الطنطورية قراءة سيميو تأويلية

موقع الكتابة الثقافي art 13
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

د.مصطفى الضبع

“كنا فى الإسكندرية ومريم تدرس الطب فى جامعتها. لماذا أستبق الأحداث؟ لم أنته من حكاية أبو ظبى، مازلنا هناك” ( [1] )

تبدو هذه الجملة بسيطة لا غاية منفصلة لها عن سياق السرد الروائى، لكنها بالتأكيد تصلح مفتاحا من مئات المفاتيح التى تضعها رقية (بوصفها راوية وشاهدة على الأحداث) تضعها فى أيدينا لتصفح عالم الطنطورية، ذلك القادر على إشقائنا مادمنا نمتلك قدرا من الإحساس بالمسؤولية، كما أنه قادر على أن ندرك حقيقتنا مادمنا قادرين على أن نشعر بالأساس، وقادر على أن يجعلنا نحافظ على ابتسامة ممتلك الأمل فى غد لم يضع بعد ما دام بيننا رقية وأجيالها المتعاقبة تلك الأجيال التى لم تفقد القدرة على الحلم وعلى أن تستنبت أحلامها فى أى أرض وإن انبتت صلتها بالطنطورية الأرض والناس والتاريخ .

وعلى الرغم من بساطتها تشى الجملة السابقة بعدد من المفاتيح ذات الدلالة على عالم الطنطورية بالأساس، وتؤكد علاقة الترابط النصى بين عدد من العلامات النصية فى إنجازها العملية السردية وتشكيلها الجهاز السردى الكاشف عن قدرات النص فى ثرائه واكتنازه بالكم الهائل من الدلالات التى وإن لم يتمكن المتلقى من التوصل إلى الكم الأكبر منها لقيامها على عمليات معقدة من العلاقات النصية فإنه بالأساس يكون قادرا على التوصل إلى الكثير مما يؤكد قدرات النص، والجملة السردية هنا تكتنز الكثير من المفاتيح التى يمكن مقاربتها فيما يلى :

  • الحركة الزمنية بين الماضى فى حضوره أو استحضاره لخدمة عملية السرد (كنا ) والحاضر ( تدرس) والمستقبل عبر الاستباق ( لماذا أستبق الأحداث ) فى دلالتها على المساحة الزمني التى تتحرك فيها الساردة والتى تتأسس على البداية الزمنية للأحداث منذ الفصل الأول المعنون “طرح البحر” بوصفه استهلال أسطوريا يتطلب تفسيرا له قدراته التأويلية :” خرج من البحر، أى والله ، خرج من البحر كأنه منه وطرحته الأمواج . لم تحمله كالسمك أفقيا ، انشقت عنه ، تابعته وهو يمشى بساقين مشدودتين باتجاه الشاطئ ……” ( [2]) وما بين الجملة الاستهلالية والجملة المفتاحية مساحة 335 صفحة تضم 43 فصلا لها طابعها الملحمى .
  • الحركة عبر المكان بداية من نقطة الانطلاق الأولى ( الطنطورية ) وصولا إلى الإسكندرية مرورا بأبو ظبى ، وعلى الرغم من أن نقاط الانطلاق تتكرر فى كل مرة لتشى ببداية جديدة خالقة لعلاقة بين علامتين سرديتين (نقطة الانطلاق – نقطة الوصول التى تصبح بدورها نقطة انطلاق لميلاد جديد) فإن البداية فى الطنطورية ( لاحظ دلالة الشاطئ ، والبحر والمياه بكل ماتحملها من دلالات الليونة والطهر والطبيعة الأولى بكل براءتها ) تظل محتفظة بتفردها (سنعود للبحر لاحقا ) .
  • حضور الراوية من خلال مجموعة من العناصر الدالة بدورها ( ضمير المتكلم الخالق ساردا مشاركا – الاقتران بالآخرين وإفساح المجال لظهورهم باستمرار ” ومريم ” – حوار النفس ” لماذا أستبق الأحداث ” وهو ليس حوارا مكتملا تماما إذ هو يحيل فى الآن نفسه إلى حوار المتلقى وإقامة علاقة من نوع خاص يتأسس على الحوار بين سارد حاضر ومتلق افتراضى مستحضر- طغيان الماضى بوصفه وثيقة ” كنا ” ” لم أنته ” ” مازلنا هناك” ) وهى عناصر لا يتوقف دورها عند الإشارة إلى مساحات من حركة الساردة وإنما إلى التأكيد على دورها فى سياق النص ، منتجة مستوى أعمق من الدلالة ، فالراوية لا يقف دورها عند مجرد عرض الأحداث والتعليق عليها وإنما هى تضفى عليها من طبيعتها القادرة على التأمل ، تأمل العالم وطرحه بصورة أقرب إلى الملحمية من حيث هى نص له طابعه الشعرى الذى يتيح للمتلقى أن يسهم فى تأويل العالم وتشكيل مساحات إنتاجه دلاليا .
  • اختزال المدن فى حكايات تحتضنها المدن التى تحولت إلى شاهد على الأحداث مجرد شاهد لا يؤثر فى سير الأحداث الكبرى فى الرواية ، فما بين بيروت – الإسكندرية – أبو ظبى وغيرها من المدن خارج فلسطين تبقى قائمة بدور الشهادة متدرجة فى ارتباطها بالأحدث الكبرى ( الاحتلال – الحرب – فقد الوطن ) فبيروت تختلف عن أبو ظبى ، والإسكندرية تتوسط بينهما فى هذا السياق .
  • اكتشاف الطاقات الدلالية للغة الساردة فالجمل فى تواليها لا تعنى ارتباطا عضويا فى المعنى وإن بدا الارتباط العضوى بين جملتين متتاليتين وهو ما يخلق مجالا حيويا للغة شعرية تنبنى على الانحراف الأسلوبى ، فالعلامة الخاتمة للعبارة ” مازلنا هناك ” لا تعنى بالأساس أن هناك يعنى أبو ظبى وإنما يضع احتمالا قويا (يتأكد إذا عدت فى مسار معاكس إلى خط الحكى من لدن رقية متتبعا رحلتها الإجبارية من فضاء  الطنطورية إلى الفضاءات المتتالية والمتوالية بفعل الظروف المفروضة عليها ومحاولتها التعايش معها بقدر يسمح لها بنوع من البقاء .
  • الكشف عن تقنيات الكتابة : من بين عدد من التقنيات المعتمدة فى الرواية تعد تقنية الاستباق والحركة فى الزمن بالاستباق المشار إليه ، والسؤال فى حد ذاته ليس تنبيها أو لوما من الساردة لنفسها وإنما عبر دلالة أعمق تطرح الساردة فكرة أن لجوئها إلى هذه التقنيات لها ما يبررها جماليا وهو ماعلى المتلقى أن يسعى لاكتشافه عبر العلامات السردية الصغرى المطروحة خلال تفاصيل النص بالجمع بين العلامات المتقاربة الدالة على التيمة نفسها ومنها على سبيل المثال :
  • ” قفزت قفزة تختزل من الحكاية خمس سنين . أعود من قفزتى وأسترجع الشريط . مازلنا فى نهاية العام 1977″ ( [3] ) .
  • “فى القادم من السنوات سأكتشف أن الحدس كان دقيقا ” ( [4] ).
  • ” لن نعود إلى لبنان . سنذهب إلى الإسكندرية .بداية جديدة . فى الستين من يبدأ مجددا فى الستين” ([5] ) .

