قبل أن أنسى أنى كنت هنا

موقع الكتابة الثقافي
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

إبراهيم عبد المجيد

لم يكن عمود الإنارة الذى اختفى من ميدان التحرير هو الوحيد. بعد يومين اختفى عمود إنارة آخر من الميدان. عمود اشتهر خلال الثمانية عشر يوما التى احتشد فيها الثوار بصعود أكثر من شاب عليه. اشتهر من بينهم الشاب الذى كان يصلى مع الجموع التى تصلى على الأرض. كان مشهده فوق العمود مثيرا جدا وهو ينحنى ليركع، وينحنى أكثر ليسجد فوق الجزء الأفقى المنحنى أعلى العمود الذى لا يعرف أحد كيف ضبط توازنه فوقه.

لقد نسى الكثيرون من هو بالضبط. لم يكن هذا الشاب غيرى أنا الشاعر المغامر الذى فقد حبيبته نادين فوق كوبرى أكتوبر. لذلك حين راجت إشاعة أن وزارة الداخلية عرفت اسم الشاب الذى كان يصلى فوق العمود فى الميدان، وأنها بعد اختفاء العمود قبضت عليه من منزله عند الفجر، وجدت أنه من الشجاعة أن أقول على صفحتى على فيسبوك إنى كنت ذلك الشاب، وإن وزارة الداخلية لم تقبض علىّ ولم تسألنى عن العمود المختفى، ولا بد أنها قبضت على شاب مظلوم.

على الناحية الأخرى، كانت وزارة الداخلية ترى أن ما يحدث أمر لا علاقة له بما تتداوله وسائل التواصل الاجتماعى. الأشجار لا تطير حزنا على أحد، وكذلك لا تختفى أعمدة النور. هناك عصابة تفعل ذلك وتروِّج لهذه الأكاذيب عن الشهداء الذين لم ينتقم أحد لهم. وزيادة فى حَبك القصة، أشاعت العصابة أن الجرافيتى يظهر على كل جدران البلاد، ويختفى، ولقد قبضت وزارة الداخلية على شابين فوق أحد الأسطح المواجهة لإحدى العمارات فى السويس، وهما يرسلان من جهاز سينما أشعة غير مرئية تصطدم بحائط العمارة، فتعكس عليها الأفلام التى صوروها من قبل، وهى رسوم الجرافيتى التى انتشرت وقت الثورة، وأن وزارة الداخلية الآن تراقب كل الأسطح المواجهة للجدران أو العمارات التى شهدت حركة الجرافيتى فى مصر، ومنها ستصل إلى سارقى الأشجار وأعمدة الإنارة وترويج الشائعات المضللة التى يُراد بها زعزعة الاستقرار.

كنت طبعا غير مقتنع بكل ما قيل. لقد شاهدت بنفسى الشجرة فى سوهاج وهى تئن، كما سمعت صوت طرقعة جذورها وهى تنعتق من تحت الأرض وتسقط. بيان وزارة الداخلية اعتبرته محاولة لتهدئة الناس، حتى تستطيع أن تقبض على من يروِّجون لما يحدث باعتباره انتقاما إلهيا. توقعت أن يتم القبض على الكثيرين ممن شغل الموضوع صفحاتهم على فيسبوك، وربما أنا الذى قلت إننى من كان يصلى فوق العمود. لكن أمام نجوان كنت أقول شيئا آخر. كنت موافقا أمامها على بيان وزارة الداخلية. لكن نجوان خرجت اليوم من مدرستها ومعها نهاوند، وأخذت طريقها إلى دار نشر «فُل وورد» لمقابلة حامد شحاتة الذى سبق أن أخبرَته بالموبايل وكان ينتظرها. حدثتنى فى الصحيفة وأخبرتنى، فقررت أن ألحق بها. لم أقل لها ذلك. خفت أن يتم القبض على حامد وهى هناك ومعها نهاوند فيُقبَضُ عليها أيضا.

