عز الدين بوركة
رحل يوم الثلاثاء 21 أغسطس (آب) 2018، الروائي السوري حنا مينة، الملقب بـ«شيخ الرواية السورية»، عن عمر ناهز 94 سنة، تاركاً حزناً كبيراً في الأوساط الثقافية العربية. سطع نجم هذا الروائي «العصامي» عندما نشر أول نصوصه السردية التي حملت عنوان «طفلة للبيع»، والتي نشرها في مجلة «الطريق» اللبنانية سنة 1945، وهو لم يتجاوز السادسة عشرة بعد.
«ذات يومٍ تحطم صندوقٌ خشبيٌ في مستودعِ الاستيراد والتصدير الذي كُنت أعملِ به في صِباي وتناثر محتواه على الأرض. المحتوى لم يكُنْ إلا كراريسَ وكتب، وكما ينظر الجائع إلى رغيفِ الخبزِ الساخن والعاري إلى قطعةِ الثِياب نظرت إلى تلك الكتب، حملتُها برفقٍ حتى كِدْتُ أقبلها لفرطِ اشتهائي لها وأعدتها إلى الصندوق، فما كان من صاحبِ المخزن إلا أنْ سألني إن كنت أرغب بمجموعة منها.. وكان لي هذا.
يومها كانت عشائي الساخن قصصاً شعبية كسيرة الزير سالم وتغريبة بني هلال وقد التهمها عقلي الجائع الذي لم يسعفني فقر الحال بأن أطعمه دراسياً فكانت أعلى شهادة حزت عليها: «السرتفيكا» وبالكاد كان لدي «صندل» أنتعله في الشتاء، فيما أمضي شهور الصيف حافياً.
توالت الوجبات بعد ذلك اليوم وظلَلت مديناً لمورد الكتب الأول في حياتي وذكرته عِندما سُئلت يوماً: « دكتور، ما اسم الجامعة التي تخرجت منها؟» لأجيبه متهكماً: «جامعة الفقر الأسود».
بهذه الكلمات لخص الروائي السوري حنا مينة في كتابه «كيف حملت القلم» مسيرة الكدح التي قادته إلى الكتابة والسرد، وعوالم القصة والرواية. فلم يكن للشهادة التي حازها هذا الروائي أي دور في جعله أديباً كبيراً، بل الشقاء والعناء اللذان كابدهما هما ما قاده إلى الكتابة والشهرة على رأس تيار السرد الواقعي، والذي كان أحد رواده في العالم العربي. وعن حياته يقول: «لقد كنتُ سعيداً جداً في حياتي، فمنذ أبصرتْ عيناي النور وأنا منذور للشقاء، وفي قلب الشقاء حاربت الشقاء وانتصرت عليه، وهذه نعمة الله ومكافأة السماء وإني لمن الشاكرين».
من النص إلى السينما
كانت البدايات الأولى للكاتب حنا مينة في عالم الأدب مع المقالات التي نشرها في صحف داخل سوريا ولبنان، قبل أن ينجح في نشر أولى نصوصه القصصية والسردية. وقد مهد عبر كتاباته السردية الأولى، والتي انطبعت بالعفوية والفطرية، لتيار الواقعية في السرد العربي، إذ أن شخوص رواياته وقصصه تكاد تكون غاصة في الواقعية والصدق، مشغولة بالكدح والبحث عن لقمة العيش، والنضال من أجل ذلك، إلى جانب الحب والمشاعر الرهيفة…
ترك هذا الحلاّق البسيط الأوساط الأدبية آنذاك تتساءل عمن هو حنا مينة هذا؟ ما سيوجه الأنظار والاهتمام إلى نصوصه وكتاباته القصصية والصحفية والروائية، بعدما كان مغموراً معدوماً. وقد تنقّل مينة بين عدة مهن في شبابه من تصليح الدراجات والحلاقة إلى بحار على القوارب والسفن، حيث امتهن ركوب البحر، قبل أن يعمل في كتابة المسلسلات الإذاعية باللغة العامية ثم موظفاً في إحدى الدوائر الحكومية.