تقف الإشارات الزمنية فى مستواها السطحى ( اللغوى ) لتؤكد ماذهبنا إليه من أن الساردة تتحركة عبر الزمن فى تمفصلاته الثلاثة المعروفة ( الماضى – الحاضر – المستقبل) كما تؤكد قدرتها على إحكام قبضتها على الفعل عبر الزمن سواء كان الفعل خاصا بمجرد سرد الأحداث أو اليقين برؤيتها لما سيتحقق فى لحظة ما ، ثم هو فى مستواه العميق يطرح واحدة من تقنيات الكتابة ، المرتبطة بالزمن والمشتغلة عليه بوصفه شخصية لا يكتب النص عنها وإنما يكتب بها إذ يحولها من موضوع للكتابة عنه إلى تقنية للكتابة بها ، وهو ما ينطبق أيضا على المكان ، والشخصيات ، والثقافة الخاصة بالطنطورة وأهلها .

فإذا كانت الإشارات السابقة جميعها صادرة من “رقية” بوصفها الساردة الأساسية فكما أنها ليست الساردة الوحيدة المنفردة بالحكى فإن الإشارات ذاتها تتوزع لتصدر من شخصيات أخرى تقول مريم ردا على تعجب رقية من أن مريم تقتنى أشياء تبدو من وجهة نظرها غير مبررة :” مظلوم يابيه ! الصندوق أضع فيه صورتك وصورة أبى ورسالة غرامية ستأتينى حتما ذات يوم ! أغلق عليها الصندوق وأحفظها فى خزانتى ………………ماما ، أحيانا نحتفظ بأشياء ربما يصعب أن نختزل قيمتها فى معنى واحد ” ( [6] )، مريم هنا لا تتحدث عن المستقبل فقط ولا تشير إلى أن القديم الذى نحتفظ به إنما نحتفظ به للمستقبل بل غنها تؤكد واحدة من الأفكار القادرة على تأكيد الطاقات الدلالية فى النص ، والتى تمثل رقية و مريم نموذجا جيدا لها ، أعنى أن تضع الزمن داخل الشخصيات ، وأن تجعلها ( الشخصيات ) قادرة على الإحساس بالزمن ليس على مستوى ما تنطق به وإنما على مستوى أعمق يتمثل فى بث الأمل فى الشخصيات ، فأن تمنح الشخصية قدرا من الزمن فهذا يعنى أنك منحتها القدرة على الرؤية المستقبلية لحياتها وعالما ، وأن تملأ فراغها باستشراف مساحة لها أهميتها فى تشكيل رؤيتها لعالمها ، الزمن هنا هو المعنى الأعمق .

  • حضور مريم : من حيث هى شخصية فريدة لحضورها دلالاته متعددة المستويات ، عميقة المعانى ، مريم المتبناة ، الفاعلة بذاتها التى تمنح الآخرين الحياة دونما أن تمتزج بنصف آخر بشرى ، ليس تعسفا فى التأويل – فالوقوف على العلامات اللغوية بداية من مستواها السطحى تشى بذلك – أن نرى مريم فى امتدادها الدلالى ترتبط بمريم العذراء ، مريم ابنة أمين بالتبنى (لاحظ دلالة الاسم بما يحمله من مرجعية دينية وروحية ) ، مريم ابنة أسرة غير معروفة ، كان لأمين أن يتحرى التعرف على أسرتها وعلى الساردة أن تذكر ذلك من واقع القصة التى ذكرها أمين وصدقتها رقية على الرغم من تشكيك الخالة فى نسبها:” يارقية لم أرد أن أسبب لك غما ولكن على أن أفطنك : رأيى أن أمين تزوج عليك وهذه البنت ابنته من امرأة أخرى ” ( [7] ) وكان لتحرى أمين لمعرفة أصلها أو على الأقل كان لاختلاقه حكاية عن أسرتها كان لذلك دوره فى إثبات خلاف ما تدعيه الخالة تشكيكا ، ولكن شيئين جعلا رقية تتجاوز عن الشك فى أمين : أولاهما : ذلك الحب الذى نشأ فى قلبها تجاه مريم :” نعم كان عشقا واضحا وصريحا . ربما يفوق الأمومة التى لا يفوقها شيء . لأن الحب يأتى تراكما وبعد تمهيد ، شهور الحمل التسعة والولادة ثم تجد الولد بين يديك وهو منك ، من لحمك وصلب أبيه ، ولكن مريم جاءتنى هكذا بلا تمهيد . أنكرت كما ينكر العاشق ، يوما يومين أسبوعا أو ربما أسبوعين ، ثم قبلت بحقيقة العشق ، وكان عشقا فى زمن الحرب حيث القتل على الهوية ” ( [8] ) كما أن المقطع يشير إلى تدرج الحب وصولا إلى العشق فإنه يشير إلى حالتين يفصل بينهما حرف الاستدراك ( لكن ) حالة تنطبق على الجميع فإذا كان هذا هو شأن كل الأبناء فإن مريم تعد استثناء للقاعدة الإنسانية بعد أن منحها الاستدراك هذا التفرد لتؤكد حقيقتها المرتبطة بحقيقة العشق منتجة حقيقتها الإنسانية الخاصة بها .

