قصص

موقع الكتابة الثقافي
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

محمد سعد عجلان

عابر

كانت تلك المرة الثالثة التي يقف فيها  مدهوشا يحملق فيها ولا يعي ما تقول فيحرك شفتيه بصوت مهزوز : وات؟(ماذا) فتكرر موعد الطبيب القادم باللغة العربية الركيكة  ومايزال يحملق فيها هي امامه ولايرى سوى أفكاره  واشتهاء لاستدارات  ذات الجيب الضيق القصير تصيح  ذكورته أن غازلها ولكنه ممزق، مشاعر فياضة تعصف بمباني القلب؛ محبة مكبوتة جمل وكلمات صدأت؛ خاف يقولها ،اغان حزينة، شتائم فجة، عواصف من شهوة لا ترحم ، انبطاحات سنين خلت لتأمين لقمة العيش، شعيرات بيضاء تزين الفودين ؛ خرب شكمان الروح، ضجيج  داخله خانق  متبلد، تفيقه ضحكتها الحادة تخترق نكباته من الكسل اللذيذ فليغازل بانجليزية مهشمة؛ تدق طبول الحياة في رماد العاشق القديم،غازل،غازل،غازل: تقول الروح: محظوظ أنا بحضور الضحكة وانتفاضة العشق العابر

 يقول اللسان و تتمتم الشفاة بصوت هامس :

هابي(سعيد)

..........

بُخَــار ..  بُخَــار

 

تغشتنا ظلمة الليل وهبة نسمة مشبعة برطوبة تخنق الانفاس و مثل كل الايام الماضية اجادل عمالي المنهكين من دوام  بدء قبل الفجر ليستكملوا العمل ليلاً حتى نصب خرسانة السقف ونلحق ب (التارجيت) – مستهدفنا المستحيل – وعلى هدى من ضوء شحيح حاد علينا من كرفان الموقع توهجت الوجوه السمراء بحبات العرق و  لمعت عيونهم بالحرارة  وماجت السنتهم برطانات هندية مختلفة وصلتني فحواها ،  تعدونا ولا نحصل على حقوقنا في الساعات الاضافية، نريد باصا في انتظارنا ، نرجع للسكن مستنفذين بلا قدرة لترتيب الطعام؛نريد وجبة ساخنة  وقلت نعم للوجبة ورتبت الباص وبقيت الساعات الاضافية قلت ثلاثة، قالوا خمسة قلت ثلاثة  فأمسك أحدهم بيدى ووضعها على جبينه، لسعتني حرارته  نظر في عيني بعينين مغرورقتين وقال: “بُخـَار..بُخَار

……………

استغاثة

 

في طريقي لعملي صباحا لمحتها بجسد صغيرمدكوك وحجاب أبيض لفتت انتباهي بصرة رخيصة تحملها بيد وبالاخرى تلوح للسيارات المتعجلة حدثتني نفسي: قد تقصد وجهة في طريقي. جاءت وقفة السيارة  بعدها فأتت هرولة :

وين سير؟  

 – اندونيجا امبسي (السفارة الاندونيسية)

 وبحسبة بسيطة قدرت أني قد أحتاج لساعة ونصف لكي أصل لقرب المكان ؛ كنت أعرفه تقريبيا؛ وكأنها قرات أفكاري أقتحمتها بسهولة:

خمسة شهر ما في سالاري(مرتب) تكليف( مشقة وتعب) زيادة كل يوم ماما( سيدتها) جانجال ( تصرخ بوجهها)

 لاأعرف كيف اتعاطف ؛ أفتح لها الباب فتجلس وتدمع عيناها وهي تدمدم وكأنها تكلم نفسها :

 – فلوس مافي بلاد شيكو مريظ (  ابنها مريض في وطنها) دكتور فلوس زيادة ، تليفون مايعطي

أخجل أن أبكي جنبها و أبوح لها بضيق حالي أيضا( كانت أيام أزمة وكانت عسيرة على الجميع) وفكرت في أني توقفت لمعاونة صغيرة مثل توصيلة في طريقي لكن مأزق أن أقود في الزحام حتى السفارة؟! أخرجت محفظتي منتويا مشاركتها دراهمي القليلة ، تكف يدي وتهز رأسها في عناد:

مشكور مايريد فلوس ؛امبسي يريد.

هزتني عزة نفسها وجاءتني فكرة

أنا ما في معلوم امبسي، أنا في ترتيب تاكسي

تنظر لي بحسرة وبعيون محمرة دامعة:

مافي معلوم !