وجدتنى نجوان أصعد السلم خلفها. اندهشت ثم ضحكت وهى تقول «رعبتنى». ما إن فتح حامد لنا الباب ودخلنا حتى ابتسم وهو يقول:

– أنا طبعا غير مندهش من حضوركما. دهشتى من جرأتكما الآن. أنا مُعرَّض للقبض علىّ فى أى لحظة.

صمتنا قليلا، ونجوان تحتضن نهاوند أمام ساقيها وتحيطها بيديها. سأَلَنا حامد:

– هل تحبان أن أطلب طعاما؟ لقد أتيتما من العمل إلى هنا.

– لا. لست جائعة.

أجابت نجوان، وكذلك أجبت أنا.

– إذن ماذا يضايقكما؟

قلت:

– لا شىء يضايقنى، لكنى عرفت بقدوم نجوان فخفتُ عليها. لا أعرف ماذا يضايق نجوان.

سكتت نجوان قليلا، ثم قالت:

– فى لحظة فكرت أنكما لا تقولان الحقيقة، ولا أحد على فيسبوك. وأنه لا شجرة خرجت من مكانها، لا فى الصعيد ولا فى القاهرة. كذلك لم تطر الأعمدة من مكانها. وأن الرجل والد سامح بكير الذى قال لى إنه رأى رسوم الجرافيتى كان أيضا يحلم.

صرت أنظر إليها غير مصدق، فاستطردَت:

– وكدت أعود وأنا أصعد السلم إلى هنا، لأنكما بالفعل لن تقولا الحقيقة.

تبادلت النظر مع حامد فى حيرة فقال:

– نجوان، تعرفين أنى أحبك، وكنت أحب طارق ونادين، وما زلت أحب نور لأنه لم يتخلَّ عنكِ. لا يوجد سبب واحد يجعل نور يكذب عليكِ، ولا أنا طبعا. مصر الآن فعلا تشهد أحداثا غريبة، أقل ما يقال عنها إنها سحرية.

– هل ترى للحكومة دورا فيما يحدث؟

ضحك حامد، وقال:

– الحكومة لن تضر نفسها.

– طيب لماذا تسكت الحكومة عما يحدث؟

– من قال لك إنها ساكتة؟ لقد قرأتِ، بالتأكيد، بيان وزارة الداخلية أو سمعتِه فى الفضائيات أمس.

– لم أصدقه طبعا.

– ولا أنا. هل تعرفين لماذا؟

– لماذا؟

– لأن شبابا من كل المحافظات يرسلون لى رسائل عن الجرافيتى الذى يظهر ويختفى فى محافظاتهم وقراهم.

وسكتنا لحظات، حتى قال حامد باسما:

– أنتَ أيضا كتبت بوست أخبرت به وزارة الداخلية بأنك الذى كنت تصلى فوق العمود بالميدان.

– لا تقلق على.

قلت له ذلك وأنا أنظر إلى نجوان التى قالت:

– نسيت أن أسألك حقا لماذا كتبت ذلك؟

لكن حامد أخذنا إلى كلام آخر وسألها:

– هل تابعتِ الرسائل والتعليقات الخاصة باللجان الإلكترونية للنظام؟ كلهم يرددون بيان وزارة الداخلية، وكلهم يهددون من بقى من الثوار.

سكتنا من جديد، فقال حامد:

– ما رأيكما أن نخرج من هنا الآن، نتغدى فى مقهى ريش أو مطعم الجمهورية، أو حتى عند القزاز.

قلت ضاحكا:

– يا ريت ناكل كشرى عند أبوطارق.

– إشمعنى؟

– يعنى نفتكر أيام الميدان.

ضحك حامد، وقال:

– أنا كنت آكل كشرى عند «توم آند بصل» أحسن من أبوطارق بتاعكم.

– فليكن. نأكل عند «توم آند بصل».

قلت، فقال حامد:

– إذن هيا بسرعة. قلبى يحدثنى أنهم سيصلون للقبض علىّ بعد لحظات.