مريم علامة لها وظيفتها التى تتحدد فى ذاتها كاشفة عن محدداتها الإيجابية ، ولها وظيفتها التى تتحدد فى علاقتها بالآخرين ” ذلك أن الشخصية تتحدد إيجابيا من خلال خصائصها الذاتية وتتحدد سلبيا من خلال تقابلها ( فى علاقتها ) مع الشخصيات الأخرى ” ( [9] )

الوحدات السيميائية فى سياقها السردى  تنتج علاقات تشى بشفرات أساسية فى إنتاج الدلالة  وفق هذه العلاقات يمكن الكشف عن الشفرات الثانوية أيضا ، ويكون الجمع بين النوعين ( الأساسية والثانوية ) معبرا إلى الكشف عن المستوى العميق للنص فى كليته ، والسمة الأساسية لهذه الوحدات السردية أنها مجموعة من السيميائيات المترابطة بعضها ببعض للدرجة التى لا يمكن معها الفصل بينها أو التقليل من شان واحدة منها لحساب الأخرى :” فى سرد ما سيمياء تشير صراحة إلى واحدة من الشفرات أو الشفرات الثانوية sub codes التى يتم وفقا لها إنتاج الدلالة فى السرد ، سيمياء متعلقة بسيمياء أخرى تعتبر عنصرا فى الشفرة التى تشكل الإطار السردى الذى يظهران فيه معا ” ( [10] ) ، ويكون على المتلقى الربط بين هذه الوحدات لا بصورة مرتبة حسب توالى ظهورها فى النص وإنما يمكن الاعتماد على طريقة أوراق اللعب فى الجمع بين كل الخيوط التى تتضام لقدر من الارتباط فيما بينها لتشكيل دلالة بقدر ما ، وهو ما يمنح كل قرارة قدرا من الجدة ومزيدا من الثراء المحسوب لصالح النص أولا ولقدرات الكاتب ثانيا على تشكيل هذه الوحدات بالصورة التى يسمح لها أن تؤدى عملها بقوة لإنتاج الدلالة النصية .

وقد نجحت الكاتبة فى الربط بين الوحدات السيميائية خالقة نصا ينتمى إلى الرواية الانسيابية ( [11] )، ذلك النوع الذى تتحدد سماته وفق طبيعته الخاصة ، ومن أهمها :

  • الطول : تقع الرواية فى 463 صفحة وتضم 58 فاصلة سردية تشكل كل منها وحدة سردية قائمة بذاتها (يمكن قراءتها متصلة منفصلة ) ويمكن لكل وحدة  أن تدخل فى علاقات مع غيرها من الوحدات دون أن تكون مرتبطة بها عضويا أو مجاورة لها نصيا ، وهو ما يجعل القراءة قائمة على عدد غير متناه من التأويلات اعتمادا على عدد غير متناه من العلاقات القائمة بين الوحدات المتعددة.
  • تدفق السرد وانسيابه عبر توزيع الحبكة على كامل النص وهو ما يتفق مع فكرة الوحدات السردية فليس ثمة وحدة لها الفضل الأكبر فى تشكيل النص ، وإنما تتضام الوحدات لتشكل نوعا من الوحدة السردية الكبرى ، وإن بدا أن الحرب هنا هى الحدث الأكثر تأثيرا فإن قدرة الشخصيات على تجاوز هذا الحدث وعدم الخضوع له أنتج وحدات سردية مضادة فالحرب التى أجبرتهم على الخروج لم تجبرهم على الاستسلام وإنما كان لديهم القدرة على خلق حيواتهم بعيدا عن الأرض حاملينها أيقونة معلقة هناك فى سويداء قلوبهم بالقدر الذى يجعلها قوة لها تأثيرها الأكثر فاعلية  من الحرب نفسها بالصورة التى يبدو معها أنهم أشعلوا حربا أكبر قادرة على التهام الحرب الأولى  .
  • تعدد الأجيال وتواليها ( يحمل الغلاف الأخير للرواية ما يشبه شجرة الأجيال المسرود عنها وبها ولكن بطريقة غير تقليدية فالشجرة لا تنطلق من شخصية واحدة وإنما تتأسس على شخصيتين : أبو الصادق ، وأبو الأمين فى ارتباطهما بالطنطورة قبل حدث الخروج الإجبارى وتوزع الأجيال التالية إلى صيدا وبيروت وأبو ظبى واللد وكندا ) ، وهى أجيال يحمل كل منها صبغة العلامة السردية الدالة بوصفها نموذجا قادرا على تقديم دلالته الخاصة.
  • تعدد الشخصيات، مع الربط بينها وفق نظريات علم الوراثة فليس النص وحده هو الجامع للشخصيات لمجرد أنه عمل على تأطيرها فى سياق خاص وإنما يربط بين الشخصيات علاقة قبلية سابقة على النص نفسه .
  • تعدد الأمكنة واتساع دائرة الفضاء الروائى ، وانفتاح الزمن وتعدد دوائره ، ظاهريا تتحرك الرواية فى قطاع زمنى يمتد مع مسيرة أجيال تتأسس على شخصيتين : أبو الصادق وأبو الأمين ، وكما ينفتح الزمن بانفتاح المكان من طنطورة بوصفها البؤرة ، تتعدد الدوائر الزمنية لتشكل وحدات سردية لها دلالتها ونعنى بها تلك الدوائر الزمنية المرتبطة .

البحر / الحرب

من البداية الأولى وعلى الرغم من أن المدن التى تتحرك فيها الرواية تكاد تكون مدنا ساحلية فإن وصف البحر فيها ، يختفى البحر لتحل الحرب ، البحر مذكر يختفى بالقتل الذى فرضه المحتل ، لتبقى الحرب تلك الأنثى التى يفرضها المحتل أيضا (ليس غريبا هذا التجانس بين اللفظين مع اختلاف المعنى فقط وإنما اختلاف الجنس أيضا ) الحرب لا تسير وفق منهج التضاد القائم على مقلوب البحر وإنما يأتى الحرف الاستهلالى (الحاء) منفلتا كقنبلة تنطلق فتحدث ثغرة فى مفردة البحر ، تماما كما يحدث كمن ثغرة فى الزمن حين الحرب ، ثغرة تفرض خللا فى ميزان الوقت :” فى الحرب لا يتصرف الناس كما خلقهم ربنا ، يجن الخلق ويفلت الميزان  ، ساعتها لا يكون الشعر وحده أو الثوب مشعثا بل يتشعث القلب ” ( [12] )

