للمجتمع الغربي في مقابل حالة الفضح أو النبذ التي يمارسها المجتمع الشرقي والتي تختزلها الساردة في اللافتة المعلقة في أحد شوارع دمشق، ونطالعها بعيون يارا :” وبينما كانت يارا تجلس في المقعد الخلفي لسيارة الأجرة، لفت نظرها لوحة نظرها لوحة إعلانية من القماش، مكتوب عليها بالخط العريض (الإيدز موت بطئ في الدنيا وفضيحة في الآخرة )، فعاد لذاكرتها دون تعمد منزل السيدة مارجريت ” (الرواية ص 82).
الرمز الأوسع في الرواية تلعبه شخصية فؤاد (لاحظ المعنى المتماس مع القلب ) بوصفه مركزا للعالم تدور حوله الأحداث والشخصيات ويسعى العالم كله لإدراكه أو التواصل معه، إنه الرمز الأدل على الدبلوماسية بوصفها تمثل أولا عنصرا اجتماعيا تكون فيه نموذجا للطبقية الاجتماعية، كما تمثل ثانيا فعلا عقليا يشير إلى حكمة الإنسان في الاعتماد على العقل في تواصله مع الآخرين.
يمثل فؤاد بهذه الصفات مركزا للعالم غير أنه يحمل صفات الشخصية الشرقية في منظورها الحياتي القائم على الامتلاء بالعالم ومحاولة استنزاف طاقاته لمصالحه مخلصا لدبلوماسيته أو لعقليته الدبلوماسية تلك التي تجعله يرى نفسه الكاسب الوحيد في صراعه مع الآخر دون أن يضع في الاعتبار أن الآخر يرى ذلك أيضا وأن الدبلوماسية ليست كالرياضة التي تقوم على مبدأ الفوز والخسارة ففي الدبلوماسية كما في السياسة ليس هناك خاسر في مقابل كاسب وإنما هناك فوز للاثنين معا او للجميع في معظم الأحيان.
ولكن هذه المركزية التي تطرحها الرواية تمثل مركزية وهمية من منظور فؤاد الذي يرتفع بنفسه إلى مصاف النخبة التي لا تعرف سوى المكسب على المستوى الفردي متناسيا أن الدبلوماسية لا تعني مطلقا المكسب للفرد وإنما تعني ببساطة مكسب الجماعة التي ينتمي إليها الفرد، حيث الدبلوماسية تعني أن الفرد ليس مقصودا بذاته بقدر ماهو مقصود لغيره، وإنه عندما يحافظ على فرديته إنما يكون ذلك لصالح من يمثلهم لا لصالح ذاته الفردية.