وأشار لنا أن نمضى أمامه، لكنا سمعنا ضجة على السلم فى الدور الأسفل. همس حامد:

– بسرعة اصعدوا إلى الدور الأعلى. لقد وصلوا.

وقفت حائرا، ونجوان اشتعل وجهها من القلق، فهتف حامد هامسا:

– بسرعة. سأنزل أنا إليهم. انجُ بزوجتك وبنتك.

صعدت بسرعة أحمل نهاوند وأمامى نجوان لعدة درجات، بينما نزل حامد عدة درجات، وسمعته يقول:

– أنا قادم لكم بنفسى. أعرف أنكم ستتهموننى بسرقة العمود. والله مصر بقت مسخرة أوى!

سمعت الضابط:

– خذوه، واصعدوا، وافتحوا دار النشر فتشوها.

صعدت دورا ثانيا، ووقفت حائرا مع نجوان. كيف تركت حامد حقا؟ من يغفر لى ذلك؟

أحسست بباب الشقة المجاور لنا ينفتح من الداخل ثم يُغلَق، فصعدنا دورا أعلى، ثم قررنا أن نصعد إلى السطح حتى نتفادى أن يطل أحد من أى شقة ويرانا. كنت أحمل نهاوند وأصعد بسرعة ونجوان أمامى، ولا أدرى كيف صارت قوية لتفعل ذلك فى لحظات.

لم يطل بنا الوقت. حاولت نجوان أن تصل إلى سور السطح، وتطل منه على الشارع لترى حامد وهو مقبوض عليه ويضعونه فى عربة الترحيلات. خشيت أن يرى أحد من الشارع وجهها، فمنعتها. ظللنا فى منتصف السطح أكثر من عشر دقائق نتمنى فيها شيئا واحدا، هو ألا تبكى نهاوند أو تصرخ لأى سبب. ثم نزلنا على مهل فلم نقابل أحدا على السلم. لم يظهر وجه واحد من السكان حتى من خلف أى باب يستطلع ما يحدث. لقد نجح النظام أن يصيب الناس بالرعب. تذكرت أيام التحرير. كيف كانت الشقق كلها مفتوحة للثوار، وسكانها يقدمون إليهم الطعام وأماكن النوم والأغطية الصوفية التى تقيهم من البرد. كم شقة دخلناها هنا مع أصدقائنا ولم يحدث من قبل أن تعرفنا على أحد من سكانها؟

تركنا العمارة ودموع نجوان على خديها. أسرعنا فى شارع محمد محمود. ليس أمامنا إلا مقهى الحرية. هناك أيضا يجلس بعض المحامين الشباب من المنظمات الحقوقية. لا بد من إنقاذ حامد فى أسرع وقت.

اخترقنا شارع منصور بسرعة لنصل منه إلى شارع التحرير، لنعبره إلى مقهى الحرية أمامنا بشارع الفلكى. توقفنا فى شارع التحرير. رأينا حملة أمنية كبيرة أمام مقهى الحرية ومقهى سوق الحميدية ومقهى الندوة الثقافية، والمقاهى فى كل ناحية. يغلقون المقاهى ويخرج كل من فيها بسرعة. ماذا سنفعل الآن؟ لا بد أن نكتب ما يحدث على فيسبوك بسرعة. لا بد أن نجد مقهى ما مفتوحا.