وإذا كان البحر قد وضع الوحدة السردية الأساسية فى الرواية ( اعتمادا على الاستهلال وطرح الانطلاقة السردية الأولى للساردة ) فإن الحرب تتولى إنضاج الشخصية ووضعها على محك الاختبار لتعدها لحياة لها طبيعتها المتفردة :” تعلمك الحرب أشياء كثيرة . أولها أن ترهف السمع وتنتبه لتقدر الجهة التى يأتى منها إطلاق النار ، كأنما صار جسمك أذنا كبيرة فيها بوصلة تحدد الجهة المعينة بين الجهات الأربع أو الخمس لأن السماء غدت جهة يأتيك منها أيضا الهلاك ، ثانيها أن تسلم قليلا وألا تخاف إلا بمقدار ، القدر الضرورى فقط ، ولو زاد خوفك مقدار ذرة غادرت بيتك بلا داع لأن القصف فى الناحية الأخرى من المدينة ……… ثالثا أن تنتبه حين تضطر لمغادرة البيت أن تأخذ الأهم فالمهم ……والمؤكد أن هناك رابعا وخامسا وسادسا تتعلمه من الحرب ، لكن دائما تتعلم وإن ورد هذا فى الأول أو فى الختام أن تتحمل تنتظر وتتحمل لأن البديل أن يختل توازنك باختصار تجن ” ( [13] )

بالطبع لا تعلمك الحرب فقط لتكون قادرا على التعايش معها بقدر ما تعلمك لتكون قادرا على التعايش مع الحياة نفسها ، سرديا كانت الحرب وحدة سردية محركة ولكنها ليست القوة المؤثرة سلبيا وهو ما يتجلى عبر السؤال الذى يبدو مضادا : ماذا يحدث لو لم تحدث الحرب ؟ هل كنا سنعاين هذه الأجيال وهى تجابه أقدارها ، وهل كنا سندرك مدى ماهى عليه من المعاناة ؟ ، وهل كان لهذا النص أن يكتب بالأساس ، الحرب هنا تجربة ، وحدة سردية ، نظام من السرد يمنح النص بعض قدراته لا كلها ليكون للنص القدرة على الاكتشاف ، اكتشاف الأشخاص وعالمهم ، والاكتشاف هنا هو الضوء الذى يضعه النص فى أيدينا لنرى عالمنا ممررا بالتجربة .  

من زاوية أخرى  يمكن طرح الحرب بوصفها مؤثرا لا على الأشخاص فى سياق النص وإنما فى تشكيل النص نفسه ، ذلك النص الذى وإن بدا متضمنا خيطا دراميا صاعدا فإنه يمكن النظر إليه عبر مجموعة من الوحدات السردية التى كان للحرب الأثر فى تشتيتها تماما كالأشخاص الذين فرقتهم الحرب ولكن ليس معنى التفرقة عدم الترابط فلقد تماسك الأشخاص ، وتماسك النص رغم تشظيه بفعل الحرب .    

وعلى الرغم من أن البحر لا تتسع مساحته بالقدر الذى يدخله فى منافسة مع وحدات سردية أخرى فإنه لا ينافس دلاليا ويمكن رصد خمسة مشاهد  تتضام لتشكل صورة البحر مؤسسة لدلالته :

  • مشهد الخروج من البحر فى الاستهلال ، وهو المشهد المؤسس لأسطورة البحر ، وهى أسطرة لا تنفصل عن أسطورة الشخصية الخارجة من البحر .
  • مشهد تحفيز حسن لرقية على كتابة البحر (ص206 ).
  • غياب البحر فى مشهد عرس حسن (مدينة بيريوس اليونانية )، يذكر الشاطئ عرضا وعلى الرغم من أن منطق السرد يعنى أن رقية ترى البحر ولكنها لا تطرحه بوصفه رؤية مباشرة (ص 312 ) فما يفرض نفسه على الذاكرة هو بحر طنطورة .
  • حضور الطنطورة فى علاقة تناص مع أغنية مصرية عن بحر الإسكندرية

                     ” ياطنطورية بحرك عجايب” ( [14] ) .

  • بحر بيروت الأليف (ص 389).
  • المشهد الأخير منتج الدائرية فى الرواية فمشهد الاستهلال الذى يفتح آفاق الرؤية ينغلق فى مشهد أخير فى الإسكندرية ورقية تنزل البحر :” أسلم نفسى لرائحة البحر ووشيش أمواجه ولما ينثره على وجهى وجسمى من ملح ورزاز ، يتسلل لا أدرى كيف إلى طرف اللسان …………..” ( [15] )

البحر /القطار

“البحر مقيم فى البلد، أما القطار فله أوقاته يظهر ثم يختفى كعامرة الليل”  ( [16] )

البحر ثابت نحمله فى داخلنا فنظل داخل حدود الروح المتسعة ، والقطار متحرك يحملنا إلى خارج حدود الأرض التى تسكننا

البحر لا شبيه له ولذا لا تقيم الكاتبة علاقة تشبيه تجعله فيها مشبها ولكن القطار الذى كعامورة الليل يأتى مشبها يفرض طاقته الصوتية ” نضطرب من هدير محركاته حين يقترب ، اهتزاز الأرض عند مروره ، احتكاك العجل بالسكة الحديد ، صفاراته المتقطعة ، صرير المكابح لأنه يتوقف . يمر بالبلد يوميا وله محطة شرقية فى زمارين . أحيانا يحمل أهالى مثلنا ، وغالبا ما يركبه عسكر الإنجليز أو مستوطنون لهم غرض يقضونه فى حيفا أو يافا ” ( [17] ) تأتى هذه الصورة علامة دالة فى مقابل الصورة السابقة لها حيث البحر المستكين الذى : ” يكون مثلنا مأخوذا بالفرجة فينسى نفسه ويستكين ، أو تدريجيا يغلبه النعاس بعد طول سهر ………….. البحر مقيم فى البلد ، أما القطار فله أوقاته ” ( [18]) يدخل القطار هنا فجأة لقصدية دلالية تتأسس على الأرض التى تضم مجموعة من الثنائيات المتضادة  : المقيم والمتحرك ، الصامت والضاج ، اللين واليابس ، الممتد مع الأرض والمؤقت بزمنه الخاص ، المؤثر برومانسية فى البشر والمؤدى إلى الاضطراب فيهم ، فى حين يعمل الاثنان ( البحر والقطار ) على القيام بوظيفة دلالية لها أهميتها فى سياق فاعلية العلامة السردية إذ يكون البحر بمثابة الحبل السرى الرابط بالعالم البعيد ، العالم المادى وعالم الأحلام ، فالبحر يحمل إلى عالم الأحلام ، ويكون القطار بمثابة الحبل السرى الرابط بالعالم القريب وحيث العلاقة بهذا العالم القريب تنظم على أساس وجوده ، ويأتى تنظيم المستقبل نفسه قائما على هذا الأساس :” وإن توظف فى حيفا تركبين القطار فتصلين لابنتك فى أقل من نصف ساعة ” ( [19] )