من أشهر رواياته «الياطر» و«المصابيح الزرق» و«نهاية رجل شجاع» والتي تم تحويلها إلى مسلسل، و«الشمس في يوم غائم» و«بقايا صور» التي تم تحويلهما إلى فيلم «حارة الشحادين»، فقد ولج هذا الروائي عالم الفن السابع من أبوابه الواسعة، إذ أن بداياته السينمائية، كانت في فيلم «اليازرلي» (1974م)، عن قصة طويلة بعنوان «على الأكياس»، للمخرج العراقي قيس الزبيدي، ومدته (95 دقيقة). يكتب الناقد سعيد مراد: «إن اليارزلي ينطوي في بنائه الدرامي، على عناصر شعرية وملحمية تعتمد في بروزها على وسائل بصرية مونتاجية»، في مكان آخر يضيف: «إن على الأكياس التي هي قصة قصيرة من السيرة الذاتية، مكتوبة بأسلوب ذكريات حارة، بسيطة، تحولت في الفيلم إلى بناء معقد يحوي معاني الاضطهاد في مجتمعنا: التخلف، الجنس، القسوة، العنف، الاستغلال». ثم حقق المخرج نبيل المالح فيلم «بقايا صور» (1979م)، عن رواية حملت الاسم نفسه، ومدته (130 دقيقة).. وسيليها مجموعة من الأفلام المقتبسة من قصصه وروايته المنطبعة بطابع الواقعية، والتي لاقت استحسان المخرجين السينمائيين ورغبتهم في نقلها إلى عالم الشاشة الكبيرة، وخاصة لكونها تقترب من «الطابع الشعبي»، والذي يمس شريحة كبرى من الناس، لما يعتريها من رسم للكدح والفرح والهموم والعنف والتخلف والفقر والمعانات… هذه المعاني التي استهوت مخرجين عرب كثر. إذ قدم المخرج المصري الكبير الراحل محمد شاهين فيلم «الشمس في يوم غائم» (1985م)، عن رواية تحمل أيضاً الاسم نفسه، ومدته (110 دقائق). فيه سيكون السحر في الرقص، وسيكون الحب وصبوة الحياة عبارة هذا السحر، وإذا كانت تقنية هذه الرواية قد تميزت بناء ولغة وترميزاً وأسطرة وتوقيعاً.
طغت تيمة البحر على مجمل نصوص حنا مينة السردية التي تحول إلى نصوص بصرية متحركة على الشاشة الكبرى، والتي نقلها مخرجون عرب كثر إلى سحر السينما وفانوسها السحري. يقول عن ذلك الكاتب صقر أبو فخر: أبطاله [أي حنا مينة] مغامرون وصيادون وقبضايات الموانئ وبائعات اللذة، وجميعهم يعيشون عند تخوم المرافئ وفي المقاهي البائسة التي تنثر الأجساد والكؤوس فيها روائح العرق والعرق. وهؤلاء، في معظمهم، أبعدتهم المدن عن نطاقها، ورمت بهم أمام أقدارهم، وجعلتهم منذورين لافتضاض الأمواج واكتشاف معنى الموت ومغامرة الحياة في الوقت نفسه. إنهم أقرب إلى روح يوليسيس ومصائره العبثية».
وعن ذات الأمر كتب حنا مينة يقول: «إن البحر كان دائماً مصدر إلهامي، حتى إن معظم أعمالي مبللة بمياه موجه الصاخب، وأسأل: هل قصدت ذلك متعمداً؟ في الجواب أقول: في البدء لم أقصد شيئاً، لحمي سمك البحر، دمي ماؤه المالح، صراعي مع القروش كان صراع حياة، أما العواصف فقد نُقشت وشماً على جلدي، إذا نادوا: يا بحر أجبت أنا! البحر أنا، فيه وُلدت، وفيه أرغب أن أموت.. تعرفون معنى أن يكون المرء بحاراً؟».