ابتعدت عن نجوان قليلا لأشترى علبة سجائر. وأنا أقف أمام البائع نظرت خلفى إلى نجوان التى صارت تمسك بيد نهاوند. كانت سيدة منتقبة تمر من جوارها، ضربتها فى كتفها كأنها اصطدمت بها عفوا. هتفت فيها نجوان «مش تحاسبى؟» لكن رجلا من الناحية الأخرى اصطدم بها أيضا، فتركت من الصدمة يد نهاوند وصرخت فيه: «يا وسخ يا سافل»، فجريت إلى الرجل الذى جرى أمامى، لكن كان موتوسيكل قد توقف يقوده شاب ملثم، ونزل منه شاب ملثم آخر حمل نهاوند بسرعة وقفز إلى الموتوسيكل، فصرخت نجوان: «بنتى»، وقذفت الشاب بالموبايل الذى كان فى يدها، وجرت خلفه، لكنها وقعت على الأرض. جريت أنا أيضا إليه. صار الموتوسيكل يندفع فى شارع التحرير إلى عابدين، أو ربما لينعطف إلى شارع نوبار ليختفى، وأنا أجرى خلفه وأصرخ: «حرامى»، ولا أحد يعترضه. لكن سيارة شرطة كانت تقطع الشارع فى الاتجاه المعاكس بسرعة. توقف قائد الموتوسيكل، وكاد ينقلب به لكنه تماسك بتوازنه، وألقى الشاب الذى خلفه بنهاوند التى يحملها إلى الأرض، ثم انطلق الأول يحاول أن ينحرف بعيدا عن سيارة الشرطة، لكنها اصطدمت بالموتوسيكل. انقلب الموتوسيكل بهما وتوقفت السيارة. كانت الصدمة قوية. تمدد الشابان على الأرض والدم ينزل منهما معا. شاهدت امرأة تندفع من الرصيف تمسك بنهاوند، فجريت إليها. رأيت المرأة تضع نهاوند على صدرها، وتربِّت على ظهرها. مددت يدى آخذ نهاوند، ونجوان لحقت بى تقف معى متألمة مما أصابها حين وقعت، فهتفت المرأة:

– لماذا تريدانها؟ لقد طارت من فوق الموتوسيكل والشابان فيما يبدو قد ماتا. هى ابنة أحدهما لا بد.

– هى بنتى وهما خطفاها منى. نريد أن نتأكد أنها بخير.

قالت نجوان ذلك وهى تبكى وتتألم. كانت المرأة التى تحمل نهاوند جميلة، ترتدى فستانا رائعا على عكس ما هو حادث فى الأزياء. ذراعاها عاريتان ورائحة بارفانها حولها.

هتفت المرأة للناس:

– يا جماعة الست دى بتقول إن البنت بنتها، وأنا شايفة الولد حطها على الأرض من الموتوسيكل.

تجمع الناس حولنا فقلت منفعلا:

– هى ابنتنا. أريد أن تأخذها زوجتى تطمئن عليها فى أقرب مستشفى، حتى أقف مع الشرطة، وأبلغهم أن ضحايا الحادثة لصِّان سرقا ابنتنا.

وكانت الشرطة التى توقفت سيارتها قد حملت الشابين المصابين إلى الرصيف. والناس يصرخون فى رجال الشرطة «تمشون عكس الاتجاه وتقتلون الناس! لماذا؟ لماذا؟».

كان الغضب شديدا، وكان معظم عناصر الشرطة قد اختفوا، باستثناء ضابط شاب وقف حائرا لا يتكلم. كان واضحا أنه مرتبك بحق مما حدث ومن تجمع الناس. وكانت نجوان تصرخ للسيدة والناس «أعطينى بنتى. أعطونى بنتى» والسيدة ومن حولها يقولون: «استنى لما نعرف هى بنت مين».

كان الموقف محيرا لنا جدا. ابنتنا فاقدة الوعى نريد أن نطمئن عليها، والسيدة التى لم تر ابنتنا مع نجوان من قبل لا تصدق أنها ابنتنا، والناس أيضا يفعلون مثلها، وأنا أريد أن أنهى الموقف لأذهب إلى قسم الشرطة أشكو الشابين المصابين، حتى لو ماتا فلا بد أن وراءهما عصابة كبيرة، إما للشحاذة بالأطفال، وإما لبيع الأعضاء البشرية.