مفتاح البيت

للوهلة الأولى تبدو الأشياء مرتبطة بالإنسان ولكنها فى الحقيقة مرتبط بها يحلم بها ويمنحها من حلمه .

سرديا يمثل المفتاح عنصرا شيئيا يرتبط بوعى المتلقى بوصفه (المفتاح ) وسيلة لها طابعها الاجتماعى / الامتلاك ، أن تحمل مفتاحا فأنت تحمل علامة على امتلاكك أشياء مستقرة هناك تتحرك بعيدا عنها ولكنها فى انتظارك حتى تعود وهو ما يحمل الدلالة الأولى للمفتاح الذى أغلقت به الأم ( أم رقية ) بوابة البيت الكبيرة قبيل الخروج بفعل الاحتلال لطنطورة :” غادرنا البيت . طبقت أمى البوابة . أغلقتها بالمفتاح الكبير . استغربت فلم أر باب بيتنا مغلقا أبدا ، ولا رأيت المفتاح : كان حديديا كبيرا أدارته أمى فى القفل سبع مرات ، ووضعته فى صدرها ” ( [20] ) .

فى المرة الأولى ينحو المفتاح نحو طرح دلالتين أولاهما منتهية تدل على ما يطرحه من تأويل خاص بمساحة حضوره مرة واحدة وهو ما يطرح هنا دلالة الأمل فى العودة إلى البيت مع الاعتقاد بأن الخروج لا يعنى الانقطاع وفقدان الأمل فالارتباط بالبيت أقوى من الأسباب الاضطرارية للخروج ، والأم حين تفعل ذلك تبث فى الساردة طاقات من النظر للغد بوصفه أملا فى العودة راسمة مستقبلا يعتمد على الأمل أولا والحق فى العودة ثانيا كما أنها تمنح الابنة وعيا بالمفتاح بوصفه الأداة اللازمة أو أحد مقتضيات العودة إلى البيت ، وثانيتهما دلالة تعتمد على حضور المفتاح عبر مساحات متكررة تجعل من الدلالة الواحدة مجموعة من الدلالات المتشابكة ، المؤسسة على الطرح الأول ولكن الطرح المتكرر لا يعنى فقط الإلحاح على التأويل الأول وما ينتجه من معان بقدر ما يجدد الطرح مجددا مع كل تكرار هو إضافة تطرح مجالا جديدا لعنصر واحد “المفتاح ” ما بين طرحه ملازمة الشخصية علاماتها المكانية ، ودلالته على اختزال الزمن فى علامة شيئية ، ويمكن للمتتبع لرحلة المفتاح القريب من قلب الأم أن يستكشف مجموعة الدوال المنتجة وفق مجموعة العلامات التى تتكشف عبر عنصر واحد لا يحافظ على الواحدية بقدر ما يؤسس للتعدد .

الانتظار دال مؤجل

” ليس هكذا الانتظار ، فهو ملازم للحياة لا بديل لها ، تنتظر على محطة القطار ، وتركب فى الوقت نفسه قطارات تحملك شرقا وغربا وإلى الشمال وإلى الجنوب ، تخلف أطفالا وتكبرهم ، تتعلم وتنتقل إلى الوظيفة ، تعشق أو تدفن موتاك ، تعيد بناء بيت تهدم على رأسك أو تعمر بيتا جديدا ، تأخذك ألف تفصيلة وأنت وهذا هو العجيب واقف على المحطة تنتظر . ماذا تنتظر” ([21] ) .

يمارس الانتظار دوره النصى بالطريقة التى تجعل الجميع يمارسونه داخل السرد وخارجه ،داخل السرد ينتظر الجميع كثيرا من الأحداث ولكن رقية تنتظر شيئا واحدا : العودة إلى الطنطورة وهو لا يعنى أن الآخرين لا يعيشون الحالة نفسها من الانتظار فقط تبقى رقية النموذج الحى المبثوث فى حياة الجميع ، رقية التاريخ فلم تكن هى الأولى فى سلسلة العائلة بل هى المتمكنة فى حلقة وسطى ( مسبوقة بجيل ومتبوعة بجيلين )  مما يجعلها واسطة العقد المؤسس على تاريخ سابق له حيويته .

وتتسع مساحات الانتظار لتشمل الجميع حسب طرح الراوية :”عاش عمى ينتظر ، وأمى كذلك ، وإن كان انتظارها مغايرا ، توارى شاغل العودة للبلاد خلف انتظار عودة ولديها وزوجها ………………………………………… لم طل الانتظار بأمى ، انتظرت حتى تزوجت من أمين غنت وزغردت وسحجت يوم كتب الكتاب ويوم الدخلة ” ( [22] )

خارج النص يقف المتلقى فى حالة انتظار دائم ، ومؤجل للوصول إلى الدلالة الكلية أو لنقل وصولا إلى اللوحة فى اكتمالها ، وقدرة الاكتمال على الإشعار بنقص العالم الذى تسعى الأسئلة (لا الإجابات ) على اكتماله ، تتحول الرواية كلها إلى لوحة ديناميكية .