الغريب في الوطن
حاول مينة طيلة عمره الأدبي أن يصور العبث والعدم وأن ينقل الواقع كما هو بسودويته وأفراحه وكدحه ومعاناة أبطاله، الذين يسبرون اليابسة والبحر، ويغوصون عميقاً في الذات ومزالقها وهشاشتها. كأنه ينقل سيرته الذاتية بشكل من الأشكال عبر حالات متغيرة لأبطال نصوصه السردية.
ولأنه منذور للشقاء، قاده هذا الأخير بعد تنقل بين مختلف الحرف ومآسيها، إلى خارج وطنه سوريا، إذ انتقل بين لبنان وفرنسا والصين وسويسرا، حاملاً معه آلامه وآلام الوطن، الأمر الذي سيتجسد في روايته الثانية «السفينة والشراع»، كأنا به وهو يضع هذا العنوان يمنّي النفس في أن تهب الرياح على شراع سفينته وتعيده إلى الوطن، حيث إن هذا النص الروائي صدر له وهو في الغربة. لكنه لم يكن كاتباً سائحاً يرفه عن مزاجِه الروائي، بل مُتشرداً وحيداً ومقهوراً، حتى انتهى به المطاف ليستقر في المجر حيث عمل في إذاعة بودابست العربية مُقدماً لبرامج أدبية.
بعد طول غياب عن وطنه الأم، والمعاناة من الغربة وعدم القدرة على الكتابة خارج بلده سوريا، عاد إلى وطنه ليعيد ربطه بالحبل السُري للكتابة الذي انقطع في الخارج. عاد حنا مينة حاملاً معه أحلاماً سعيدة، واستقبلته الصحف والمجلات الأدبية بحفاوة كبيرة ومانشيتات عريضة، إلا أن الواقع كان له رأي آخر. إذ سيكتب عن وضعه المالي والوظيفي بعد رجوعه إلى سوريا مباشرة سنة 1967: «لا عمل، لا عمل، لا عمل، أين أذهب، من أسأل، أي باب أطرق؟». فما كان بالمنذور للشقاء إلا أن عاود عمله الأول، افتتح محلاً للحلاقة. هذه الحالة ستجعله يصف نفسه على الدوام أنه «كاتب الكفاح والفرح الإنسانيين». وهو الأمر الذي انطبعت به كل كتاباته السردية طيلة مساره الأدبي الذي تجاوز فيه 40 رواية، تدور غالبيتها في البحر وعن البأس والمعاناة، وفي ذلك يقول: «الأدباء العرب، أكثرهم لم يكتبوا عن البحر لأنهم خافوا معاينة الموت في جبهة الموج الصاخب. لا أدعي الفروسية، المغامرة نعم! أجدادي بحارة، هذه مهنتهم، الابن يتعلم حرفة أهله، احترفت العمل في الميناء كحمّال، واحترفت البحر كبحار على المراكب. كان ذلك في الماضي الشقي والماجد من حياتي، هذه المسيرة الطويلة كانت مشياً، وبأقدام حافية، في حقول من مسامير، دمي سال في مواقع خطواتي، أنظر الآن إلى الماضي، نظرة تأمل حيادية، فأرتعش. كيف، كيف؟!».
الوصية الأخيرة
لم يكن حنا مينة إلا بحاراً امتهن خوض غمار السرد، والإبحار عميقاً في التصوير باللغة والحكي، وحلاقاً لمعان كثيرة يشذبها. أحب ما يفعله واحترفه حتى آخر لحظة في حياته. وعلى غرار كتّاب عالميين كثر كتب مينة وصيته منذ 10 سنوات (سنة 2008)، بخط يده، طالب فيها بعدم نشر خبر وفاته عند حصولها: «عندما ألفظ النفس الأخير، آمل، وأشدد على هذه الكلمة، ألا يذاع خبر موتي، في أية وسيلة إعلامية، فقد كنت بسيطاً في حياتي، وأرغب أن أكون بسيطاً في مماتي». ولأن رحيل رجل من طينة حنا مينة، لم يكن هينا، لم يستطع أحدهم احترام وصية هذا المبدع، إذ ما أن رمقت أعينه آخر لحظات الحياة، حتى سال مداد أود كثير حزناً عليه.