تماسكت وقلت للسيدة بهدوء كاتما غضبى:

– يا مدام، أنا نور قنديل، صحفى فى جريدة الأخبار، وهذه نجوان زوجتى، ثيابها متسخة بعد أن سُحِلَت على الأرض وهى تحاول اللحاق بالموتوسيكل، وادعى لها ألا تكون مصابة فى عظامها. وهذا أيضا كارنيه نقابة الصحفيين الخاص بى. التى تحملينها على صدرك الآن هى ابنتنا ونشكرك جدا. أعطيها لنا لنذهب بها إلى المستشفى نطمئن عليها وعلى زوجتى، ولنحرر محضرا ضد الشابين اللصين اللذين خطفاها. لو سمحتِ.

ترددت المرأة لحظة ثم مدت يديها تحملان نهاوند لى، فتناولتها إلى صدرى ولاحظت أنها فتحت عينيها، فقبلتها فرحا وهتفت لنجوان:

– نهاوند بخير. لقد نجت بمعجزة.

لكنها كانت أسرعت إلى الضابط الشاب، وأنا خلفها، وصرخت:

– هل ماتا؟

قال الضابط:

– واحد مات والتانى مصاب وطلبنا الإسعاف. هل تعرفينهما؟

– أجل. لصّان خطفا ابنتى التى طارت بعيدا، والتى مع زوجى الآن.

وأشارت إلى مكان الخطف. واكتشفت أن الموبايل لم يعد معها، وأنها قذفت به أحد الشابين، فقالت لى:

– سأبحث عن الموبايل. ابقَ مع الضابط حتى نحرر المحضر.

قلت أنا للضابط:

– ليس مهما حتى لو قتلتم هذين اللصين أولاد الكلب. أريد أن أحرر محضرا لأنه لا بد أن هناك عصابة كبيرة وراءهما.

كان الضابط واقفا لا يتكلم. لا أحد يعرف فيم يفكر. جاء صوت الإسعاف من الناحية الأخرى من شارع البستان. ستدور إلينا وتحمل الشابين. كان بين الناس أكثر من شاب يصرخ «لا بد من عمل محضر لعربة الشرطة. لن نترك حق الشابين».

كانت نجوان التى تركتنى أقف مع الضابط لا تزال تمشى تنظر إلى الأرض باحثة، علها تجد الموبايل الذى قذفت به الشابين. كانت نهاوند قد عادت إلى وعيها أكثر، فرأت نجوان قريبة فهتفت لأول مرة «ماما». ومدت يديها إليها.

ورآها شاب تعود تحمل عنى نهاوند التى فتحت لها ذراعيها، فقال:

– أول مرة الشرطة تجيب حق حد.

وقال آخر:

– وبالغلط كمان.

ضحك المتجمعون وقال لى الضابط:

– يمكن أن تأتى إلى قسم عابدين، تحرر محضر خطف للشابين فى أى وقت اليوم. اطمئن على ابنتك أولا.

تقدمت ومعى نجوان إلى مقهى قريب أعرفه فى مدخل عمارة مقابلة لمكتبة الكيلانى. كان لا بد أن نجلس نرتاح وتغسل نجوان وجهها ووجه نهاوند. وكنت أفكر حائرا فيما حدث وكيف فاق أفلام الرعب. ما هذه الأحداث كلها فى دقائق؟ لكنا رأينا عددا كبيرا من الشباب والرجال والنساء قادمين فى سرعة من ناحية شارع الشيخ ريحان. كان المنظر مثيرا جدا، فظننت أن هناك مظاهرة يطاردها البوليس، وقلت فى نفسى: ما الذى يحدث فى هذا اليوم الأغبر! لكن امرأة هتفت:

– لا أحد يذهب إلى شارع الشيخ ريحان الآن. الأشجار كلها هناك تنخلع وتطير فى الفضاء. البلد بتقع!