رواية المعرفة

فى كثير من الأحيان تنحو الرواية إلى أن يكون لها دورها المعرفى، ذلك الدور الذى يتحدد  عبر مستويين أساسيين: أولهما مستوى الإخبار بما لا يعرفه القارئ أو يتوهم السارد أن القارئ لا يعرفه، أو يراهن السارد على أن هذا الجانب ليس متاحا بالقدر الكافى للمتلقى ، وثانيهما : مستوى تنظيم مايعرف وطرحه فى سياق جمالى يجعله أكثر قدرة على الاشتباك مع ذاكرة المتلقى ، خالقا ما يمكن تسميته بالسياقات المعرفية والرواية لا تتوقف عن تعهدها الأنساق المعرفية ، تبتكرها ، تستمدها من سياقاتها الخارجية ، تعيد توظيفها بما يمنحها حياة أخرى ، متعددة الوجوه ، للدرجة التى تجعل من الرواية ذاتها نوعا  من البحث فى الأنساق ذات الطبيعة المعرفية ويصبح تأثرها بأطروحات النظريات الفلسفية المختلفة شكلا من أشكال كيفيات التعامل مع الأنساق .

وفق المستوى الأول يأتى إخبار الطنطورية / الساردة / رقية عن أحداث معروفة توظف الشخصيات للإفصاح عنها وهو ما يحرك حسن ومن قبله العم أبو الأمين وغيرهما لطرح عدد من السياقات المعرفية ، والتى ينفرد حسن بها بعد ذلك أو على مدار السياق الروائى بأكمله حيث يتحول حسن إلى مايسترو يقود فريق من الشخصيات ومنها الساردة نفسها التى تسلمه قيادها لكتابة حكايتها :” حسن هو الذى اقترح على كتابة حكايتى . قلت : لست بكاتبة ! قال : احك الحكاية ، اكتبى ما رأيته وعشته وسمعته ، وما تفكرين فيه ، وإن صعبت الحكاية احك شفاهة وسجلى الكلام ، بعدها ننقله على الورق . هذا مهم يا أمى ، أهم مما تتخيلين …………………………………………………………………………………يا أمى ما أطلبه ليس إنشاء بل شهادة ……………………………………….

قلت ليتنى أعرف كيف ثم إن الحكاية صعبة ، لا تحكى ، متشعبة ثقيلة ، كم حرب تتحمل حكاية واحدة ؟ كم مجزرة ؟ ثم كيف أربط الأشياء الصغيرة على أهميتها بأهوال عشناها جميعا . احك أنت إن أردت ، لديك تفاصيل كثيرة منها ، وما ينقصك أزودك به ، أعنى إن كان لدى ما أضيفه . أنت تجمع شهادات الناس ، وتقرأ مالا حصر له من الكتب وتبحث وتسجل وتؤلف . أكتبها أنت ولو لدى ما أضيفه سأفعل ، قال : لو لم أكن واثقا من قدرتك لما أثقلت عليك بالطلب ” ( [23]).

سيميائيا يمثل حسن علامة متعددة مستويات التأويل فهو يمثل الجيل الثانى الممتلك للمعرفة ، الباحث عن الحقيقة ، فإذا كان الجيل السابق ، جيل رقية هو جيل المأساة الذى لم يسجلها ولم يكن على وعى إلا بالاكتواء بنارها ، وهو يمثل نقطة الهدوء المركزى وسط العاصفة أو وسط الأهوال على حد تعبير رقية ، ثم يأتى ممثلا قوة الوثيقة واكتناز التفاصيل والإشارة اليقينية لما هو متاح من معرفة للجيل القادم ، حسن يفض مغاليق الأسئلة  منجزا ما تتساءل عنه رقية ” كيف أقوم أربط الأشياء الصغيرة على أهميتها بأهوال عشناها جميعا” إذ يقيم وثيقة كبرى من التفاصيل والأوراق الرابطة بين الأشياء الصغيرة .

وفى السياق نفسه تتحول رقية إلى علامة للمرجعية تتراوح بين الشفاهى والمكتوب ، مصدر معرفى لا لحسن فقط من حيث هو باحث عن الحقيقة وإنما لتكون بمثابة المرجعية المشاركة لحسن فى تقديم الوثيقة للعالم ، وهو يدرك إمكانيات هذه المرجعية .

وفى النهاية ( وهو ما كان بالإمكان البدء به ) يبقى اسم حسن ( بوصفه علامة لغوية ) ممتلكا من الدلالة ما يجمع بين معان الفعل الحسن إذ يمثل حسن نموذجا متفردا فى سياق النص ففى الوقت الذى ينشغل فيه الجميع تقريبا بالحياة وأمورها وتتسع بهم دوائر المكان خارج حدود الطنطورة وخارج حدود الوطن العربى ينشغل حسن بهذا الدور الأسمى لخدمة المستقبل معتمدا طريقة عصرية تقوم على قواعد البيانات وبث الكثير من العلامات ذات الدلالة وإن وردت فى شهادات البعض بشكل عابر ، ورد فى شهادة عبد :” حين وضعنا رؤوسنا على مخداتنا ليلة الخميس على الجمعة كنا نعرف أن المخيم محاصر، وأن إسرائيل أضاءت سماء المنطقة بالقنابل الضوئية لتسهل للقوات اللبنانية الدخول ، وأنها تنفذ لإسرائيل مهمة إيذاء السكان ، قتل بعضهم وأسر البعض الآخر ، لكن أيا منا لم يتخيل إطلاقا أننا إزاء مجزرة بهذا الحجم ولا أن الكتائب ورجال سعد حداد تدخل البيوت وتقتل الناس بالبلطات والسكاكين وتغتصب البنات وتدمر البيوت بالجرافات على سكانها . لم نعرف شيئا بهذا الحجم من قبل ولا سمعنا بمثيل له فلم نتخيل لم يكن بمقدورنا أن نتخيل”([24]).

وسيميائيا أيضا تمثل رقية علامة تتماهى مع شهرزاد مع اختلاف تفرضه طبيعة اللحظة الزمنية ، فشهرزاد الأولى تحكى لمتلق واحد موجود مؤطر بلحظة الحكى (شهريار) وشهرزاد الجديدة تحكى لمتلقين متعددين افتراضيين بالأساس غير مؤطرين بلحظة زمنية وهو ما يعنى أنها فى حالة حكى دائم مع دوام الزمن ، الأولى كانت تستهدف وعى شهريار والثانية تستهدف وعى أصحاب القضية ووعى الإنسانية جميعها مرورها بالوعى العربى إذ تحكى له فى سياق جمالى ما غاب عنه ، خالقة عبر هذا السياق عددا من السياقات التى تطرحها رقية بوصفها تأطيرا للجانب المعرفى فى الرواية ، ذلك الجانب الذى تتعدد أطرافه المتجلية عبر عدد من المظاهر من أهمها :