لم يتوان حنا مينة في وصيته أن يذكر أن أدبه كان مكرساً بالكامل لـ«نصرة الفقراء والبؤساء والمعذبين في الأرض»، وهذا كان همه الأول، فطبع رواياته بأسلوب متسم بالإيقاع وبالتشويق من جِهة، وتوفير المتعة والمعرفة للقارئ من جهةٍ ثانية.
وبعد أن تقدم الروائي السوري بالاعتذار، إلى جميع أقربائه وأصدقائه، طلب منهم في وصيته بأن لا يحمَل نعشه، إلا بوساطة «أربعة مأجورين» من دائرة دفن الموتى أو من الكنيسة التي سيتم تأبينه فيها، إلى إهالة التراب عليه، في «أي قبر متاح» ثم ينفضون التراب عن أيديهم، كما شدد في الوصية، ويعودون إلى بيوتهم: «فقد انتهى الحفل، وأغلقت الدائرة». لقد عاش متقشفا راضياً بمعاناته، إذ على الرغم من الأوسمة والجوائز التي حصدها، وحمله للقب صاحب الروايات الأكثر مبيعًا إلا أنه سكن منزلاً بسيطاً. ولم يرد إلا أن تكون جنازته تشبه حياته التي عاشها بتقشف و«فرح» وكدح.
رحل إذن حنا مينة بعد شقاء طال 94 سنة، وسمها بأربعين مؤلفاً سردياً، ومقالات كثيرة احتفلت بها جرائد عربية عدة، وبعد اغتراب وغربة خارج وداخل الوطن الأم، قادت به إلى احتراف السفر في البحر عبر لغة سردية، مبللة بمياه البحر، تقص معاناة وآلام وأفراح وكدح شخوص يبحثون عن لقمة العيش، يشبهوننا ويشبهونه فقد نذر حياته: «فداء لحياة الآخرين، هؤلاء الذين قد لا تعرف لبعضهم وجهاً، لكنك تؤمن في أعماقك، أن إنقاذهم من براثن الخوف والمرض والجوع والذل، جدير بأن يضحى في سبيله، ليس بالهناءة وحدها، بل بالمفاداة حتى الموت معها أيضاً».
مفيد الوحش
مفيد الوحش هو الاسم الذي أطلقه الروائي حنه مينة على بطل روايته «نهاية رجل شجاع» والتي تم تحويلها سنة 1993 لمسلسل سوري بإنتاج ضخم بطولة الممثل السوري أيمن زيدان الذي قام بتمثيل شخصية مفيد الوحش، وقام بتمثيل الشخصية في شبابها الممثل الشاب في حينه سعد مينة وهو نجل حنا مينة.
ومفيد الوحش، هو مراهق بليد متمرد على أبيه وعلى أفراد القرية التي كان يعيش فيها، لدرجة أنه في يوم من الأيام قطع ذنب جحش جاره المسكين فأطلقوا عليه لقب مفيد الوحش اللي قطع ذنب الجحش»، ما أدى في النهاية لمغادرته القرية وترك أمه هناك، والسفر في رحلة طويلة وعصامية مليئة بالأحداث الشيّقة والمغامرات الجميلة في الساحل السوري مع رفيق دربه عبدوش، والتي تداخلت مع الصراع ضد الاستعمار الفرنسي، حتى تعرف على زوجته الجميلة وتزوج بها.
وبعد ذلك أخذت أحداث الرواية منحنى آخر بعدما أصبح أغلب من حوله يكيدون له حتى كانت نهايته عندما بترت ساقاه نتيجة للغرغرينا التي انتشرت بهما، بعدما كان رمز للرجل القوي، ليلقى حتفه مع عدوه اللدود الزلقوط غرقا بالبحر، الذي صارعه وهو على كرسيه المتحرك، فسقط الاثنان من علو شاهق فوق صخور البحر.