ارتفعت الأنظار، فكانت هناك أشجار تعبر تحت السماء إلى كل اتجاه، وارتفعت سارينات السيارات وخرج بعض من فيها أو ركنوها إلى الرصيف ووقفوا تحت بلكونات العمارات، بينما وقف آخرون جوارها ينظرون إلى السماء. ارتفعت أصوات أذان من المساجد البعيدة والقريبة تصل إلينا، وامتلأت الشرفات بنساء ورجال وأطفال يدخلون ويعودون بسرعة، ولا أحد يعرف هل يضحكون أم يصرخون. مندهشون أم مرعوبون. كانت نجوان قد دخلت إلى المقهى وجلست صامتة تقبِّل نهاوند ولا تكف عن البكاء. أحسست بنفسى بعيدا عنها جدا. أسرعت إليها وجلست جوارها أُربِّت على ظهرها وهى فى صدرى ونجوان على ركبتيها. كنا فقط الجالسين بالمقهى. كان كل من فيها حتى عمالها يقفون فى الشارع يتطلعون إلى السماء. قلت لها:

– لا تبكى يا نجوان. الآن ترين ما رأيته أنا من قبل.

أنشجت أكثر بالبكاء، وقالت:

-هل تسمع ما أسمعه؟

فكرت مرعوبا أنها ستقول لى إنها تسمع صوت طارق فى الفضاء. هززت رأسى، فقالت من بين دموعها:

– الجميع ينظرون إلى السماء، وأنا وحدى أسمع الموسيقى تأتى منها.

لم أجد شيئا أقوله، غير أن أضمها إلى صدرى أكثر وأمسك بيديها أقبلهما، وهى تقول:

– موسيقى فيلم قديم شاهدته مع طارق وعدد من الأصدقاء، فى نادى السينما بقاعة إيوارت بالجامعة الأمريكية.

وأتذكره الآن. إنه فيلم «آخر الموهيكيين».

أصابنى الصمت أكثر. لقد كنت معهما أنا ونادين بين أصدقائهما وإن نسيت. إنه فيلم لا أنساه.

«The Last of the Mohicanz»

لكن كيف لا تتذكر أنى كنت معهما. اضطرب قلبى خوفا أن يدق هاتفها النقال، تذكرت أنه ضاع منها وسط الزحام والفوضى التى جرت، وأنها لم تجده وأننى لم أفكر مثلها فى البحث عنه. أبعدت يدى عنها وأخرجت هاتفى. طلبت رقمها فجاءنى الرد أنه مغلق وغير متاح. لقد هرب به اللص الذى وجده وأغلقه. ابتسمت ساخرا. ماذا يعنى لنا هاتف وسط ما جرى من أحداث! لص للهواتف ولصوص أطفال وحملة أمنية على المقاهى تطارد شباب فيسبوك! كل ذلك فيكِ يا مصر الآن، فلماذا تبقى الأشجار؟ ثم سمعت صرخات الناس فى الشارع وهى تعلن أن غضب الله حط على البلاد، فالأشجار تطير واقفة.

نصف ساعة تقريبا وعادت الحياة فى الشارع إلى طبيعتها. قلت لها:

– آن الأوان أن نذهب إلى قسم البوليس نحرر محضرا فى الشابين اللذين حاولا خطف نهاوند.

هزت رأسها فى يأس، وقالت:

– لا فائدة فى أى شىء. عد بنا إلى البيت!

أخذنا تاكسى وجلسنا صامتين. وصلنا إلى المنزل وصعدنا إلى شقتنا. ما إن دخلنا حتى اندفعتْ إلى حجرة النوم. دخلتُ وراءها ونهاوند فى يدى. نظرت إلىّ وهى ممددة فوق السرير بثيابها، وقالت فى ألم:

– صوت الناى كان يلازمنى طول الطريق ولا يزال، ونشيج الهنود الحمر لا يتوقف.

كانت دموعها هى التى لا تتوقف.

………………………..

·        فصل من رواية تصدر قريبًا عن دار بيت الياسمين للنشر والتوزيع

 

 

مقالات من نفس القسم