محمد علاء الدين عبد المولى
يقول آصف عبد الله في مجموعته ” وقت من رمل”:
)أُضارعُ الخالقَ، أصنع بحيرةً من الكلامِ وغلاصم من الحبر) –ص30-
يقترنُ إذاً عملُ الشاعر بفعل الخلق. وماذا يخلقُ الشاعر؟ إنه يعمل ضمن الكون الذي ينسجمُ دورُه مع قدرة الشاعر الذي لن يخلق غيباً، ولا بشراً ولا طيراً. فهذه مفرداتٌ يتعامل معها الشاعر في مناخٍ من المجاز والخيال. إنه يخلق بحيرةً ولكن من (كلام(، ويقذف في هذه البحيرة غلاصم ولكنها ليست للسَّمك المادي، إنها غلاصم متشكلّة من (الحبر). هكذا يتّفق الكلام مع الحبر. وهكذا فعلُ الخلق لدى الشاعر. فماذا يقول لنا آصف عبد الله؟ إنه كلام شعريّ لا يقول العالم عن طريق الشرح والإيضاح، وهذا أفضلُ ما حققهُ ” آصف” في هذا الكتاب الجديد. فقد تخلّص من الوضوح المباشر الذي كانت تقترب منه كتابتُه كثيراً.
تحتشد الكتابةُ الشعرية في ” وقت من رمل” بعددٍ من التقنيّات الفنية التي تدلّ مباشرة على عمل الذّات المبدعة بصورة تليق بالطموح الذي يرنو إليه كل شاعر يريد لنفسه صوتاً خاصّ متميزاً. ومن هذه التقنيات التي تجعل الكلام شعراً:
1-الانتقال بالتّشكيلات اللّغوية من نمطٍ إلى آخر، في عمليةٍ تعمد إلى التنوع والتعدّد في بناء الجُمل وتراكيبها مثالاً على ذلك:(أجنحة العصافير فضّاحةٌ) هذه جملةٌ اسمية تتضمَّن حالة أجنحة العصافير. بعدها مباشرة يفتحُ الشاعر قوساً ليشتق من مفردة العصافير حالتين متتاليتين في جُملتين اسميّتين مبدوءتين بأسماء الإشارة: هذي طيور ترمينا بحجارتها.
(هذا ولدٌ يُعيد للنَّهر ضفَّتيه) وبعدها مباشرة يتغيّر النَّمط اللغويّ لتصبح الجُملة استفهاميةً وهي مواصلة للجملة الاسمية (أجنحة العصافير…) بينما الجملتان بين قوسين كانتا تفريعاً واشتقاق بُعْدٍ آخر تُوحي به مفردةُ العصافير. أمَّا الجُملة الاستفهامية فهي (فكيف أردم هذه الهوّة؟) ولنُعدْ كقرَّاء تشكيل الجملتين، الاسمية الأولى، وجملة الاستفهام لنرى الصّلة بينهما. يمكن القول: (إذا كانت أجنحةُ العصافير فضّاحةً، فكيف أردم هذه الهوّة؟).
هكذا إذاً تتغيّرُ أشكالُ الجُملِ من اسميةٍ ثم استفهامية وتأتي بعدهما جملة فعلية، كل هذه التشكيلات في صفحةٍ واحدة. وهكذا (يتكاثف الكلام/ يتولد الكلام/ هكذا ينمو شطط القول) –ص13-14
2-واضحٌ في قصائد المجموعة الذَّهابُ، عمداً وعفواً، باتجاه الأسئلة والإصرار على تكرارها وجعلها سمةً فنيةً تكاد لا تخلو منها صفحةٌ واحدة. إن من المؤكد أنَّ غزارة الأسئلة في العمل الشعري تخلق إيحاءً بمناخ فنيٍّ يريد الشاعر إشاعتهُ عن طريق عدم الرضوخ للحالات اليقينيّة المتحققة.
