رواية “تاج شمس” لهاني القط: تراجيديا إنسانية عن الطغيان ليست محددة بزمان ولا مكان

تاج شمس
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

سمير درويش

قرية “تاج شمس” هي مركز الرواية التي تحمل اسمها، رواية هاني القط التي صدرت مؤخرًا عن بيت الحكمة، لا يصل إليها الناس إلا بالمركب عبر مَرْسى على نهر، يشرف عليه من فوق ربوة بيت “الجليلة” الجالسة أمام دارها، أول دار في القرية، لا بد لأي غريب أن يعبر للبلدة من خلالها، الجليلة هي مفتاح المكان والمشرفة على أسراره، تعرف ما يدور دون أن يخبرها أحد، تجلس على كرسيها المزخرف بنقوش الزمن كأنها هي الزمن ذاته.

تنغلق القرية على ذاتها، على ناسها ودورها ومحاصيلها، فقرائها وأغنيائها، لكنها تنفتح على عوالم سحرية أخرى، على مراسٍ توصِّل إلى بلدات بعيدة غامضة، يتوه فيها المسافر لكنه -في الوقت ذاته- يظل قريبًا، يسمع الأخبار ويطيع النداء.

أراد هاني القط أن يبني كونًا كاملًا في هذه القرية الصغيرة المنغلقة، كونًا به كل شيء: الطغاة الغرباء الذين يأتون من الضفة الأخرى، يصيرون عُمَدًا بالقوة والعنف والبطش، واستخدام طبقة من أهل القرية يصيرون خفرًا، يحمُون العمدة الباطش ويكونون يده التي تنفذ، ويستعينون ببلطجية أقوياء لا قلوب لهم.. يقتل غريبٌ غريبًا ويجلس مكانه، يقوِّي مركزه بخفر جدد خلصاء، وينهب الثروات ويترك الناس جوعى.

شخصيات الرواية (نماذج) بشرية روائية، يمكن لخيال القارئ أن يجسدها حسب ثقافته، وحسب معرفته بالطغاة في كل مكان وزمان، والقرية نفسها مسرح كبير يشاهد القارئ على خشبته أحداثًا (نموذجية) للقهر والظلم والخنوع والاستسلام، كأن المسرح غابة يقتل فيها القوي الضعيف ويستولي على كل شيء لديه، من أرضه إلى زوجته وأبنائه، كأن المكان وناسه يجسدون تراجيديا عظيمة يمكنك أن ترى فيها يد الله التي ترسم الحدود وتقدر الأقدار.

في تراجيديا كهذه مسموح أن يتحول الشخص إلى نقيضه، فالسكير يصير شيخًا نورانيًّا رُفعت عنه الحجب، والأراجوز الأضحوكة يصير قاتلًا شرسًا، والمحب اليتيم الذي فقد أباه وأمه وعركته الغربة وقسوة المدينة ودهاليزها، يصير ديكتاتورًا عنيفًا ظالمًا مستغلًّا.. الديكتاتور المحلى الأول الذي أقصى غرباء الضفة الثانية وبنى مُلكه على أنقاضهم، وصار أكثر قسوة منهم. هذه الجملة الأخيرة يمكن أن تحيلك إلى حاكم بعينه، خصوصًا أن ملامح المحيطين به تشبه حقبة تاريخية ما، لكنني أحب أن أرى هذا العالم في اتساعه، أكبر من حادثة واحدة أو حاكم واحد.

في هذا العالم التراجيدي الذي لا يحدده الكاتب بزمان معين أو بمكان معروف، يصير الناس ملائكة أو شياطين، أو ملائكة يتحولون إلى شياطين وشياطين يتحولون إلى ملائكة، هذه سمة التراجيديات الكبرى، وإذا رصدت عالم النساء فيها ستجدهن يتدرجن، من الجليلة القوية التي تمسك عصاتها لتحدد بها مصائر الرجال، إلى “كُوكَب”، الغانية زوجة رضوان الخفير، التي تُخرج زوجها إلى خفرته كل ليلة، وتوارب باب دارها لتسقبل عشاقها واحدًا بعد واحد، تلهب غرائزهن بثورة فارقة، حتى يهد ثورة جسدها ثورة أعلى لرجل اسمه “الميت”.

قرية هاني القط فيها كل شيء إذن، كنماذج بشرية، وفيها أحداث كبرى تليق بها: فيضانات وحرائق وقتلى مصلوبين وشيوخ مكشوف عنهم الحجاب وسكارى وزناة وخونة ولصوص وبصاصين وسحرة ومزارعون  وشرفاء عنيدون يتحدون الظلم، يريد من خلالها أن يكشف فداحة الطغيان، وأن الحاكم سيستبد حتمًا -وإن كان طيِّبًا- إن كان حاكمًا مطلقًا لا يجد من يردعه عن ظلمه.

المُرهِق في قراءة رواية “تاج شمس”، أن هاني القط قسمها إلى فقرات قصيرة، من سطرين إلى عدة سطور، مفصولة بنجوم، كل فقرة عن شخصية أو حادثة، ويكون عليك أن تلهث وراءه بسرعة من عالم إلى آخر، وأن تجمع في ذاكرتك كل تلك الشخصيات الكثيرة المتنوعة بتحولاتها التراجيدية، التي تعد كلها شخصيات رئيسية، لكل منها عالمه وحكاياه الغنية.

مقالات من نفس القسم