  • الثقافة المحلية الخاصة ، ممثلة فى العادات والتقاليد ووسائل التعبير المعتمدة من الجامعة البشرية المنتمية إلى مكان واحد وهو ما يتبلور فى الأغانى عبر تعبيرها عن الأفراح ، تلك الأفراح التى تمثل العنصر القائم بالتوازن الطبيعى فى مقابل الأحداث ذات الطابع الدموى فى الرواية ، كما أنها تمثل نوعا من الهدوء والحياة  فى مقابل العنف والموت ، مساحات الغناء تتحول إلى علامة تتسم بعدد من السمات من أهمها :
  • الانتشار على مدار النص حسب سيمترية لها قانونها مع تضفير الأغانى بالسرد ، الأغانى تتردد على مدار تسعة عشرة صفحة تأتى فى مجموعات ( 10-14) (109-110-111) ( 121-122)  ( 313- 314- 315- 316- 317 – 318) ( 377- 378-379) (394) (454- 455-456) ، ورصد الصفحات يشى عن تقارب الأغانى على مدار صفحات تؤكد فكرة كون الأغنية بمثابة الواحة للهدوء النسبى ، خاصة وأن الأغانى تتقاطع مع أحداث لها طابعها المأساوى فى كثير من الأحيان وهنا يمكن الإشارة إلى دلالتين ، أولاهما تتعلق بالمساحة الفاصلة بين المجموعة الثالثة القصيرة ( 121-122) والتى تتضام مع الأغانى مجازا لأنها تتضمن مقطعين من قصيدتين وطنيتين الأولى للشاعر الشهيد عبد الرحيم محمود ( [25]) ، والثانية للشاعر إبراهيم طوقان ([26]) والمجموعة الرابعة الأطول والأكثر اتساعا ( 313- 314- 315- 316- 317 – 318) ولهذا مبرره الفنى والدلالى الذى يتمثل فى أن المجموعة الرابعة تنفرد بكونها عزف  خارج الحدود وهى مجموعة مرتبطة بمناسبة زواج حسن فى اليونان وهو حدث متفرد يشى بتميز حسن نفسه كما أن الأغنية والطقس المحيط بها يكشف عن مريم التى تفاجئ رقية ويعد نموذج دبكة لبنان النموذج الأوفى للتقاطع بين الأغنية والسرد حتى يصبح الاثنان بمثابة معزوفة يتبادلان فيها العزف على آلة واحدة :” ياللا يامريم دبكة لبنان ، قالها عبد من موقعه فى صف الدبيكة ثم قفز مكاننا وجذب مريم جذبا وأعلن بصوت عال كأنه يقدم مغنية محترفة ، أنها ستغنى ” دبكة لبنان ” لفيروز . قلت عبد أهوج ورط أخته سيغلبها الخوف فينحبس صوتها أو تنشز فى الغناء ، لم تنشز ، رعشة فى مطلع الصوت ، ثم انطلق واستقام ” ([27]) وتنفلت لتعبر عن نفسها كاشفة عن شخصية متميزة تكون مدار اكتشاف القارئ نفسه لمساحات تميز مريم ، والساردة وهى تضفر بين الأغنية والسرد عن مريم تنتج ضفيرة رائعة بحق ، تتصاعد فيها درجة حرارة المشهد متناغمة مع اكتشاف رقية لمريم بفعل الغناء ومتناغمة مع تدرج العمق الدلالى لأسئلة رقية :  ” تتثبت عينا مريم عليهم وهى تغنى ، هل بددت الدبكة خوفها فنسيت أنها تخاف ، أم أن كلمات الأغنية ولحنها حملتها حملا فطارت بها مثلما طارت بالراقصين الدبكة ؟ ” ( [28] ) ، عندها تتحول الأغنية إلى وسيلة كاشفة أو موسيقى تصويرية للاكتشاف :”

نزلوا الصبايا يضحكوا بخصورهن العيوفة

ماتقول خيالة اتكوا ع رماحهن الممشوقة

…………………………………

يا إلهى لم تعد طفلة . امرأة صغيرة مطلقة الصوت “( [29] ).

حضور مريم هنا  يجعل منها وحدة سردية لها  رمزيتها المنفلتة عبر جيل  خرج من رحم المأساة صامدا واختط لنفسه حياة مضيئة قادرة على مجابهة المأساة :” دمرت القذيفة البيت ، ذهب الكل ، الأم والأب وربما الإخوة والجيران ، وحدها هذه الطفلة كان مكتوبا لها الحياة ………………………. صارت لى ابنة . أجمل وأغلى ما خلفه أمين ، أقول وجهها كالملاك . أراجع نفسى : لم ير أحد منا ملاكا ، هاهى أمام عينى أجمل من خيالنا عن الملاك ” ([30]) وتظل شخصية مريم محتفظة بتفردها طوال الرواية لتكون شاهدا على هذه الوحدة السردية فى تميزها ولتمنح العالم المسرود براءته ولتظل هى الشخصية الأمل فى مستقبل منفلت من مواضعات اللحظة التاريخية المطروحة فى سياق النص ، ذلك السياق الذى كان    طقس الفرح ، والمكان المغاير ، والمساحة الزمنية المتباعدة بين مجموعة الأغانى الأسبق (ص 122) والمجموعة التالية (314) لعب كل هذا دوره فى تفجر الطاقة فى أجساد الجميع للدرجة التى تجد رقية فيها نفسها تنطلق فى الرقص :” ما الذى فعله فى صوت مريم ؟ لم ارقص فى حياتى ، أقصد لم أرقص منذ أخرجونا من البلد . كنت أرقص هناك ثم نسيت ، أعلنت : سأرقص مع فاطمة ، رقصت …………………… لماذا رقصت ؟ كيف رقصت ؟ هل كنت أرقص أم أفعل شيئا آخر لا أدرى ………………لم اكن أدرى أننى قادرة على الرقص أو إننى أعرف كيف . تطلعت إلى وصال وقالت : غريب – ما الغريب ؟ – الرقصة قلت فيها ما يستعصى على الكلام ” ( [31] ).

تختفى الطنطورة أو تغيب أحيانا ولكنها حاضرة صوتيا فى الفصل الأخير عبر أصوات الغناء حيث الفصل الأخير يحمل أكبر قدر من الأغانى متفوقا على كل الفصول .

