(كثيرًا ما يميل النقاد اليوم، والقراء كذلك إلى قراءة القصص قراءة تحليلية، فقد تمرسوا فى كلياتهم، أو فى مجتمعاتهم، على أن ذلك هو المنهج الصحيح للقراءة، الناس تحلل وتمارس النقد على النصوص من وجهة نظر أكاديمية أو سيوسيولوجية، أو تحليلنفسية.
إذا حاول الروائى أن يبنى حكايته مقتضيًا بأى نوع من أنواع التحليل تلك، سيفقد الحيوية الكامنة فى قصته، ولن ينشأ أى شغف بين الكاتب والقارئ).
كانت هذه الفقرة من كلمة (موراكامي) أثناء تسلمه جائزة (هانز كريستيان أندرسن) وترجمها (أحمد ليثي) بجريدة (القاهرة) .. تضعنا هذه السطور أمام فرضيات محددة: إما أن (هاروكي موراكامي) ـ وهو احتمال مستبعد! ـ لم يقرأ (دوستويفسكي)، (كافكا)، (كونديرا)، (ساراماجو)، (باموق)، (مياس)، (أوستر)، (هيسه)، (مارياس)، والقائمة لا تنتهي من الروائيين الذين بُنيت حكاياتهم على التحليلات التي تفضل بذكرها السيد (موراكامي) ونشأ كثير من الشغف بينها والقراء (لو امتلك السيد “موراكامي” تحديدات أبدية قاطعة من الاختلافات بين هذه التحليلات الروائية، والتحليلات النقدية الأخرى التي يمكن أن تنجم عن قراءتها فإن هذا سيكون أكثر بؤسًا من عدم قراءة هؤلاء الكتّاب) .. أو أن صاعقة طارئة، وغريبة من النسيان قد ضربت ذهن (موراكامي) فجأة، وشيّدت ظلامًا صلبًا منعه من التذكر أو الانتباه إلى الأسس الجمالية التي اقترنت بأعمال هؤلاء الروائيين كالتأويل الفلسفي (أو ما يُعرف أحيانًا بالمقال أو البحث الروائي)، التأمل النصي أوالتخييل الشارح والمفسّر لما وراء السرد ( Metafiction)، التحليل النفسي (الاستطرادات أو التدخلات التشريحية للاوعي، وللميول والدوافع الجنسية مثلا) .. ذلك ما يمثل الخبرة التي لا يمكن نسيانها، ويمكن النظر إليها كقراءات استباقية للرواية يؤديها الروائي نفسه داخل المتن السردي قبل أن يتكفل الناقد أو القارئ بهذه المهمة .. الفرضية الأخيرة ـ وهي التي أراها ممكنة للغاية ـ أن (هاروكي موراكامي) تعمّد أن يتغافل عن هذه المعرفة لصالح ثأر شخصي من النقاد الذين لا يحبون أعماله ـ وبالصدفة! ـ لنفس الأسباب التي تقف وراء عدم إعجاب بعض القراء العرب بها، ويمكن اختزالها ربما في (الغواية التي لا تدخر شيئًا) .. ما الذي يمكنه أن يدعم هذه الفرضية؟ .. لنقرأ هذه الكلمات لـ (هاروكي موراكامي) في السياق ذاته:
(غالبًا ما نرى أن الأعمال التى يتعامل معها النقاد، لا يحبها الناس كثيرًا، لكن فى أغلب الحالات يرجع ذلك إلى أن القراء عندما يقرأون تحليل هذه الأعمال، يكون ذلك فشلًا ممتازًا للفوز بشغف الناس).
إذن يمكن تلخيص الأمر في أن (موراكامي) قرر استخدام حكم كلي ساذج ـ بصرف النظر هل يصدقه حقًا أم لا ـ لتصفية الحساب مع خصومه في معركة الكتابة، مراهنًا على ذلك الكليشيه الذي لا ينبغي أن يخسر أبدًا (شغف الناس) .. أن يضع هؤلاء (الناس) بشغفهم المقدس بينه والنقاد كجدار عازل دون إدراك ـ أو دون رغبة في الإدراك ـ أن المعيار الزائف الذي يستند إليه سيجعل من غياب هذا الجدار حضورًا أفضل لموقعه في تلك المواجهة.
هل (الشغف) هو المسمى الأكثر أناقة لـ (تربية الأوهام عن المخبوءات الثمينة)؟ .. هل (الفشل الممتاز للفوز بشغف الناس) هي الصياغة الاكثر تعتيمًا على (الغواية التي لا تدخر شيئًا)؟ .. أعتقد أن (موراكامي) يطارده أحيانًا الشعور بحتمية الدفاع عن (لا أعرف) التي يرددها كثيرًا.
إذا كان من البديهي قبول الاستياء أو حتى الكراهية التي يمكن أن يضمرها (هاروكي موراكامي) للمخصيين من النقاد، ضيّقي الأفق، ومعدومي البصيرة ـ خصوصًا من الأكاديميين ـ الذين يتعاملون مع كتابات الآخرين كفرص كريمة للانتقام من عذابهم الخاص؛ فإن التعميم الرخيص الذي لجأ إليه (موراكامي) جعله ظلا لهم من حيث أراد أن يكون مطرقة تُعدّل أدمغتهم.
لو أن (هاروكي موراكامي) يؤمن فعلا بما قاله في تلك الكلمة؛ أتصور أن استفهامًا ضروريًا يمكن أن يُخلق الآن: ماذا لو أن شخصًا ما قرأ (كافكا على الشاطئ) واعتبرها محض هراء ـ هذا الشخص موجود بالفعل، ويمكن العثور على نسخ عديدة منه عند تصفح المراجعات المكدسة في مواقع القراءة .. شخص قرأ الرواية دون تحليل أو تنظير أكاديمي أو تأويل سوسيولجي أو تحليل نفسي بحسب (موراكامي) ثم لم يشعر بـ (الشغف) بل قرر أنها محض هراء .. هل سيكره السيد (هاروكي موراكامي) تحقيق الاحتمال القائم طوال الوقت بأن يضيء تحليل ناقد ما لهذا القارىء ممرًا داخل ما يعتبره هراءً ليعبر من خلاله نحو اكتشاف ملهِم، لم يكن من الممكن الوصول إليه بطريقة أخرى؟ .. أن يمنحه التأويل ذلك (الشغف) المفقود بالرواية، أم أن (موراكامي) يفضّل أن يكون محض هراء في وعي هذا القارىء مهما كان احتفاء العالم برواياته، وحتى لو وصل الأمر أن تأكل الغيرة قلب (جوان رولينج) نفسها من شعبيته؟.
ليس لهذه الكتابة عن الاستعراض السمج لـ (موراكامي) علاقة برأيي في أعماله، ولكن يمكنني القول بأنني واحد من هؤلاء الذين يمكنهم أن يساعدوا شخصًا ما على اكتشاف أن (كافكا على الشاطئ) ليست محض هراء.