ممدوح رزق
غالبًا ما يتم توجيه الملاحظة في الدفاع عن حرية الكاتب أمام “العقاب الأخلاقي” للقرّاء بأن ثمة عماءً شائعًا يهيمن على وعي القارئ الذي لا يدرك عن “ألف ليلة وليلة” سوى نسخة “طاهر أبو فاشا” أو طبعتي دار الهلال ودار المعارف، ولا تتجاوز معرفته بالتراث العربي أكثر من الحكايات الانتقائية المسالمة ذات النزوع الديني، ولم يكتشف بعد ما كتبه الجاحظ والنفري والسيوطي وابن حزم وغيرهم .. لكن منذ متى كانت المعرفة ضامنًا حتميًا لتغيير الوعي أو لتبديل المواقف! .
إن القارئ الباحث والمتعمّق في هذا الجانب غير المسكوت عنه بالتأكيد في التراث العربي ـ وبصرف النظر مؤقتًا عن مسالمتها من عدمها ـ على استعداد لتطوير آلياته العقابية ضد ما يسميه بالإباحية في الكتابة العربية الحديثة، ذلك لأن المسألة تتعلق بالقارئ نفسه ـ وهو ما أشرت إليه في مقالي السابق ـ قبل أن ترتبط بما سينبغي عليه استعماله من أجل الدفاع عن ظلامه الذاتي في مواجهة ما هو أكبر من نص “فاحش” .. هذا ما يجعل الأثر الناجم عن استغلال القارئ لـ “السراب المتناثر الذي يُطلق عليه (الفضيلة)” ـ كما ذكرت من قبل ـ أكثر مراوغة من العناصر الغامضة نفسها التي تم توظيفها .. تتحوّل الأوهام الأخلاقية كصيرورة إلى افتراضات مبهمة، ومتغيرة عما سمحت به السلطة، وأعطت حق التعبير عنه لشخص دون الآخر، ولفئة دون الأخرى، وعما شكّل طبيعة خطابها، أي الانحيازات التعتيمية للغة هذا الخطاب، التي تقول وتحجب، تبيح وتحظر، تثبّت أنماطًا وتطمس شروخها .. هكذا نحن لا نتحدث عن “أخلاق” من أي نوع، ولا عن جماليات أدبية بل عن انتهاز متبادل، غير محكوم بين القارئ والسلطة ينتج دومًا ما لم يكن يبدو متضمنًا فيه منذ البداية.
في مواجهة الغموض وعدم التماسك البنائي و”البذاءة” تتبنى تدوينات القراءة خطاب السلطة (العنف الرمزي الذي يتجاوز التحديدات الاجتماعية والثقافية)، وتعيد إنتاجه، أي تمتلك طبيعة هذا الخطاب؛ فتتحدث بما تقوله هذه السلطة، وتمتنع عما لا ينطق به الذين لديهم مشروعية تأكيدها، وتحتمي بمحاذيرها التي لها قوة القانون.
أتذكر أنه بعد أن نشرت مقالا نقديًا عن إحدى المجموعات القصصية، والذي يحلل علاقاتها الأوديبية، والاستعمال الرمزي للجسد داخل أحلامها المسرودة كيقظة متخيلة، ويفتح فضاءات التأويل بخلق خيوط ملهمة لإعادة كتابة قصصها عبر استخدام المجاز الأبوي المتخطي لامتلاك القضيب، والتصوّر النرجسي، والكبت الأساسي، ومرحلة المرآة عند “جاك لاكان”، وعقدة الخصاء، والعلامات الفرويدية؛ بعد نشر هذا المقال كان أمام أحد مراجعي الكتب ثلاثة طرق: الأول أن يفكر في التحليلات التي قدمها المقال، وأن يحاول الاطلاع على مصادر للمعلومات الواردة فيه ويفهمها ويربط بين إحالاتها المختلفة، وأن يكتشف في ضوء ذلك العلاقات التي شكّلها المقال داخل القصص وفيما بينها، والتي تتجاوز الفرضيات المباشرة للتحليل النفسي .. الثاني أن يريح دماغه، وألا يحاول أن يفعل شيئَا مما سبق، وأن يكتب فقط مراجعته الخاصة عن المجموعة .. الثالث ألا يحاول أن يفعل شيئًا مما سبق، وأن يكتب مراجعته الخاصة عن المجموعة متضمنة إشارة إلى أنها ـ أي المجموعة ـ لا تحتاج لهذه التحليلات والتأويلات والتفسيرات! J .. اختار مراجع الكتب الطريق الثالث ذلك لأنه تعرّض بواسطة هذا المقال ـ الذي لم يستبعد “للمفارقة” أي قراءات أخرى بدعوى أن المجموعة ليست في احتياج إليها ـ تعرّض لاعتداء يشبه الغموض وعدم التماسك البنائي و”البذاءة”، وكان عليه أن يتصرّف كما يفعل المدوّن الذي يعجز عن القيام بشيء ما .. كان عليه مثلما يدافع الآخرون عن أنفسهم باستخدام الوضوح وتماسك البنية و”الأخلاق” أن يحاول حماية نفسه بتقمّص خطاب السلطة الذي حينما يتحدث من خلاله فإن عليه ـ بادعاء مضحك وبائس لعدم الحاجة ـ ألا يتكلم كحقيقة مطلقة فحسب بل أن يسعى أيضًا للتعتيم على ما لم يقدر على التحدث عنه.