فالسؤال باب القلق والصِّدام، باب المعرفة العريض. وآصف الذي يتأمَّلُ عبر السؤال ما يبوح بما يراه، ولا يبوح بكل شيء. فهو يرى ويتساءل حول ما لا يُرى في اللحظة نفسها، ليصل إلى نقطةٍ ما، يتجاوزها إلى أخرى حتّى لا يستسلم لإغراء الواقعة، إنّ العالم هو عالمٌ لم يكتمل بعد، وليس هناك أمل إلاَّ في طرح المزيد من الأسئلة عليه. وبل وبنائه على صرح الأسئلة.
3-اللغة في هذا الكتاب لغةٌ تتجادل فيما بينها، تتحاور فيما بين وجوهها وصورها.
وما يجعل ذلك ممكناً؛ هو اعتمادُ الشاعر على العلاقات المتضادة ذات البُنى الثَّنائية المتقابلة، وهذا شكلٌ شائعٌ من التعبير، ولكن يبقى لكل شاعر شغلُهُ الذاتي في قلب ما هو شائع. يقول مثلاً:
(أفتحُ باباً في البُعدِ
على وضوحكِ
فينأى الغموضُ
وأنأى عن مسرحكِ
لكنّه يقترب) –ص49-
إن التقابل التضادي –إن صحَّ الوصف- يولّد شرارةً شعرية لا تخفى على قارئ ذي ذوقٍ خاص في استيعاب اللغة الأدبية. وهو في التأويل دليلٌ على بُعد النظر وحدّة البصيرة لدى الشاعر. حيث لم يعد يرى العالم سطحاً فقط، بل يراه في ثنائياته وتعرّجاتِهِ. هذه رؤيةٌ للعالم تقترب كثيراً من الرؤيا، وهي شكل من التّعامل مع العالم على أنه يحمل ضدّه دائماً، وفي أي عنصرٍ.
(سطوةٌ تقتحم مدينة الصمتِ
قبيلة الضَّجيجِ تحاصرني
إذنْ أردّ سطوة الصمت
بسطوة الكلام…)- ص68.
4-وممَّا يجعل الكلام شعراً لدى آصف، انشغال هذا الكلام بالصمت والهمس والظلال:
)من الذي استدعاني؟ /أتيتُ في الأتون/
من الذي رتّبتُ له ياقة الصباح،
ورتّبَ لي هذا الإصغاء العذبَ؟
فلنواصل الإنشادَ الهامس في القلب..)- ص 128
هنا تنحاز اللغة إلى الهدوء، والسرِّ العميق، والتأمل، بينما كان آصف سابقاً منحازاً للعلن والتَّفصيل في لغةٍ هادرةٍ بصخبِ المعنى الأيديولوجي الجاهز، أمّا الآن فالبحث انصبَّ حول معنى لم يكتمل بعد..
5-للقصيدة في هذا الكتاب –المجموعة، نصيبُها من علاقة ” التّناص” والحوار مع تجارب الآخرين. أبرزُ ما ظهر هذا في علاقة لغة آصف بلغة أدونيس. وهذا ما يُعلن عنه اشتراكُ آصف مع تجربة أدونيس في زاوية النظر للأشياء وشكل مخاطبتها. وقد انعكست هذه الشراكةُ في بناء جملٍ ذات بنيةٍ أدونيسية أو ذات استعمال أدونيسي خاصّ. أو في إعادة كلماتٍ ما اشتهر باستخدامها أدونيس في قنوات خاصة به وبتجربته. (المماثل، اللا مرئي المعنى، وضوح الغموض، عتمة النهار… الخ). وقد تكون هذه الشراكة –وهي في النهاية واردة لدى الكثيرين، وهي انحياز للحداثة العربية ممثّلةً بأدونيس –هي السمة الوحيدة التي ليست في صالح تجربة آصف.
ومن الممكن فضّ هذه الشراكة عندما يطغى فيها صوتٌ على صوت آخر…