وتبقى الطنطورة نقطة البدء والحلم بنقطة الملتقى وليس النهاية

“عدت إلى الطنطورية. هنا تبتدئ الحكايات وهنا أيضا تنتهى ” ( [32] ).

وتبقى الطنطورية حقيقة تماما كحقيقة النص ، فللنص حقيقته الخاصة وكل نص لا حقيقة له لا يعول عليه ، تلك الحقيقة التى قد لا تتفق وحقيقة العالم خارجه ، إنها تأسيس لحقائق تنطلق من داخله لتغير مساحات الظلام المخيم على مساحات من وعى المتلقى ، الطنطورية بوصفها نصا تطرح حقائقها المتصلة بالقضية والعروبة ، بالتاريخ فى مستواه الأعمق ، بالأرض والبشر حين يراقبون الطنطورة عبر قلوبهم لأنهم بعيدون عنها بالقدر الذى لا يسمح لملامستها سوى فى ارتباطها بشغاف القلب.

لقد وضعتنا الطنطورية هناك على المحك لنكون قادرين على اكتشاف العالم وراء الأسوار بعد أن نجحت فى رسم الطنطورة داخلنا لوحة تحمل كل العلامات الممكنة لأن تبقى ، وأن تكون قضيتنا التى لا جدال فيها.

بعد النهاية وقبل البداية

فى نهاية هذه السطور قد تجد نفسك مدفوعا لقراءة نص الطنطوري ، سيكون من الأمانة أن أمنحك جانبا من تجربتى الشخصية “ستقع فى غرام واحدة من اثنتين إن لم يكن فى كلتيهما: رقية بما تملكه من روح شهرزاد، وما تكتنز من حكايات لها قوة الحضور، فإذا قيض لك ان تفلت من الوقوع فى غرام رقية، فإنك لا محالة واقع فى غرام مريم بما تملك من روح ملائكية وما تكتنز من دلالة على نموذج مختلف.

…………………………..

هوامش وإشارات

* – موجز لدراسة موسعة عن الرواية تحمل العنوان نفسه .

[1] – رضوى عاشور : الطنطورية – دار الشروق – القاهرة 2010، ص 342.

[2] – الطنطورية ص 7.

[3] – الطنطورية  ص 191.

[4] – الطنطورية ص 312.

[5] – الطنطورية 386.

[6] – الطنطورية ، ص 438.

[7] – الطنطورية ، ص 181.

[8] – الطنطورية ، ص 181 ، والتشديد فى ” ولكن مريم ” من عندنا .

[9] – سعيد بنكراد : سيميولوجية الشخصيات السردية ، رواية الشراع والعاصفة لحنا مينة نموذجا- دار مجدلاوى – عمان – ص 116.

[10] – جيرالد برنس : المصطلح السردى – ترجمة : عابد خزندار – المجلس الأعلى للثقافة – القاهرة 2003، ص 130.

[11] – تفرض علينا الرواية  استخدام مصطلح “الرواية الانسيابية ” دون غيره من المصطلحات التى تنطبق على هذا النوع من الروايات نعنى ” رواية الأجيال ” أو ” رواية النهر ”  مفضلين الانسيابية لسببين نابعين من النص نفسه :

– كون الحبكة فى النص موزعة على كامل النص دون منطقة معينة مما يعنى انسيابية الحدث وتدفقه دون عقدة تقليدية تحيل النص إلى شكل تقليدى .

–  الطول وتعدد الأصوات واتساع المكان وتعدده.

بخصوص المصطلح ، يراجع : د. أحمد سيد محمد : الرواية الانسيابية وتأثيرها عند الروائيين العرب– دار المعارف – القاهرة 1986.

[12] – الطنطورية ، ص 216.

[13] – الطنطورية ص 183-184.

[14] – الطنطورية ، ص 378.

[15] – الطنطورة ص 398 .

[16] – الطنطورية ص 11.

[17] – السابق نفسه .

[18] – السابق نفسه .

[19] – الطنطورية ص 13.

[20] – الطنطورية ، ص 59.

[21] – الطنطورية ، ص 114.

[22] – الطنطورية ، ص 90- 91.

[23] – الطنطورية ، ص 204-205.

[24] – الطنطورية ص 244.

[25] -الشاعر الشهيد عبد الرحيم محمود (1913- 1948) شاعر فلسطينى ، من مواليد قرية عنبتا (قضاء طولكرم) . عمل مدرساً للأدب العربي في مدرسة النجاح الوطنية. عندما اشتعلت الثورة الكبرى في فلسطين سنة 1936، استقال من وظيفته وانضم إلى صفوف المقاتلين في جبل النار. طاردته حكومة الانتداب البريطاني بعد توقف الثورة، فهاجر إلى العراق حيث أمضى ثلاث سنوات دخل فيها الكلية الحربية في بغداد ثم عاد إلى فلسطين سنة 1942م.اشتعلت الثورة الفلسطينية مرة أخرى سنة 1947 ضد التقسيم. انضم عبد الرحيم محمود إلى صفوف المجاهدين للدفاع عن أرض الوطن. استشهد في معركة الشجرة بالقرب من مدينة الناصرة في 13 تموز 13 يوليو سنة 1948م.

الأبيات :

سأحمل روحى على راحتى     وألقى بها فى مهاوى الردى

فإما حياة تســـــــر الصديق         وإما ممات يغيظ العــــدا

وهى مطلع قصيدته  الشهيرة ” الشهيد ” .

  • انظر: الأعمال الكاملة للشاعر الشهيد عبد الرحيم محمود ( القصائد – المقالات ) – تحقيق وتقديم :د. عز الدين المناصرة – دار الجليل – دمشق 1988 ص 31.

[26] – إبراهيم عبد الفتاح طوقان (1905-1941) شاعر فلسطيني (ولد في نابلس بفلسطين  وهو الأخ الشقيق للشاعرة فدوى طوقان ورئيس الوزراء الأردني أحمد طوقان.

[27] – الطنطورية ص 315-316.

[28] – الطنطورية ، ص 316.

[29] – السابق نفسه.

[30] – الطنطورية ص 180.

[31] – الطنطورية ، ص 318-320.

[32] – الطنطورية ص 87.

مقالات من نفس القسم

موقع الكتابة الثقافي uncategorized
ترقينات نقدية
د. مصطفى الضبع

تناغم (23)

موقع الكتابة الثقافي uncategorized
ترقينات نقدية
د. مصطفى الضبع

تناغم (22)