مُلتقى الكُتّاب

موقع الكتابة الثقافي
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

منتصر القفاش

1-

منذ الإصدارات الأولي لدار شرقيات عام 1991 اتضح أن صاحبها حسني سليمان ينظر إلي عملية نشر الكتب نظرة مختلفة عن المعتاد والسائد وقتها. سواء من ناحية اختيار الأعمال التي ينشرها أو من ناحية الغلاف الذي كان يبدعه الفنان الكبير محيي الدين اللباد. وكان التعريف بالدار في صفحة الإصدارات دار لنشر الأعمال الإبداعية المتميزة في إخراج طباعي متميز. وفي فترة قصيرة صارت شرقيات علامة علي الكتاب المُعتنَي بكل تفاصيله، ويتميّز من أوّل وهلة عن بقية الكتب علي أرفف مكتبات القاهرة، كما صارت قبلة من يريد التعرّف علي الكتابة الجديدة في مصر.

2-

في بداية عام 1992، أخبرني الراحلان الكبيران خيري شلبي وعدلي رزق الله بأن حسني سليمان يرغب في مقابلتي. لم يكن صدر لي سوي مجموعة قصصية واحدة “نسيج الأسماء”. وجدّت حسني قد قرأها كما فعل مع كتب أخري لكتّاب جدد ليطّلع علي تغيرات الكتابة وما جدّ فيها. وكعادته التي لم يتخلّ عنها مع كثير من الكتّاب، قرأ فقرات استوقفته وعلّق عليها وعلي قصص المجموعة ببساطة كاشفة عن ذوق خاص أبعد ما يكون عن حسابات المكسب والخسارة التي تلازم معظم الناشرين.

3-

علي مدار صداقتي لحسني سليمان تكرّر هذا المشهد: لقاؤه بأصدقاء مصريين يعيشون في السويد ويزورون القاهرة لفترة قصيرة ولا يكفّون عن إبداء دهشتهم من قرار حسني بالعودة إلي مصر بعد أكثر من عشرين عامًا عاشها في السويد ووصل إلي منصب أمين المكتبة الوطنية السويدية، ولا يستوعبون قدرته علي العودة والتخلّي عن كل ما حققه هناك وبدء مشروع دار شرقيات، مغامرة غير مأمونة العواقب بل ويلمّحون إلي أنها ستفشل. ولم يكن حسني يحاول أن يُفلسف قراره ولا أن يخوض في الأسباب. ويكتفي مبتسما بردود مقتضبة ويسارع بتغيير الموضوع ليتحدّث عن الكتب الجديدة التي نشرها، ويختار لهم عددا منها ويشجّعهم علي قراءتها.

4-

لم يستغرق الأمر وقتا طويلا، ولا كان في حاجة إلي طول تفكير وتخطيط. وبشكل تلقائي وبسيط كطبيعة شخصية حسني صار عدد من الكتّاب الشباب وقتها ممن نشروا أعمالهم الأولي في شرقيات يلتقون في الدار صباحا، فحسني يبدأ عمله الساعة السابعة وينهيه تقريبا الساعة الثالثة بعد الظهر، وإذا حضر إلي الدار الساعة الثامنة يعتبر نفسه تأخر أكثر من اللازم. وبسعادة يحدّثك – ربما وهو يسقي النباتات في البلكونة – عن الاستيقاظ والعمل مبكرا، وجمال القاهرة قبل الازدحام وخنقة إشارات المرور والضوضاء، وإن كان في الوقت نفسه مستعدّا للاستغراق في الضحك بسبب أي تعليق ساخر من هؤلاء الكتّاب المُحبّين للسهر حتي الفجر، والذين يصل معظمهم يومين ببعضهما دون نوم. في تلك اللقاءات الصباحية كان الحديث يطوف بموضوعات شتي حسب التساهيل. كانت ورشة أدبية دون قصد ولا برنامج معد سلفا. نتبادل فيها الآراء حول الكتابة والكتب التي قرأناها، وأحيانا نناقش أعمالا قُدّمت لشرقيات لنشرها، وخلال كل ذلك لا تشعر بأن حسني يتبوّأ مقعد الناشر خلف مكتبه الذي لم يتغيّر موضعه أبدا، بل تراه كأنه واحد من هؤلاء الكتاب دون أن يكتب حرفا، ولا تحس بأنه أكبر منهم سنا. وكلما سُئل أن يكتب عن تجربته سواء في أوروبا أو مصر كان يتهيّب خوض تجربة الكتابة. ويكتفي بحكي أجزاء منها كلما سمحت الظروف في كلمات قليلة تكثّف حياة عميقة.

5-

يُحبّ حسني أن يعمل في هدوء وصمت. ولا يرغب في منافسة أحد أو التسابق مع الآخرين لنيل دعم يستحقه، يؤمن بأن علي الشخص تأدية عمله بأقصي ما يمكنه، ويثق في أن الناس ستقدّره في النهاية دون حاجة إلي أن يُثير أي صخب أو ضجة حوله. وحسني من حقّه الآن أن يلتفّ حوله كل من يقدّرون عمله والدور الذي لعبه طول ربع قرن، أن يظهروا له أن شرقيات مشروع لم ينته بعد، وأن أي صعوبات واجهها يمكن التكاتف لحلّها.

…………..

*نقلا عن مجلة روزاليوسف

مقالات من نفس القسم