أقود في نفس طريقي وأنا افتش ملهوفا عن تاكسي يحمل عن قلبي عبء مشاركة عذابات بشرية أعرف أنها تحدث كل يوم؛ بأضوائي الامامية أشرت للتاكسي أكثر من مرة توقف جانب الطريق ، نزلت أفاوضه ؛ يعرف السفارة، نقدته نصف ما معي عن طيب خاطر، كانت ماتزال تنتظر بسيارتي وكأنها اتظن أني قد أرجع في قراري ؛أشير لها فتأتي فأفتح لها الباب الخلفي للتاكسي وأجلسها، ,اشير للسائق وأنا أحدثها:

أستاذ في معلوم، امبسي وصل، فلوس كلير .

تومئ برأسها ممتنة وأحار في تفسير  نظرتها الاخيرة وحدة باردة أم خوف ورجاء؟ وأنا أكمل طريقي اتساءل : هل كانت تنتظر مني أكثر؟ ولماذا أحس عكارة الاثم في ريقي؟ وكغابة كثيفة في ليل حالك ينفرد سؤال بروحي فتصرخ مرعوبة : هل تكون السفارة  ملاذا يضمد تلك الروح المستغيثة ؟!

……………

جاسوسية

 

في بلدة  تراما الاشتراكية ظهرت المشكلة ؛ لا أحد يريد العمل في بيت الجواسيس؛ عزف الناس عن تلك المهنة القديمة المجيدة، ذات السحر الخاص ولما كان رئيس الحزب يعتمد على تلك المعلومات القيمة التي يمده بها بيت الجواسيس في مهاجمة جيرانه  سيراما الملكية الرجعية و فلوساما الرأسمالية القذرة بين ثنايا خطابه اليومي الطويل  لذا كلف عضو الحزب الاشتراكي المخلص نجوان بالتحري ؛ وليكسب الرفيق نجوان ثقة رئيسه كان يضطر لانجاز كل تكليفاته بنفسه؛ ارتدى  جاكتا أسودا طويلا تحته قميص أسود و طربوش التشريفات الأحمر وامر سائقه بالسير لبيت الجواسيس؛مبنى عادي لمبة نيون متربة بالكاد تنير المدخل ؛كان قد رتب لاجتماع مفتوح مع كل موظفي البيت وفي انتظاره كان هناك ثلاث عجائزو شابة وحيدة  بنظارة طبية جذابة وجاكت صوفي سماوي فوق قميص زهري رغم حشمته إلا أنه كان ستراً داعياً لامعان النظربانحناءات لدنة تكسوها بشرة بيضاء ناعمة، أمامها أوراق وتمسك في يدها بقلم رخيص كان يعرف كبير الجواسيس ومساعديه وخمن أن البنت جاسوسة جديدة.

أين باقي الجواسيس؟

نحن من بقي من البيت

الرفيق نجوان وبعد ضياع ساعة من وقته الثمين – فقد كثيرا من تركيزه وهو يخالس النظرات للبنت وخيط ملتهب من الأفكار الشهوانية يتقاطع مع أفكاره النظامية  – أدرك شيئا واحداهوأن لاأحد هنا يقدّر أبعاد المشكلة أويعرف حلها..وهو ينحني لركوب سيارته استوقفته لمسة رقيقة على كتفه،كانت البنت؛ دق قلب الصياد الخابي بعنف الاشتياق ؛ تذكر مركزه رسم على ملامحه أهمية كاذبة؛ رفعت امام عينيه كفها – هفت روحه لمرأى العروق الصغيرة خيوطا خضراء شاحبة فاتنة تحت بشرة شفافة – أمالت كفها فرأى ورقة صغيرة (أريد حديثا منفرداً، ولا تكلمني اللآن) اشار لها بركوب السيارة ، ولكنها حركت حاجبيها بحركة فاتنة مستنكرة وأشارت بأصبعها اشارة شقية ساحرة، تبعها صامتاً ،كان حرصه على اكمال كل اعماله حتى النهايات هوساً مرهقاً، سبقته بخطوتين؛اتيح له حضور مؤرق كامل لقدٍّ ممشوق فيما استدارات هربت  طراوتها من قسوة التنورة القصيرة ، عطر خافت مدغدغ يجرجره،تتحرك بثقة وكأنها تقود طفلا صغيرا لعبور الشارع؛ يستيقظ فيه القائد؛ يمد الخطى ولكن لايسبقها ،شارع 21 يتقاطع مع شارع الثورة يمين ثم اول عطفة يمين ، تشده من يده فجأة إلى مدخل عمارة مظلم، أشارت له بالصمت من جديد، خلعت عنه جاكته الطويل وألقته على الدرابزين فتشت قميصه وانحنت تفتش بنطاله، أشارت له فخلع حذائه وطربوشه وتركهما تحت الجاكت،اشارت للخارج فتبعها، التفت خلفه كان الجاكت الطويل والحذاء قد غابا عن ناظره؛احس برعدة صغيرة وبرودة الشارع تلسع قدمه وتنفذ من نسيج القميص الحرير،اهتز قليلا لاحساسه بحفائه وتجرده من  هيبة مناصبه وألقابه:

الآن نتحدث

ماالموضوع؟

أنت وكل أعضاء الحزب تحت رقابة بيت الجواسيس الذي يتجسس على كل حواراتكم حتى في غرف نومكم.

صمت نجوان يجتر أفكاره ببطء،أضاعت المفاجأة كل تأثير لحضور البنت المدهش، يتكلم بهدوء مزيف:

تقصدين بيت جواسيسنا. يتجسسون علينا..نحن؟

نعم. وأنا محررة أدبية أعمل ببيت الجواسيس منذ عامين .اقوم بتفريغ تسجيلات أعضاء الحزب وأستنبط اتجاهات الرأي  وأجمع تلك الأفكارالمتناثرة مع بعض البهارات الأدبية لاعداد تقريرنا اليومي الذي يوجه للرئيس.

وجواسيسنا بالخارج؟

لم يعد هناك الكثير فمنذ بضعة أعوام وقبل أن أعمل بالبيت وجواسيسنا يتجاهلون اتصالاتنا وكأنهم لا يعرفوننا وقد أسر لي واحد بتخوفاتهم لأن مانعرضه لهم من مقابل لايساوي –كما لمح بعضهم- لتعرضهم لمخاطرومضاعفات عظيمة تضغطهم طول الوقت وتدمغ مستقبل أسرهم وأطفالهم للأبد.

ولكن لانتقاء الجواسيس يجب أن يتحلى الجاسوس بتلك السمات الشخصية المميزة من حب للمخاطرة وجلد لتحمل الضغوط بالاضافه لاخلاصه لمبادئ الحزب.

سيدي أن أعتقد أني بالصدفة سمعت أن الكل تأثر بعد ذلك الحديث التلفزيوني الماكر الذي أذاعه تلفزيون فلوساما لارملة  الجاسوس العظيم رسلان وابنه وكما تعلم حضرتك أن السيد رسلان وقبل أن يكمل مهمته الجاسوسية الاسطورية  بسيراما تعرف على زوجته الفلوسامية  واستقرت حياتهم بفلوساما الرأسمالية ولكن بعد اذاعتنا للملحمة التلفزيونية التي مجدت وطنية رسلان اختلطت الأمور بالنسبة للأسرة فلم يعودوا يدرون من هم :هل هم ميراث المواطن الترامي الاستثنائي؟ أم رجل الآعمال السيرامي الشهير؟ ام ذلك الرجل الفلوسامي الصالح الأب الحنون والزوج الطيب؟ والأدهى من ذلك أن الابن طالب بحقوقه من بث المسلسل وهي بالملايين- كما قال- ولعل مشاغلكم سيدي الهتكم عن متابعة تلك الحوارات  الفارغة ولكن في فلوساما لاتكف آلة الدعاية عن بث سمومها  ولكن للأسف فإن الحديث تم تداوله بكثرة في أوساط الجواسيس الصغار الذين تظاهروا بالاخلاص في التدريب لحين زرعهم في معسكرات الاعداء  وبعد ذلك يتنصلوا من كل مسئولية تجاه وطننا العظيم تراما بل والادهى أن بعضهم باع أسرارنا لصيادي الجواسيس الاعداء ليتمتعوا بكل تلك المتع الرأسمالية الزائفة.

ود نجوان كثيرا لويربت على كتفها مواسيا لمّا رأى في تلك العيون الترامية المميزة لمعة الغيرة والحماس الثوري النقي ولكن كيف حدث هذا وكيف تحركت كفه لتستقر بحنو على جانب عنقها الناعم وكيفت أمالت هي بانوثة رأسها حاضنة تلك الكف الباردة. هولا يدري!

أغمضت هي عينيها فتذكر هو من يكون؛ تململت يده مبدياً رغبته في سحب ماتداخل منه في عالمها ؛ أدخل  يده الخجلى بسرعة في جيب بنطاله أعتذر منها بكلمات مبهمة أومأ لها بالرجوع لأخذ حاجياته، بينما يرتدى حذاءه منحنياً امامها – وكانت تراقبه صامتة- تكثف داخله ذلك الشعور بالسخافة والضآلة وتمدد كسماء سوداء كابية لامهرب منها؛ رغمًا عنه خرج صوته مسرسعاً مهزوزاً :

اذهبي انت الآن.سوف أتمشى وحدي قليلا.

سيارات متقطعة كانت تمر بشارع الثورة ، أخذ اليمين عند تقاطعه مع شارع تروتسكي ؛ من بعيد لمح تمثال الوحدة الاحمر وتواردت خواطره كجندول يبحر بنعومة بين انقاض مدينة قديمة سحرها غامض، بدا المنجل كبيرا جدا والمطرقة تقطعه بانسجام، ليت الحياة تسير بذلك الانسجام، جميلة هي الكلمات والمبادئ عندما تتراص بنعومة على سطح ورقة بيضاء، وماأغلظها عندما تتشكل أفعالاً متناقضة بفعل تفاوت الافهام و تقديم المصالح الشخصية – كان كادراً مخلصاً بسيطاً ارتقى في الحزب بعرقه وتفانيه ومازال بداخله الايمان شاباً- وعلى نسمة ناعمة مست سطح النهر البارد قبل ان تلف ملامحه ببرودة محببة هلت صورة البنت وطفا على السطح انهياره السريع أمامها وأحس بالبرودة تسري في كفه الذي مازال محتفظا به في جيب بنطاله كان سعيداً ومهزوما لا يذكر آخر مرة حدث له ذلك لعلها عشرون عاما أو أكثرً، ذلك التوقد المفقود والدم يجري بعنف يوقظ القلب السليب في متاهات الروتين اليومي.فكر بأن يظل يمشي هكذا سارحًا في أفكاره الى الأبد، القلب ينبض والروح فائرة ولاحدود تحد.

في الصباح الباكر جاءه اتصال على الخط الخاص من سكرتير الرئيس:اجتماع عاجل الآن.

ارتدى قميصًا ابيضًا ولم يغير بنطاله وارتدى الجاكت الطويل، لم ينم اطلاقا كان بدا متعبًا و أكبر من سنه ومايزال منتشيًا من مغامرة الأمس ،عند وصوله لمبنى الرئاسة قام له السكرتير مرحبًا :

الرئيس مشغول قليلا ، ممكن تنتظر في قاعة الانتظارالحمراء.

ابتسم نجوان داخله كان فعلًا في حاجة لبرهة يرتب فيها افكاره وينتقى جمله؛ يعرف الرئيس ضيق الصدر عجول، طلب فنجانا من القهوة المحوجة ، اتجه للقاعة الحمراء  وكانت في آخر الممر الشرقي ؛ في طريقه كان هناك حارسان يعانيان وهما يحاولان تهداة الكلاب البوليسية الضخمة الي تحاول الفكاك من  مرابطها؛ عند اقترابه ازداد هياج الكلبان وانصاع لهما الحارسان ورآهم وهم يعدون نحوه، وتوقفت أفكاره  وخطواته نظر باستغراب للمدرب :

ممكن حضرتك تاتي معنا.

صامتا سار أمامهم وتوجه الموكب بعيدا الى جناح في آخر القصر ؛ هناك جعلوه يخلع كل هدومه ومابقي من هيبته،أخذوا ملابسه وأعطوه بدلة رياضية حمراء وبصرامة أمروه أن ينتظر.

انتظر طويلًا ولم يتحرك ، نبتت لحيته  وطال شعر رأسه عند الجوانب فنفر الشعر الأبيض، لم يتكلم لم يفكر ولم يتالم ، انتظر بصبر تلك الماكينة النظامية الروتينية  التي طالما آمن بها ان تصحح الخطا ويعود كما كان. الرجل القوي الذي تعهد اليه بالشدائد وبعد زمن فتح الباب وفتح باب الامل في قلبه ولكنه اغتيل في نفس اللحظة فمع فتحة الباب فوجئ بالبنت تُقذف في اتجاهه بفعل ايدٍ غاشمة، استقبلها وتألمت عظامه التي تيبست من السكون ، روعته هيئتها ، وجه منتفخ محمر وملابس ممزقة وشعر هائش وحافية كانت تبكي في حضنه من الذل، خلفه أغلق الباب سنان ، كبير صياد الجواسيس ، الترامي المرعب، وضع رجلًا على رجل وتكلم بتنغيم لين  متقطع مستفز:

تاخرنا عليك كثيرا يازميلي.

والقى على الارض بعدة لقطات مكبرة للبنت وهي تحضن كف رسلان برأسها وتغمض عينيها.

انت يازميلي من دون كل الناس تخون تراما، تأتي بك تلك البنت  السيرامية التي زرعوها وسط بيت جواسيسنا توقع بك وتقنعك بان تاتي الى هنا مقر الحزب ، أمل الكادحين  محملًا بجاكت ممتلء بالكاميرات والميكرفونات الدقيقة .. انت وتلك القذرة تخون وطنك.. ولا تكشفك سوى الكلاب الذين هم اكثر وطنية منكما.

بعينان تفجر الدمع منهما استقبل نجوان الخبر، سابت يداه وتهدلت فترك البنت التي انتفضت انتفاضة مجنونة وهي تهجم على سنان صارخة بهستيرية:

لست سيرامية انا ترامية اصيلة انا بنت البطل رسلااااااااان.

 

 

 

مقالات من نفس القسم